بورتريه

المغربي الراحل باها.. رجل الحكمة والتوازنات والحوار

الراحل عبد الله باها - عربي21
وسط ذهول من هول الحادثة وغرابتها، نعى حزب العدالة والتنمية المغربي، وفاة القيادي ووزير الدولة، عبد الله باها، مساء الأحد، عن عمر ناهز 60 عاما، إثر حادث دهس قطار في مدينة بوزنيقة في الرباط، في المكان ذاته الذي توفي فيه القيادي اليساري أحمد الزايدي قبل شهر.

وأعلنت السلطات أنها باشرت تحقيقا فوريا، وأنها ستعلن نتائج التحقيق فور انتهائه.
 
تفاصيل الحادثة

عبد الله باها، كما يتحدث عنه أقرباؤه ومن خبروه، اعتاد على التحرك وحيدا مرتين إلى ثلاث في الشهر، بعيدا عن الجميع، دون مرافق، وهذه المرة في مساء الأحد، ركب برفقة ابنته في سيارته الخاصة، وتوجه بها إلى منزلها في مدينة الدار البيضاء، وبعد أن عاد إلى مدينة الرباط ليرتاح في منزله، وركب  سيارته دون أن يخبر أحدا بوجهته، التي كانت مدينة بوزنيقة، وتحديدا في جماعة الشراط، بغرض تفقد المكان الذي لقي فيه الراحل اليساري أحمد الزايدي مصرعه قبل أسابيع، بحسب ما قاله ابنه محمد أمين لـ"عربي21".

وأضاف أن هذه -حادثة الزايدي- تركت أثرا بالغا في نفس والده، وتفيد الرواية المتداولة حتى الآن أن الراحل كان يطالع مكان وفاة الزايدي قبل أن يدهسه القطار القادم من مدينة الدار البيضاء في حدود الساعة السادسة، كما صرح بذلك نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، سليمان العمراني، والراجح أن الحادثة وقعت قبيل الساعة السادسة بدقائق، ذلك أن القطار الذي دهس باها تحرك من محطة "الدار البيضاء الميناء" في اتجاه الرباط، في تمام الساعة (5:05 بالتوقيت المحلي)، وفق أحد الصحفيين الذين كانوا على متن القطار.

وقال أقارب باها: "منذ وفاة الزايدي وهو متألم، أثرت فيه وفاته، وتساءل كثيرا عن السبب الذي جعل الزايدي يموت في مكان متعود المرور منه، ويمكن أن يكون هذا السبب الذي جعله يذهب لتفقد المكان، فقد كان معتادا على التأمل وتفقد الكثير من الأماكن والأحوال".
 
الريسوني والعثماني وبن كيران يعددان مناقبه

قال نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أحمد الريسوني: "أعزي الجميع في فقدان هذا النموذج الفذ الرفيع، بفكره السديد، ونظره البعيد، وخلقه النبيل، وقلبه السمح الرحيم، وتفانيه المنقطع النظير في العمل والإصلاح وخدمة الإسلام والمسلمين عامة، ووطنه الأمين خاصة".

ونعى الدكتور الريسوني رفيقه في الدعوة باها، وعدّها "فاجعة كبرى لرجل كان يحظى بمكانة قوية في الحزب والحكومة على حد سواء"، وقام الريسوني بتوقيع رسالة تعزية باسم "الجريح الحزين".

وبدوره، قال القيادي في العدالة والتنمية، سعد الدين العثماني، وهو يُعَدّ "رفيق درب" باها، وزميله في مقاعد الدراسة، إن "الفقيد كان مثال الطيبة، والبشاشة، والطمأنينة، والوطنية، والحكمة، عاشرته منذ مرحلة الدراسة الإعدادية، رحمة الله عليه، وغفر له".

وقال رئيس حكومة المغرب عبد الإله بن كيران في إحدى الحوارات لمجلة "فرنكفونية"، واصفا باها، إنه "شخصية كاريزمية ودينامية وصريحة، لا تعرف المجاملة، شخصية نادرة لأنها صادقة، ومن فرط صدقه وتضحيته يشكّل عنه من لا يعرفه صورة غير حقيقية".

