مقالات مختارة

الكساسبة ومسار الأحداث

1300x600
أحياناً يكون لأعمال العنف الفردية طابع مفصلي له ما بعده، محدثةً أثراً بالغاً في مجرى التاريخ، وقد شهدنا هذا الأمر عندما أدى اغتيال الدوق فراندز فيرديناند إلى سلسلة من التحالفات، التي انتهت بإشعال فتيل الحرب العالمية الأولى، كما عايناه في إقدام الشاب التونسي على حرق نفسه، متسبباً في إطلاق ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، ويبدو اليوم أن المنطق ذاته يُستخدم لتوصيف عملية الحرق البشعة التي قامت بها «داعش» ضد الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، ما دفع عضو مجلس النواب الأميركي، آدام كينزنجر، إلى القول بأن حرق الطيار الأردني يجب أن يكون حدثاً «مغيراً للعبة» بالنسبة لأوباما.

لا شك أن تنظيم «داعش» أخطأ التقدير، حيث يعكس ذبحه الأسيرين اليابانيين وذبحه للطيار الأردني حالة من اليأس والتخبط، وربما مؤشراً على السياسات الفاشلة. فهو لم يحصل على أموال الفدى التي كان يطلبها، بل أضاع فرصة التأثير عندما قتل الطيار الأردني قبل بدء التفاوض مع السلطات الأردنية، وكل ما ربحه في المقابل ردة فعل قوية مناهضة له في الأردن وباقي الدول العربية.

لكن هل ستكون لهذه الجرائم الوحشية التي يقترفها تنظيم «داعش» آثار ممتدة على مستقبله؟ يجب ألا ننسى الطابع المتقلب للرأي العام. فإذا كان هذا الرأي العام قد توحد مؤخراً في رفضه للتنظيم الإرهابي ومطالبته بالانتقام، فإنه كان قبل فترة وجيزة على مقتل الطيار الأردني يتساءل عما إذا كانت الحملة ضد «داعش» معركة الأردن بالأساس! ثم هل يمكن للدول العربية أن تقود جهوداً خاصة لمواجهة «داعش»، لا سيما في ظل الغضب الشعبي الواسع حالياً ضد التنظيم الإرهابي؟

بالنسبة للولايات المتحدة فإن وحشية «داعش» وإعلانه مؤخراً أن رهينة أميركية قضت في قصف للطيران الأردني، فقط تضيف إلى حالة الارتباك العامة الطاغية على الجهود الأميركية. وفيما عدا تقديم مساعدات إضافية إلى الأردن، لا يمكن توقع أكثر من استمرار استراتيجية ضرب «داعش» وضبط مكاسبها على الأرض في العراق، ثم المضي قدماً في خطة دعم الجيش العراقي لاسترجاع الموصل وباقي المناطق التي سيطر عليها التنظيم مؤخراً. لكن أي تغيير كبير في الاستراتيجية الأميركية ينطوي على نشر قوات أميركية ليس وارداً. ومع أن «داعش» يواجه مصاعب حقيقية بعد خسارته كوباني والبلدات المحيطة بها، وعقبات إحراز تقدم في العراق، ناهيك عن مشاكل ممارسة الحكم في المناطق التي يديرها، فالحقيقة التي ربما لا يريد البعض الاعتراف بها هي أن مناطق شاسعة في العراق وسوريا أصبحت مرتعاً خصباً لانتشار «داعش». فالفراغ الناشئ في السلطة، ومعه السياسات الطائفية والانقسام المذهبي.. كلها تغذي حضور التنظيم الإرهابي.

وفيما يتحدث أوباما عن استراتيجية تقويض «داعش» وتدميره، فالواقع أن الحرب مرشحة لتمتد فترة أطول. لذا تبقى جريمة حرق الطيار الأردني أقل قدرة على تغيير مسار الأحداث مما يقال، وإن كانت تعكس الوجه القبيح والسادي للعدو الذي نحاربه.



(نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية)