مقالات مختارة

الحاجة إلى إصلاح التحالف الدولي ضد «داعش»

1300x600
تبرز في الساحة الأمريكية أفكار ودعوات إلى إجراءات أكثر حسماً وحزماً وتمكيناً فعلياً لتنفيذ السياسة التي أعلنها الرئيس باراك أوباما للقضاء على «داعش» ضمن استراتيجية متكاملة وهيكلية مدروسة بعيداً عن اعتباطية الرد وهفوات التردد. كثير من كبار العسكريين الذين شغلوا مناصب كبرى سابقاً بدأ يتحدث علناً عن «فشل» الولايات المتحدة في إلحاق الهزيمة بـ «القاعدة» و «داعش» و «طالبان» في أفغانستان وباكستان وغيرها من التنظيمات الراديكالية الإسلامية، بسبب سياسات وقرارات السلطة التنفيذية لا سيما في عهد أوباما. بعضهم يتحدث عن الحاجة الى «حلف أطلسي عربي» ويؤكد على مركزية الشراكة الأمريكية الفعلية مع مثل هذا الحلف لأن ذلك في المصلحة القومية الأمريكية، وإلاّ -حذّر أحدُهم- فإن خطر «داعش» و «القاعدة» و «الراديكالية الإسلامية» آتٍ إلى عقر الدار الأمريكية.

السيناتور الجمهوري، رئيس لجنة الخدمات العسكرية في مجلس الشيوخ جون ماكين يربط بين تحقيق هدف القضاء على «داعش» وبين تبني إدارة أوباما موقفاً واضحاً ضد الرئيس السوري بشار الأسد وحليفه الإيراني. يقول إنه على المدى القصير، لا مناص من إنشاء «مناطق حظر الطيران» في سوريا مع تصعيد جدي في العمليات الجوية بمشاركة «قوات خاصة» على الأرض، تعزز إمكانيات المحاربين ضد «داعش» وضد النظام في دمشق. وعلى المدى البعيد، يرى ماكين أنه لا بد من إنشاء «قوة عربية»
في سوريا والعراق «بمشاركة أمريكية» واسعة جواً ومحدودة براً هدفها تعزيز قدرات القوة العربية. ويوضح أن أية مشاركة إيرانية في الحرب على «داعش» في سوريا «مرفوضة» بسبب «التحالف المدنّس» (unholy) بين إيران وسوريا، وأية موافقة أمريكية على ذلك هي «غير أخلاقية». الغائب عن الحديث الأمريكي حول كيفية إلحاق الهزيمة بـ «داعش» هو الحاجة إلى استراتيجية شبه استباقية في اليمن وليبيا، اللتين تتحولان إلى أرض خصبة لإنماء الراديكالية الإسلامية بمختلف أنواعها. الحاضر هو استمرار الامتناع عن القيادة الجدية، وذلك ليس فقط بسبب مواقف وشخصية وفكر الرئيس أوباما، وإنما أيضاً بسبب الانفصام في الرأي العام الأمريكي وفي الشخصية الأمريكية.

الرأي العام العربي ليس أقل انفصاماً أو كسلاً من الرأي العام الأميركي والأوروبي، لكنه أكثر حدة. اليوم، لقد شاهد العالم بربرية مقرفة مدروسة – تم اخراجها في شريط فيديو رفيع المستوى تقنياً – تمثلت في إحراق «داعش» الطيار الأردني الشاب الأسير معاذ الكساسبة حياً. اليوم، تجتاح الأردن والدول العربية والإسلامية موجة غضب شديد وذهول أمام بشاعة الجريمة والفكر «الداعشي» الذي يشكل خطراً وجودياً على الدول العربية.

الغضب لا يكفي، لأنه عابر. يجب أن ينهض العالم العربي والإسلامي ضد «داعش» وأن يكف أولئك الذين يعتبرون التنظيم الرد الطبيعي على التطاول الإيراني في المنطقة العربية، وأولئك الذين ينظرون إلى «داعش» بأنه أداة الرد على الإقصاء الشيعي للسنّة في العراق. عدا ذلك لن يكون سوى استثمار في إحراق الروح العربية والمبادئ الإسلامية.

مثل هذا النهوض يستلزم سياسات دولية وإقليمية ترافقه كي ينجح، بل كي يحصل. وهذا يتطلب الكثير من الإصلاح لـ «التحالف الدولي» ضد «داعش» – الذي تقوده الولايات المتحدة – بدءاً بكف الرئيس الأمريكي عن تجنب القرارات الدولية وارتكاب هفوات وأخطاء التردد والتملص من استحقاقات الساعة.

