قضايا وآراء

ملك ينام نومًا أبديّا وأمة تنام مؤقتًا

1300x600
"نام كثير من العرب والمسلمين في دول كثيرة قبل منتصف ليل الخميس الماضي بتوقيت نجد والحجاز المسماة ظلماً بالمملكة العربية السعودية، واستيقظوا على أحسن تقدير لصلاة الفجر. لم يعرفوا بخبر الوفاة، الرسمي للملك عبد الله بن عبد العزيز، ذلك أن الرجل كان متوفى إكلينيكياً، وربما وفاة كاملة منذ أيام على الأقل. وقبل أن يعرف المعنيون بالثورة المصرية خبر الوفاة عرفوا خبر تعزية جماعة الإخوان المسلمين، عبر موقع إخوان ويب، بل بتأبينها ودعائها بالرحمة والمغفرة للراحل..

تعصف بالذهن أفكار شتى حول الوضع الحالي في العالم العربي الإسلامي، وردود فعل النخبة المفترض إنها مثقفة، عوضاً عن فئة الحُكام، والأدهى الثوار الذين يريدون عودة الدول التي ينتمون إليها إلى الحضارة ومسيرة الألق والبناء، وكفى سنوات النوم العميق التي مرت بها، وفي المقابل فإنهم حاربوا وما يزالون قوى الرجعية والهدم ممثلة في صفوف متراصة من الحكام بداية من الحكام المباشرين لدول ثورات الربيع العربي وصولاً لمن "تمترسوا" وراءهم وعلى رأسهم الراحل عبد الله بن عبد العزيز.

دوائر من التفكير مرت بي صباح الجمعة.. واشتبكت في الذهن، فمهد الإسلام وحاضنته الأولى تُحكم بالملك العضود، وصدقت يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم، إذ أخبرت بالأمر، وبشرت بعودة العدل إلى الأرض بداية من البلاد التي ولدت ونشأت وبلغت دعوتك الدنيا منها، ولكن حاكم المملكة حرص على إبادة الثوار في مصر وفي غيرها من دول الربيع العربي، غير مواقفه غير "الموفقة"، أو "الشريفة" إن شئنا الدقة مع دول تنتمي للإسلام.

وهكذا صار لدينا صباح الجمعة فريقان من الناس تجاه وفاة حاكم المملكة..

كاتب البيان المتصدر لمواقع الأخبار والتواصل الاجتماعي المؤبن للراحل استبق الجميع وكتبه باللغة الإنجليزية ضارباً بكل قواعد العقل والفهم بل المنطق عرض الحائط، ومذكراً بموقف رأيتُه رأي العين وعاصرته بنفسي، إذ كنت في عمرة في أيام حكم الراحل عبد الله بالتحديد في المدينة، وفي درس بين المغرب والعشاء انبرى مواطن سعودي ليسأل الشيخ المحاضر: هل علي من إثم لو لم أبايع الملك عبد الله؟!

كان السؤال يبدو عابراً، ولكن يبدو أن "الشيخ" اشتم فيه رائحة غير عادية فانبرى على الفور ليقول: بل إن الأمة الإسلامية كلها ينبغي عليها أن تبايع الملك حاكماً.

هكذا دفعة واحدة "الامة".. وحاكماً لها.. ولم يوضح الشيخ مكان مبايعة الصعيدي المصري، وساكن الخرطوم، والتركي، والقوقازي، والأوربي، والصيني، والجزائري وهلم جراً لعبد الله، وما موقف "دولهم" منهم لو إنهم فعلوا و"بايعوه" بالفعل! 

كاتب بيان الإخوان "الإنجليزي" فعل ما هو أكثر وأمر وأدهى..

وأثبت أن الجماعة بها ممن يتحدثون و"يكتبون" رسمياً باسمها من هم أشد عليها من أعدائها، وأشد غباء من الانتماء إليها أو إلى الثوار، وفي مثل هذه الورطات، ولا أقول السقطات السياسية التي يحار العقلاء في فهم كنهها.. ومتى تم التدبير لها بين ساعات قليلة جداً من الوفاة ونشرها؟ وما قيمة مثل هذا العزاء، سياسياً، حتى في ذهن كاتبه، والمفترض أنه قيادة "إخوانية ملمة بالإنجليزية".. ولولا أن الملك الآن في رحاب الله لقلت كثيراً حول المال الذي أنفقه ببذخ لقتل المصريين، والإعانة على إصابة أكبر عدد ممكن منهم، ومطاردة من يعدون بمئات الآلاف، وللحقيقة فإن "الخوض" في غمار هذا الأمر هو لبُّ الحديث حول الفريق الثاني الذي سأتناوله بعد قليل.

ويبدو أن كاتب التأبين الذي ذيله بسؤال المولى الرحمة والغفران للراحل قرأ المشهد على أن الملك سليمان الجديد، ولا أدري كيف سُيكتبُ اسمه على هذا النحو وهناك نبي من أنبياء الله كان ملكاً بالفعل، لا بالألقاب.. وهو "سليمان بن داود"، وسليمان بن عبد العزيز مسماً  باسمه؟! المهم.. يبدو أن كاتب التأبين استبشر خيراً في الحاكم الجديد للمملكة فأراد "أسره" بجميل يجعله يشعر بالحياء قبل أن يمضي في دعم الانقلاب، ولعله ظن أن التغيير من عبد الله لسليمان سيجعل الانقلاب ينهار، كما انبرت بعض الأصوات بالفعل.. وبعضها منتمٍ لما يعد نخبة، وفي الأمر تسرع للغاية، مع ظن أن عزاء عبد الله والدعاء له يغير في موقف الحاكم الجديد، مع حقيقة أن حاكم المملكة الحالي لن يخرج عن إطار نظام عالمي، إلا أنه يبقى أمر: حتى إن صح الخاطر عن توجه سليمان الجديد .. فلا يلزمك أن تمدح إليه عبد الله بما فعل.. لتشعره إنك راضِ عنه ولو ذبحك!

الفريق الثاني من "بني جلدتنا" العرب وبخاصة المصريين أطلقوا العنان لألسنتهم بالخوض في الملك الراحل، وإظهار الفرح بموته، بل استفتوا من علماء الدين من قارب إباحة الامر لهم.. وهو للحقيقة أمر لا يرضاه صاحب شرف مع "ميت" قدم إلى الله تعالى، وسبحانه أدرى بما قدّم وما يستحق عليه .. وقد صح إن رسوله الكريم قال لأصحابه بعد دخول "عكرمة بن أبي جهل" إلى الإسلام، وكان منهم من يسب أباه:

لا تسبوا الميت فإنه يؤذي الحي ولا يصل إلى الميت!

ويبقى أنه لا الفريق الأول كان موفقاً في التأبين والعزاء فيما يخص أمر الدنيا، ولا الفريق الثاني كان موفقاً في الحديث عن الراحل أيضاً فيما يخص ميت أفضى إلى ربه تعالى، فلا المدح يضيف إلى حسناته ولا الدعاء يقللها!