ويعدّ باها المسؤول الحكومي الوحيد الذي احتفظ بعضويته في المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، بعد مؤتمرها الأخير العام الماضي، وهو من أبرز مهندسي المشاركة السياسية للحركة الإسلامية، من خلال الانضمام لحزب الراحل عبد الكريم الخطيب في نهاية عقد التسعينيات.

ويجمع أصدقاء الراحل، وكذا خصوم توجهه السياسي، أن وفاته تشكل خسارة كبيرة للمغرب، لأنه من دعاة التغيير الناعم، ومن منظري "الإصلاح في ظل الاستقرار"، وعُرف عنه أيضا أنه قليل الكلام وكثير الإنصات، نادرا ما يتكلم، وإذا تكلم فبحكمة العقلاء، كما قال معارفه لـ"عربي21".

وصايا الفقيد الأخيرة لنجله     

يروي محمد أمين باها نجل الراحل لـ"عربي21"، وهو يغالب حزنه ودموعه، إن آخر وصايا والده في آخر حوار بينهما، السبت الماضي، إن "الربيع العربي مؤشر على أن زمن القهر انتهى".

وأضاف النجل راويا عن أبيه بتأثر، "لا ينبغي للقيادات أن تستفرد بالرأي أو أن تمارس الاستبداد، وقمع الحريات، وفي المقابل ينبغي الالتزام بالمشروعية، وعدم الخروج عليها، متى اتخذ القرار، وأن هذه خلاصة تجربة ومنهج".

وقال أمين إن "الوالد دائم التذكير بالله وضرورة الخوف منه، وقال لي بعدما سألته عن مستقبل الحركة الإسلامية بعد رحيل جيلها المؤسس بالقول: هذه دعوة الله، وسيجعل لها رجالا في كل زمان".

وتابع بأن الحركة الإسلامية ينبغي أن تحرص على أن تكون عامل خير في مجتمعاتها.

ويرى باها أن التشبث بالإسلام كونه مرجعية، وبالملكية كونها عاصما من التمزق، وتدبير المغاربة لشؤونهم بأنفسهم، كفيل بأن يجنب البلاد ما لا تحمد عقباه، وأن الحركة الإسلامية بخير ما حافظت على الحرية والمشروعية.

الراحل كما تصفه زوجته الثانية

"لم يغير المنصب فيه شيئا"، وفق ما روت عنه زوجته فاطمة معنان، مضيفة: "كما عهدته قبل 22 عاما، ما زال هو نفسه، لم ينل منه الزمن ولا الأضواء ولا المناصب، عاش في شقة متواضعة بحي المحيط بالرباط".

وتسترسل الزوجة في ذكر مناقب زوجها، بالقول: "عبد الله رجل حكيم ومتحفظ، حباه الله بحكمة وبصيرة، ودائما ما يأخذ وقتا طويلا ليجيب على سؤال بسيط، وهو لا يميل إلى التسرع، لا نعرف أشياء كثيرة عن أسرار عمله، وكلما تلقينا خبرا من الصحافة نسأله، وطبعا يناقش معنا، لكن الأمور الحساسة لا يشرك فيها أحدا، ويظل كتوما إلى أبعد حد، يكتمها عن الجميع، باستثناء شخص واحد، هو عبد الإله بن كيران، الذي يبقى أقرب الناس إليه".
 
حفظ القرآن الكريم وبداية العمل الإسلامي
 
تعرّف باها على فكر الإخوان المسلمين، خلال مرحل الدراسة الثانوية، وتزامنت هذه المرحلة مع الإفراج عن قيادات الإخوان المسلمين في فترة حكم الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بعد المحنة التي عرفوها في سجون عبد الناصر، فيقول الراحل باها، ضمن سلسلة "ذاكرة الحركة الإسلامية" التي نشرتها "التجديد" سنة 2008: "كانت تصلنا أدبياتهم فنقرؤها ونتعرف عليها، ومنها جاءت فكرة تأسيس جمعية الشبان المسلمين".