الرئيس أوباما قال إن ذلك العمل الوحشي «سيضاعف يقظة وتصميم التحالف الدولي لضمان الهزيمة الكاملة للتنظيم». والسؤال هو: كيف سيترجم الرئيس الأمريكي هذا التعهد والتصميم بصفته قائد التحالف. فأقطاب التحالف عاتبون على باراك أوباما بسبب مواقفه السياسية الرافضة الوضوح والخالية من الاستراتيجية، كتلك التي تنص على ضرورة رحيل بشار الأسد إنما بلا خريطة طريق ولا استعدادات عملية لتنفيذها. عاتبون أيضاً بسبب النقص في الاستعدادات العسكرية الأمريكية العملية في إطار التحالف.

دولة الإمارات العربية علّقت عملياتها الجوية ضد «داعش» وطالبت الولايات المتحدة بحماية أكبر للطيارين في حال سقاط طائراتهم وذلك عبر نقل المعدات الأمريكية للبحث والإنقاذ من الكويت إلى شمال العراق. وهي على حق بذلك.

الأردن سيحتاج أكثر وأكثر بعد إقدام الملك عبدالله الثاني على الأمر بتنفيذ حكم الإعدام بساجدة الريشاوي التي طالب «داعش» بإطلاق سراحها مقابل الطيار معاذ الكساسبة في الوقت الذي كان أحرقه حياً قبل شهر.

بعض العشائر الأردنية في البداية، وعندما أعرب الأردن عن استعداده لتبادل الأسرى، طالبت علناً بانسحاب الأردن من التحالف الدولي ضد «داعش» على أساس أن هذه ليست حرب الأردن. بعد نشر الفيديو، نهضت العشائر الأردنية بما فيها والد الطيار الشاب، داعية إلى الانتقام وداعمة لقرار الملك عبدالله بتنفيذ الإعدام شنقاً والاستمرار في التحالف.

الأرجح أن «داعش» سيوسّع حلقة الانتقام وسيصعّد ضد الأردن. الأرجح أيضاً ان الأردن سيستأنف المشاركة في الغارات الجوية للتحالف على «داعش»، بعدما كان علّقها في أعقاب أسر الطيار الأردني. كل هذا سيتطلب من أقطاب التحالف، وبالذات الولايات المتحدة، إجراءات فعلية ومتطورة لتحصين الأردن. لعل اليابان ستكون من أوائل الدول التي ستقدم الدعم للأردن بعدما أعدم «داعش» ذبحاً الصحفي الياباني كينجي غوتو، الذي ربط «داعش» بين إطلاق سراحه وبين إطلاق سراح ساجدة الريشاوي ، وافق الأردن على إطلاق سراحها مقابل إطلاق سراح الأسيرين الياباني والأردني، شرط إثبات أنه على قيد الحياة. ولم يكن.

إذن، من المتوقع أن تكون هناك مراجعة شاملة وجدية لعمل التحالف الدولي في أعقاب الذبح والإحراق هذا الأسبوع، فلقد بات واضحاً ان الغارات بمفردها لن تحقق الهزيمة الكاملة لتنظيم «داعش»، وأن لا مناص من استراتيجية سياسية وعسكرية جوية وبرية، أوسع وأوضح.

الأجواء الشعبية الدولية والعربية باتت اليوم أكثر تقبلاً لإجراءات أكثر صرامة وحسماً لوقف بشاعة الجريمة، التي انتقلت من الذبح إلى الحرق حياً بتصعيد مقصود ومتعمد من طرف «داعش» لاستدعاء الاستنكار، كما لاستدعاء المتطوعين في صفوفه، كما لاستدعاء الانخراط الأوسع للولايات المتحدة في الحرب ضده، ربما، إذا قرر قتل الرهينة الأمريكية لديه، فهذه الرهينة الأمريكية الشابة ابنة العشرينات تؤثر جداً في القرار الأمريكي ونوعية الإجراءات الأمريكية.

