كتاب عربي 21

رياح التغيير.. والجيش أولا

1300x600
تجاوز حالة الفصام النكد التي حصلت بين الدولة العسكرية والمجتمع يكمن في إعادة النظر في  استمرار الجيش وما يدور في فلكه من قوى القهر والإخضاع (الأجهزة الأمنية والاستخبارتية)، وتأسيس الدولة على قوة أخرى تخضع للحق في إطار مؤسسي جديد.
 
فمنذ إعلان ما سمي بالاستقلال في البلدان العربية منتصف القرن الماضي، اتجه المنحى العام صوب الانقلابات، وتأسيس الدولة على أساس سلطة الإخضاع والقصر قوامها الجيش، والأجهزة الأمنية، والبيروقراطية (الدولة العميقة) لإحكام سيطرتها على المجتمع، وتكوين فئات مصلحية مرتبطة بالاقتصاد الريعي والاستهلاك.
 
قطعا لم يكن الاستقلال حقيقيا، فقد عمل الاستعمار  كما ذكرت الباحثة الألمانية حنه أرندت على تصدير أدوات السلطة السياسية الجيش والأمن إلى دول المستعمرات، من غير أي اهتمام يذكر بالمؤسسات المدنية والقوانين المنظمة للاجتماع، وهذا ما جعل العنف المطلق والمتفلت من كل أوجه الرقابة السياسية والتشريعية حالة ملازمة للدولة الأمنية والعسكرية التي تطورت  عقيدتها القمعية حتى وصلت إلى  مكافحة ما يسمى بالإرهاب، وأصبح شغل الدولة الشاغل.
 
لاغرو أن تدعم دول مجلس التعاون الخليجي في اجتماعها الأخير في الدوحة، ومن قبلها دول الجوار في السودان  قوى الانقلاب في ليبيا، فهي بذلك تقطع الجدل بشأن تباين استراتيجياتها في ليبيا، ثم  تطوي خلافاتها لتحدد موقفا واضحا يستمسك بالولاء لدولة الانقلاب، فدعمهم  لمجلس النواب المنحل بحكم المحكمة العليا يمثل غطاء سياسيا للعملية العسكرية التي أطلقها اللواء المتقاعد حفتر.
 
أما عن الأمم المتحدة ودعوتها إلى الحوار في ليبيا فما هي إلا مناورات سياسية تهدف إلى كسب مزيد من الوقت، كما حصل مع الثورة اليمنية لتمكين قوى الانقلاب من تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، لكن الوضع في ليبيا مختلف تماما، فالفوضى التي كان يعمل بها النظام السابق أحجية معقدة لايمكن لأحد أن يفك طلاسمها إلا فرد واحد هلك في الثورة.
 
وبالرغم من عدم إدراك كثير من المراقبين لحقيقة الصراع في ليبيا، ونجاح الآلة الإعلامية العربية والغربية في تصوير الصراع على أنه صراع على السلطة بين شركاء الثورة، إلا أن السياق يمضي خلاف ذلك، ويضع الثورة الليبية أمام فرصة تاريخية لرسم نموذج جديد في التخلص من العسكر والانطلاق صوب تنظيم القوة في مشروع جديد لبناء الدولة.
 
لا يمكن وصف الصراع في ليبيا على أنه صراع بين طرفين رئيسيين؛ الأول النظام السابق، والثاني قوة ثورية تتوحد ضد عودته، فالأمر مختلف تماما إذ إن الصراع يأخذ أشكالا مختلفة، ففي الشرق تحديدا في بنغازي تواجه بقايا الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية ثوارا بمرجعية إسلامية جهادية، وبقايا الجيش والأجهزة الأمنية والعسكرية تحركهم نوازع القبلية والغنيمة، فأغلبهم من أبناء الدواخل ويخوضون معركة بنغازي تحت شعار الحرب على ما يسمى الإرهاب.
 
وأما في الغرب الليبي فعملية فجر ليبيا جاءت ردا على محاولة انقلابية لكتائب قبلية، ويمكن تقسيم فجر ليبيا إلى فريقين، الأول: كتائب من مدينة مصراته اعتبرت أن السيطرة على العاصمة نهاية الصراع، والثاني: ثوار من المدن الغربية ومنها مدينة مصراته، وقد استمروا في القتال بعد تحرير العاصمة ضد ما يسمى جيش القبائل لإنهاء وجوده في المنطقة الغربية وتأمينها بما لايسمح بعودته إلى طرابلس بشكل نهائي.
 
وتلعب قوى مدنية من ناشطين وحقوقيين دورا فاعلا في دعم عملية فجر ليبيا بالخروج المستمر في مظاهرات شعبية كل جمعة في (مصراته وغريان والزاوية وطرابلس وصبراته) وقد استمر حراكهم لأكثر من تسع عشرة جمعة متوالية.
 
أمام عملية فجر ليبيا تحديات أبرزها تطوير العملية العسكرية إلى قوة منظمة تسحب البساط من المليشيات التي يحركها دافع الغنيمة، فقد أهدرت الأموال بشكل غير معقول، حيث يقدر إجمالي ما صرف للحكومات بعد الثورة  أكثر من 150 مليار دينار ولم ينجز بها أي شيء يذكر، و تم صرف ميزانيات ضخمة على ما سمي قوى الجيش والأمن وكان قصد الصرف إغراق الثوار في وحل الغنائم، أو دعم بقايا الجيش والشرطة تمهيدا للانقلاب وإجهاض التغيير.
 
إن نجاح المسار العسكري لعملية فجر ليبيا يبدأ من التفكير الاستراتيجي في القوة ودعمها والمحافظة عليها بالتنظيم، وحل كافة التشكيلات العسكرية التي تفكر في الانقلاب أو عودة جيش القبائل إلى العاصمة، ثم الاستفادة من الإنجاز العسكري في الجوانب التنفيذية الأخرى لتحقيق قدر كبير من التغيير وإنهاء سيطرة القبيلة والغنيمة على مقدرات الدولة، وإنهاء حالة المحاصصة التي أهدرت موارد الدولة.
 
تجربتان تاريخيتان تؤكدان أن النجاح العسكري يمكن أن يمهد لإجراء إصلاحات واسعة في الجوانب الاقتصادية والتعليم، فالتجربة الأولى حدثت في عهد الثورة الفرنسية بعد أن أضحى الجيش مدنيا، وتغلغت صفات الجيش المدني (الهوية الوطنية، والتقارب بين القيادة والجنود)  بمبادئ التجريد والعموم، و التي تقابل في عرفنا (الغنيمة والقبلية)، وهذا التطور انتقل تدريجيا إلى قطاعات الاقتصاد والتعليم.
 
والتجربة الثانية تطور مفاهيم الجودة في أوروبا وأمريكا بعد الحرب العالمية الأولى وانتقالها من القطاعات الحربية إلى الصناعية، فأحدث ذلك نقلة عظيمة في مجال الصناعات في العصر الحديث.
 
خلاصة القول: إن هدف الثورة هو التخلص من ثالوث سلطة الإخضاع (الجيش والأمن والبيوقراطية) التي تقف في وجه التغيير، وتأسيس الدولة على الهوية، و بناء سلطة الجدارة، وكل محاولات الإصلاح في غير هذا الإطار سترجع بنا إلى مربع اكتوبر 2011ِ أو مربع ما قبل الثورة.