مقالات مختارة

تجنُّب التدخل البري.. لماذا يثير المخاوف؟

1300x600
كتبت روزا بروكس: في كل مرة أسمع فيها الرئيس أوباما يتعهد بعدم إرسال قوات أميركية إلى العراق وسوريا، أتساءل: هل يمكنه فعلا الوفاء بوعده؟ وماذا يعني البقاء بعيداً عن ساحات القتال؟ وهل هذا التعهد يكفي لإشعارنا بالطمأنينة؟

الحقيقة أن ما نسمعه من تأكيدات بعدم مشاركة قوات برية أميركية في الحملة العسكرية الجارية في سوريا والعراق يندرج في إطار الممارسة السياسية أكثر من ارتباطه بضرورات استراتيجية وأمنية.

ولنوضح أولا أنه يوجد أصلا نحو 1600 عسكري أميركي في العراق، ومع أنهم يكتفون بأدوار «استشارية» ولا يشاركون في العمليات القتالية، فإن ما تعلمناه من حروبنا السابقة في العراق وأفغانستان أن المستشارين والعناصر غير المقاتلة ينتهي بها الأمر في معمعة المعارك. والسبب أن الأعداء عادة ما لا يكترثون بمهام العسكريين على الأرض، كما أن تنظيم «داعش» لن يتردد في قطع رؤوس هؤلاء إن أتيحت له الفرصة بصرف النظر عن دورهم الاستشاري.

هذا بالإضافة إلى صعوبة تحديد أعداد العناصر التي ترسلها أميركا إلى أرض المعركة بالنظر للطريقة التي يتم عدهم بها. فعندما تصدر وزارة الدفاع الأميركية تقريرها حول عدد القوات في أي مكان، فهي عادة ما تستثني العسكريين الذين يؤدون خدمة مؤقتة، وبالمثل يتم استثناء عناصر القوات الخاصة التي تعمل تحت إمرة وكالة الاستخبارات المركزية، ما يجعل من الصعوبة تحديد من هم فعلا الذين يدخلون ضمن العدد 1600 عسكري أميركي الذين قيل إنهم يوجدون حالياً في العراق.

كما أن تقارير وزارة الدفاع التي تحدد أرقام الجنود المشاركين في القتال تتجاهل القوات الأميركية الأخرى غير التابعة للجيش، مثل عناصر حراسة السفارة الأميركية في بغداد، فضلا عن آلاف المدنيين الأميركيين العاملين كمتعاقدين مع الحكومة الأميركية، ناهيك عن المدنيين الأميركيين في منظمات غير حكومية. وإذا كانت البنتاجون تتعقب عدد القتلى في صفوف العسكريين وتحدث أرقامها بانتظام، فإن الحكومة الأميركية لا تعد القتلى المدنيين، أو المتعاقدين معها. ومع أنه لا أحد يعرف هذا الأمر فإن ما سقط من مدنيين أميركيين يضاهي القتلى في صفوف الجنود خلال حربي أفغانستان والعراق.

وإذا كان التعهد بعدم إرسال قوات عسكرية إلى أرض المعركة يعني في المحصلة النهائية التلاعب بالأرقام ومن ينطبق عليه التعهد، ثم نقل المجازفة من الجانب العسكري إلى الحكومة المدنية والمتعاقدين، فإن ذلك ينبغي ألا يواسينا كثيراً أو يطمئننا كأميركيين بشأن تعهدات الرئيس، بل ألا نرتاح كثيراً عندما ينتهي هذا التعهد بتهديد حياة المدنيين العراقيين أنفسهم.

وهنا تتعين الاستفادة مجدداً من التاريخ، فقد كان لرفض الرئيس كلينتون إرسال قوات أميركية إلى كوسوفو عام 1999 أن تم الاعتماد كلياً على الضربات الجوية لوقف التطهير العرقي على أيدي القوات الصربية، الأمر الذي تسبب في وقوع ضحايا بين المدنيين الذين اختلطوا على الطائرات الأميركية، معتقدةً أنهم قوات صربية يتم تحريكها. وحتى إذا لم يكن الهدف الأساسي من الضربات الجوية الحالية في العراق وسوريا هو حماية المدنيين، فإنه هدف يظل مع ذلك موجوداً، وهو ما أشار إليه أوباما في خطابه أمام الأمم المتحدة عندما قال عن «داعش» إنها «تعمل على ترويع الناس في العراق وسوريا.. لذا تبقى اللغة الوحيدة التي يفهمها هؤلاء القتلة هي القوة، وستسعى الولايات المتحدة مع حلفائها لتفكيك شبكة الموت تلك».

ومع أنه لا أحد يشكك في ضرورة تفكيك تلك الشبكة، فإنه ومهما بلغ حرصنا ستوقع الضربات الجوية قتلى في صفوف المدنيين العراقيين والسوريين، لأنه من دون أعين وآذان على الأرض قد نرتكب الأخطاء ونضرب المدنيين.

ويبدو أن هذا الإدراك بضرورة وضع قوات برية على الأرض أشار إليه بعض القادة العسكريين مؤخراً، مثل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي، ووزير الدفاع السابق روبرت جيتس، اللذين أكدا ضرورة التواجد العسكري الميداني إذا أريد للاستراتيجية الأميركية أن تنجح وتكون فعالة.

ومما يضفي المصداقية على هذا الموقف التطورات الميدانية الأخيرة، ففي العراق وبعد سبعة أسابيع من الضربات الجوية لم يتزحزح «داعش» قيد أنملة، رغم التنسيق الوثيق مع وحدات الجيش العراقي، أما في سوريا فلا إمكانية لملء الفراغ بعد القصف الأميركي، مما يفاقم احتمال انتشار الفوضى دون تقليل المخاطر على المدنيين.

هذا الأمر يضعنا أمام انشغال آخر يتمثل في أن إصرارنا على عدم نشر قوات برية في أرض المعركة قد يؤدي فقط إلى ترحيل الخطر إلى المستقبل، بحيث يمكن للاعتماد الحصري على الضربات الجوية إدامة الحرب دون حسمها نهائياً، ما قد يساعد على ظهور فاعلين جدد لا يقلون خطراً عن «داعش».

(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية عن "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس" 29 أيلول/ سبتمبر 2014)