وفي أواخر سنة 1973، انتقل باها إلى ثانوية يوسف بن تاشفين في أغادير، وكان معه سعد الدين العثماني في القسم ذاته أيضا، ولما دخلا إلى مسجد الثانوية وجداه مهجورا، فسعيا إلى جلب الحصائر له، وكانت المعارضة قوية، لكن بدعم من مجموعة من الطلبة، تحقق المراد، فكانت بدايات العمل الإسلامي من داخل المؤسسات التعليمية.

وانتقل باها لاستكمال دراسته الجامعية في الرباط، وهناك تعرّف على بن كيران، وقد لفت انتباهه كما يقول دون أن يعرف السبب، وذلك في مسجد العكاري، حين كان يلقي درسا يفسر فيه آية كريمة، وكان وقتها بن كيران طالبا في المدرسة المحمدية للمهندسين، وبعد ذلك عانقه عناقا أخويا حارا، وفق ما رواه في كتابه.

وبالعودة إلى بعض تفاصيل مساره الدراسي، كما يرويها بنفسه، فبعد ولادته سنة 1954 في جماعة الأخصاص بسوس العالمة، قضى فيها سبع سنوات قبل الانتقال إلى جماعة "إفران الأطلس الصغير"، ودخل إلى المدرسة النظامية، وكان يتردد على "المسيد" في العطل، ليزور والده، من أجل أن يتفرغ للدراسة في التعليم العتيق، فكان الخروج من المدرسة والتفرغ لحفظ القرآن الكريم في المسجد، وكانت السلطات عقب الاستقلال تحرص على تعميم التعليم وإجباريته. 

أوصاف لقب بها باها

كثيرة هي الأوصاف التي لقب بها الفقيد من طرف رفاقه والمقربين منه في مسار الدعوة، فهو "الحكيم"، و"رجل الظل"، و"رجل التوافق والحوار"، و"رجل التوازنات" داخل الحزب.

وعُرِف الفقيد طيلة مساره السياسي، -بحسب وصف وكالة المغرب العربي- بإيمانه القوي بالقيم السامية للالتزام الحزبي والسياسي، وإعلاء ثقافة خدمة الشأن العام، مع حرصه الشديد على الابتعاد عن الجدل العقيم والمزايدات السياسية، في النقاشات العمومية التي تهم قضايا الوطن والمواطنين.

وبهذا المسلك المتميز في العمل السياسي، حظي الفقيد، الذي ولد سنة 1954 بجماعة إفران الأطلس الصغير، بتقدير واحترام كبيرين من طرف كل مكونات المشهد الحزبي والسياسي والنقابي والإعلامي، على الساحة الوطنية.

واتسم الفقيد، الذي تقلد في مساره السياسي منصب نائب رئيس مجلس النواب (2007)، بالرصانة والحكمة، وهو ما جعله يحظى بثقة منقطعة داخل الحزب والحكومة، وبالأخص لدى بن كيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، الذي لم يكن يخفي في أحاديثه المتعددة المكانة الرفيعة للراحل، وقربه الوجداني منه، بالنظر لمسارهما الطويل في العمل السياسي.

وترأس باها فريق العدالة والتنمية في مجلس النواب (2003-2006)، ولجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان في مجلس النواب (2002-2003)، وكان كونه رجل دولة يعلي خدمة مصلحة الوطن خلال تحمله مسؤولية وزارة الدولة، وإدارته لمختلف الملفات الكبرى التي كلف بتدبيرها في إطار الحكومة.


وعمل باها مهندسا باحثا في المعهد الوطني للبحث الزراعي في الرباط عام 1979، وحسب مقربين منه، كان مثالا في الصبر وتحمل مشاق العمل، بفضل قناعاته واختياراته في العمل الدعوي والسياسي.