قضايا وآراء

الأندلس..قصة طمس بأيديهم وانبعاث بأيدينا

1300x600
"البحر من ورائكم والعدو من أمامكم"...

هكذا قال طارق بن زياد حين وطأت قدمه لأول مرة أرض الأندلس، أو هكذا يظن أغلب الناس.. هذا ما يعلمونه عن طارق وعن الأندلس، هذا ما يتعلمه أطفالنا في مدارسهم إذا ما تعلموه، هذا ما كتبه المؤرخون وتداوله المثقفون وشاركوه على مدوناتهم وصفحاتهم مقرونا ربما بكلمات عائشة الحرة مؤنبة ابنها أبو عبد الله الصغير على تسليمه غرناطة بعد زهاء ثمانية قرون.

وما بين مشهد الجنود الزائف وهم يتطلعون لهذا البحر خلفهم ومشهد أبي عبد الله البائس يلقي نظرته الأخيرة على غرناطة مودعا، يتوارى مجد نشأ على هذه الأرض وحضارة ترعرت وأينعت في جنبات قرطبة وسهول إشبيلية وجبال البشرات، تتوارى صفحات مضيئة من التاريخ بعد أن طالتها يد التزييف والضلال، مجلدات ضخمة يعلوها التراب فلا نجد من يزيحه عنها، بل نجد من – عمدا – يهيله عليها دافعا ما بها من تراث إلى ركن منزو في ذاكرة الإنسانية.

لقد استطاعت هذه الدولة الصغيرة نسبيا بمقاييس عصرها أن تتحدى عمالقة كان لهم قصب السبق في إشعال جذوة الحضارة. استطاعت أن تنازل حضارة الإغريق والرومان وتنتصر. وبينما كان العالم حينها يتخبط في ظلمات الجهل ويعاني من تسلط الكنيسة باسم الدين، كان المسلمون في الأندلس يسطرون أسماءهم بحروف من ذهب في كتاب قصة العالم، كانوا يرسمون لوحة راقية زاهرة الألوان لمستقبل يضم الجميع. 

وفي الوقت الذي غاب فيه الإبداع عن علماء أوروبا انبرى علماء الأندلس في ميدان العلم والحضارة يصولون ويجولون في كل المجالات من طب ورياضيات وفلك وكيمياء، وبينما كان جاليليو يجثو على ركبتيه طالبا الصفح من البابا معلنا تنصله من أفكاره كان في نفس العصر طبيبا موريسكيا يعالج الملك القشتالي فيليب الثالث.

هكذا لمعت أسماء الزهرواي وابن زهر وابن البيطار وابن رشد، صارت مؤلفاتهم هدفا للترجمة من قبل الأوربيين، تغيرت قبلة العلم إلى الأندلس وصارت طليطلة مقصدا لكل من أراد أن ينهل من أنهار المعرفة التي تدفقت لتروي ظمأ العالم المتعطش.

ثم انتهى كل شيء ...

هكذا بمنتهى البساطة التي انتقلنا فيها من السطر الأول للثاني، استطاعت أوروبا أن تنجز أكثر عمليات السطو إتقانا في التاريخ، استطاعت أوروبا النصرانية أن تمحو كلمة "الإسلامية" أولا ثم تبعتها "الأندلسية" واستبقت فقط على "الحضارة". استبقتها حكر لها، استبدلت أسماء مثل مايكل سرفيت بابن النفيس، وكوبرنيكوس بالبطروجي، ادعت بأن قسطنطين الأفريقي هو مؤلف ما أخرجه من كتب عديدة لا مترجمها، تناست ذكر أعلامنا في ذاكرة تاريخها وطمستهم وتعمدت فقط التوثيق لنقلتها ... تناست حتى استطاعت أن تنسينا وتسلبنا ذاكرتنا وتمحو تراث أجدادنا.

هكذا أصبحت "الأندلس" في يومنا هذا مجرد أرض فقدناها كما فقدنا غيرها، أرضا تنضم للنمسا وصقلية والمجر، ربما يقترن ذكرها على أفضل الأحوال باسم فلسطين. يروج لقضيتها جغرافيا فقط بينما تتجاهل كتب التاريخ عن عمد التطلع للمراجع العلمية والأدبية والالتحام بهما. يتعامل معها الجميع باعتبارها 500 ألف كيلو متر مربع وليس باعتبارها 500 ألف كتاب. 

هكذا صارت إشكالية الطمس مشتركة بين محتل مغتصب ومطرود مقهور، الجريمة جريمة من وصّف القضية وصاغ القصة بينما المسؤولية مسؤولية من رضي بهذا التوصيف وروج لهذه القصة. هذه القصة التي لو صاغها أدباء وشعراء الأندلس لأخرجوها على أكمل وجه، لكن كتابتها أوسدت لمن هم ليسوا أهلا للأمانة ولا كفئا لها بينما قراءتها وكلت لمن لا يجيد القراءة.

لقد طمست أسطورة الأندلس مرتين، الأولى حين وارى جسد غرناطة – آخر لآلئ الأندلس - التراب فسمح لكويكبات في الظهور بعد أن خبا نجمهم، والأخرى حين مر خمسمائة عام أصر فيهم من تبقى من أقمار لنا في الدوران في فلك هذه الكويكبات.

 أخطأنا حين صارت كلمة "الأندلس" تعني لنا النكبة لا العظمة، أخطأنا حين صار من يعلم منا عنها – وهم قليلون - لا يعلم إلا عن السقوط، ومن لا يعلم لا يريد أن يعلم. 

أخطأنا حين تصورنا أن الطمس هو نهاية القصة وأن الانبعاث وهم، فالانبعاث وإن تأخر قادم لا محالة. 

هكذا نحكي قصة أندلسنا لمن لا يعلمها وهم كثر .. قصة طمس بأيديهم وانبعاث بأيدينا ...

#الأندلس_طمس_بأيديهم_وإنبعاث_بأيدينا"