ذبح الصحفي الياباني وإحراق الطيار الأردني يشكلان تحدياً سافراً لأعضاء التحالف وللتذبذب الأمريكي السياسي والعسكري. والكلام الذي يتم تداوله رداً على ذلك لا يقتصر على تصعيد العمليات العسكرية للتحالف، وإنما يشمل أيضاً آفاق التفاهمات الممكنة -والمستحيلة- بين الولايات المتحدة وروسيا حول الساحة السورية. كما يشمل البعد الإيراني النووي والإقليمي في الحسابات الأمريكية، علماً بأن إيران تلعب دوراً مباشراً عسكرياً في سورية لصالح النظام وبقاء بشار الأسد في السلطة، وان النظام في دمشق يسوّق نفسه بأنه الشريك العضوي للتحالف في الحاق الهزيمة بـ «داعش».

من الناحية العربية، تعكس مواقف أطراف التحالف توافقاً ملفتاً، بل ومواقف مشتركة مهمة بين الدول الخليجية ومصر والأردن. وهذا يشكل نواة تفكير في تلك «القوة العربية» التي لا بد من النظر فيها عاجلاً أم آجلاً.

من الناحية الدولية، عادت المعادلة بين الولايات المتحدة وروسيا تطفو في الاعتبارات الإقليمية والدولية، فمحاربة «داعش» في سوريا، ظاهرياً، تبدو موضع توافق أمريكي – روسي، لأن البلدين يعتبران «داعش» عدواً. أما الإجراءات الضرورية في الاستراتيجية الأوسع التي تتطلب التخلي عن بشار الأسد لحشد الحملة ضد «داعش»، فإنها تصطدم بحائط العلاقة الأمريكية – الروسية وما تتطلبه التفاهمات بينهما.

والسؤال المطروح اليوم هو: ماذا تريد روسيا التي تقف حالياً في مواجهة مع الغرب في أوكرانيا وتتهم الولايات المتحدة والسعودية بـ «تجويع» الشعب الروسي بسبب تخفيض أسعار النفط؟ ما هي مطالب الرئيس فلاديمير بوتين الذي يدرك جيداً مخاطر «داعش» عليه في عقر داره وفي جيرته المباشرة؟ وهل هو جاهز لنوع من التأقلم مع الاحتياجات داخل سوريا لجهة مصير بشار الأسد كي ينجح التحالف الدولي في إلحاق الهزيمة بـ «داعش»؟ أم هل هو مصرّ على التمسك بالرئيس السوري تحت أي ظرف كان وبأي ثمن؟

وما هو الثمن الذي يريده فلاديمير بوتين؟ ما هي مساحة التفاهمات والمقايضات؟ أهي حصراً في إطار الاعتبارات الاستراتيجية والقومية، أم إن أسعار النفط وتأثيرها الفعلي والمؤذي لروسيا ستؤدي إلى إعادة النظر وإلى نوعية أخرى من المفاوضات والمقايضات؟

هذا يعتمد على مدى التهديد الوجودي الذي تشعر به روسيا. حتى الآن، لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا الدول الأوروبية تعتبر تهديد «داعش» وجودياً لها. لذلك قد تتلكأ. وإذا تلكأت، ستجد تجاوباً معها من «داعش» الذي سيعتبر التلكؤ تأشيرة له لحصر نشاطاته التدميرية والبربرية في الساحة العربية.

لذلك فالأصوات التي تبرز في الساحة الأمريكية محذّرة من العواقب على الداخل الأمريكي إذا استمرت السياسات المتلكئة والمذبذبة إنما تقرع ناقوس الخطر الذي تريد الأكثرية الشعبية حمايته، وتود الإدارة الأمريكية تخفيف وطأته إلى حين الانتهاء من المفاوضات النووية مع إيران.

ولذلك أيضاً، فالأصوات المؤسسة العسكرية «المتقاعدة» في الكونغرس، التي تعتبر أن التراخي مع إيران، نووياً وإقليمياً، يهدد استقرار الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية، إنما تشكل مقدمة إلى ما هو آتٍ في حال فشل المفاوضات النووية. فهذه الأصوات تذكر أن لدى الولايات المتحدة أدوات فرض الحصار الاقتصادي على إيران، في حال فشل المفاوضات النووية، ولديها أيضاً أدوات إفشال التدخل الإيراني في سوريا – المباشر وعبر «حزب الله» – لتقليم أظافر الأيدي الإيرانية الممتدة لتنفيذ الطموحات الإقليمية.

مرحلة صعبة هي تلك الآتية إلى المنطقة العربية قريباً، لكنها ليست مرحلة انتصارات الراديكالية الإسلامية بأي من وجوهها المذهبية.



(نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية)