مقالات مختارة

لماذا ستفشل الحرب على تنظيم الدولة (داعش)

1300x600
كتب نافذ أحمد: إذا ما أردنا إلحاق الهزيمة بداعش علينا أن نستلهم العبر من التاريخ الحديث، ونتخذ قراراً حاسماً بتغيير الاتجاه، ونبحث بشكل جاد في أعماق ذاتنا عن دورنا نحن في خلق حالة الاضطراب التي يعشعش فيها التطرف
 
كثيراً ما ينسب خطأ إلى آينشتين القول بأن "الجنون هو أن تعيد فعل نفس الشيء مراراً وتكراراً متوقعاً الحصول على نتائج مختلفة". لا يتطلب الأمر ذكاء خارقاً لإدراك أن هذا القول ينطبق بالضبط على الحرب التي يشنها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد نمط جديد من الإرهاب الإسلامي في العراق وسوريا.
 
تكمن المشكلة في أن التحالف يبذل قصارى جهده حتى يمنى بالفشل، فقد فشلنا في إغلاق شبكات تمويل داعش، وفشلنا في مساءلة ومحاسبة الدول الراعية لداعش، وها نحن نفشل في حماية المدنيين من تداعيات القصف الجوي العشوائي، وفشلنا في التوصل إلى إستراتيجية طويلة المدى في المنطقة قادرة على الاستجابة للتظلمات التي تدفع بالناس نحو التطرف.
 ليست هذه الإخفاقات المتداخلة مجرد أعراض للقصور وانعدام الكفاءة، رغم وفرة الأدلة بالتأكيد على وجود الكثير من ذلك حينما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.
 
دعونا نبدأ بالتمويل. هناك اعتقاد شائع بأن كل مصادر تمويل داعش ذاتية وناجمة عن بيع النفط. هذا الكلام صحيح جزئياً فقط. من المحزن أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا عاجز عن فعل ما يلزم لإغلاق شبكات تمويل داعش وتجفيف مواردها بشكل تام ونهائي.
 
في مطلع شهر سبتمبر، وفي جلسة استماع عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، استمع المجتمعون إلى يانا هايباسكوفا، سفيرة الاتحاد الأوروبي في العراق، وهي تقول: “لقد اشترت عدة دول من أعضاء الاتحاد الأوروبي نفطاً من المنظمة الإرهابية التي تسمى الدولة الإسلامية (داعش)، والتي اجتاحت بوحشية أجزاء كبيرة من العراق وسوريا"، حسبما أورده موقع إسرائيل ناشينال نيوز. ولكنها "رفضت الكشف عن أسماء الدول المعنية رغم سؤالها عن ذلك عدة مرات".
 
كيف يمكن لمثل هذا الأمر أن يحصل؟ استولى المتطرفون الإسلاميون في شهر يناير من العام الماضي على معظم نفط وغاز سوريا، بحسب ما نشرته النيويورك تايمز، مما عزز الإمكانيات المالية للدولة الإسلامية في العراق والشام، أو داعش، ولجبهة النصرة، اللتان تعتبران كلاهما من تفريعات القاعدة. وشمل ذلك حقول النفط الحكومية في حلب ودير الزور والحسكة.
 
بعد ثلاثة شهور، صوت الاتحاد الأوروبي على تخفيف المقاطعة النفطية المفروضة على سوريا للسماح ببيع النفط في السوق الدولية، وهو نفس النفط المستخرج من نفس تلك الحقول التي باتت تحت سيطرة القاعدة وداعش. وبناء عليه سمح للشركات الأوروبية بشراء النفط الخام ومنتجات تكريره من هذه المناطق من خلال عقود يصدق عليها الائتلاف الوطني السوري. ونظراً للدمار الذي لحق بالبنية التحتية فإنه يجري نقل النفط براً عبر تركيا حيث توجد أقرب معامل تكرير النفط.
 
يقول جوشوا لانديز، والذي كان حينها خبيراً في شؤون سوريا في جامعة أوكلاهوما: “الخلاصة المنطقية لهذا الجنون هو أن أوروبا هي التي تمول القاعدة".
 
والآن، وبعد أن قرر الغرب أنه بحاجة لقتال داعش، كثر اللغط حول الهجمات الجوية الأمريكية على معامل التكرير وخطوط أنابيب النفط التي تقع تحت سيطرة داعش في سوريا، وذلك رغم أن الجزء الأكبر من نفط داعش يجري بيعه خاماً من خلال عمليات تهريب بملايين الدولارات في اليوم الواحد، وينقل ليس بواسطة خطوط الأنابيب وإنما بواسطة قوافل ضخمة من الشاحنات تعبر الحدود السورية التركية، وكذلك بواسطة صهاريج إلى الأردن عبر محافظة الأنبار في العراق، وفي الأردن يقوم المشترون تكريره.
 
وهذا ما دفع المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى انتقاد الهجمات التي تشنها طائرات التحالف الذي تترأسه الولايات المتحدة على معامل التكرير البدائية التابعة لداعش. يقول رامي عبد الرحمن الناطق باسم المرصد: “ما يسمى بمعامل التكرير هذه ليست هدفاً حقيقياً وضربها لا يضعف الدولة الإسلامية لأنها لا تمثل بالنسبة لها أي قيمة مالية.” هذه الأهداف ما هي ببساطة سوى شاحنات تحمل معدات لفصل الديزل عن البنزين للاستخدام المحلي من قبل المدنيين.
 
وكما أخبر أحد رجال داعش صحيفة الوال ستريت جورنال أثبتت الهجمات الجوية الأمريكية أنها أضعف بكثير مما كان متوقعاً. في تلك الأثناء، تستمر قوافل نقل نفط داعش في الانطلاق من سوريا إلى تركيا دونما إعاقة، ولذلك يتهم سياسيون أتراك وعراقيون كلاً من تركيا وحكومة إقليم كردستان في العراق بالسماح ضمنياً باستمرار خطوط التهريب التابعة لداعش.
 
لقد بات سراً معلناً أن تركيا، التي من المفروض أنها إلى جانب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ترعى داعش بشكل مباشر كوسيلة لسحق الجماعات الكردية المعارضة. فقط في الأسبوع الماضي أعربت كلوديا روث، نائب رئيس البرلمان الألماني، عن صدمتها لأن الناتو لم يتخذ إجراءاً ضد استضافة تركيا لمعسكر تابع لداعش في إسطنبول، ولتسهيلها نقل الأسلحة إلى المتطرفين عبر الحدود، ولدعمها لمبيعات داعش من النفط.
 
ولكن لا يقتصر الأمر على تركيا، فالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت كلها اتهمت في الماضي – بحسب تقييم سري لـ سي آي إيه ذاتها – بتمويل أعتى العناصر المتطرفة ضمن مجموعات الثوار في سوريا. وقد قاموا جميعهم بذلك بموجب برنامج عمليات سري للإطاحة بنظام الأسد بتنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
 
هذا القمع الذي ينساب من خلاله التمويل إلى الإرهاب اعترف بوجوده الكثير من المسؤولين بما في ذلك نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والجنرال جوناثان شو المساعد السابق لرئيس هيئة الأركان البريطاني، ورئيس المخابرات البريطانية إم آي 6 السابق ريتشارد ديرلوف.
 
إلا أن خبراء الحكومة الأمريكية في موضوع تمويل الإرهاب سلطوا الضوء بشكل خاص على الأدوار التي تلعبها كل من قطر والكويت لما يشكلانه من "دوائر متسامحة" حيث لا يجري تطبيق القوانين الموجهة ضد من يجمعون الأموال للمتطرفين. وبالفعل، فقد علمت من مصادر مطلعة في المنطقة أن جمع الأموال لصالح داعش مازال يجري وبشكل علني في المساجد المملوكة للدولة في كافة هذه الممالك الخليجية.
 
إذن، ذلك التحالف الذي يفترض أنه إقيم لكي ينهي داعش، دوله ذاتها هي التي أوجدت داعش ومازال بعضها مستمراً في دعمها، وعلى الرغم من ذلك ترفض الولايات المتحدة وبريطانيا ممارسة أي ضغط دبلوماسي أو مالي ذي معنى على الإطلاق على هذه الدولة لترغمها على تغيير سلوكها.
 
ثم هناك بالطبع حقيقة أن أوباما كان قد قرر في شهر سبتمبر تخفيف المعايير الصارمة المعروفة باسم "الاقتراب من اليقين" والتي جرى تبنيها في عام 2013 للحد من الخسائر في صفوف المدنيين. وهذا يعني أن الجيش الأمريكي بات بإمكانه استهداف "المناطق التي ينشط فيها الأعداء" بشكل عشوائي ودونما أي اهتمام بالخسائر التي يمكن أن يتكبدها المدنيون لمجرد أن مناطقهم تقطنها مجموعات إرهابية. وجاءت النتائج كارثية، وصفها ناشط مناهض لنظام الأسد بأنها "تدمير شامل لبيوت المدنيين نتيجة للقصف الجوي الذي تمارسه قوات التحالف الغربي".
 
المصادر في الميدان ما بين المدنيين والثوار تؤكد بأن القصف الجوي يغذي تعاطف الناس مع داعش ويزيد من سخطهم على التحالف. ومع ذلك، ورغم التقارير الموثوقة عن وقوع مجازر راح ضحيتها العشرات من المدنيين في أوقات مختلفة من عمليات القصف التي يقوم بها التحالف، إلا أن وزارة الدفاع الأمريكية تصر على أن أحداً من المدنيين لم يصب بسوء.
 
لابد من التنويه هنا بأن داعش نفسها ما هي بالضبط إلا نتاج نفس النمط من السياسات القاسية التي نفذتها من قبل في العراق الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت نتائجها مدمرة. قتل خلال العقود الماضية ما يقرب من 3ر2 مليون عراقي في عمليات القصف الجوي الشاملة التي نفذها سلاح الجو الأمريكي والبريطاني، وبسبب الحصار الاقتصادي الخانق وتداعيات الحرب على الصحة العامة على مدى عقدين. وهذه كلها أدوات تجنيد لا مثيل لها ومحفزات قوية للمتطرفين الإسلاميين بما يعانونه من اختلالات اجتماعية.
 
كل القصف والدمار الذي رافق "الحرب على الإرهاب" لم ينجم عنه سوى تمهيد الطريق أمام القاعدة لتنجب كائناً أشد عنفاً وأشد تطرفاً. وفي الوقت الذي تصاعدت فيه الحرب الجوية على داعش (وهي فعلياً تقوي داعش ولا تضعفها) زاد معدل عودة القوات الأمريكية والبريطانية إلى العراق، وهذه المرة تحمل هذه القوات معها رخصة لعمل ما تراه ضرورياً متمتعة بحصانة ضد المساءلة والمحاسبة، ومثل هذه الحصانة من العقاب على أي مخالفة – وهي أمر لم يتمكن حتى جورج بوش من منحه لقواته – تبرر بحجة أن هذه القوات إنما تقوم بأدوار استشارية أو مساعدة أو تدريبية. وفي العام القادم سيتوجه إلى العراق المئات من القوات البريطانية لنفس الغاية إضافة إلى تشكيل قوة حماية صغيرة من الجنود الجاهزين للقتال.
 
ما من شك في إن الحرب على داعش قد خسرت، وبينما تتافقم الأوضاع في المنطقة ويتلاشى الاستقرار، كما هو متوقع نتيجة لعدم وجود إستراتيجية أمريكية بريطانية ذات معنى، ستزداد داعش قوة، وسينتشر العنف الممارس من قبل الإرهابيين كرد فعل ضد الأهداف الغربية، وهذا بدوره سوف يصب مزيداً من الزيت على النار ويؤدي في نهاية المطاف إلى ردود فعل عسكرية من قبل مؤسسات صناعة القرار في الغرب.
 
إذا ما أردنا إلحاق الهزيمة بداعش علينا أن نستلهم العبر من التاريخ الحديث، ونتخذ قراراً حاسماً بتغيير الاتجاه، ونبحث بشكل جاد في أعماق ذاتنا عن دورنا نحن في خلق حالة الاضطراب التي يعشعش فيها التطرف.
 

(ميدل إيست آي)


الدكتور نافذ أحمد صحفي استقصائي ومحاضر في الأمن الدولي، وله عدة مؤلفات في مجال ما يسميه "أزمة الحضارة". يكتب في عدد كبير من الصحف والدوريات منها الغارديان والإندبندنت، وفورين بوليسي، ولوموند دبلوماتيك. له أبحاث في جذور وأسباب الإرهاب الدولي.