قضايا وآراء

كهف أفلاطون وحلم نولان.. فلسفة السينما

1300x600

أثناء عرض فيلم سبايدرمان 3 المنتج سنة 2007 في السينما خرجت مضطرا إلى خارج القاعة، ولما عدت كانت الشاشة العملاقة خلفي وجماهير المشاهدين أمامي، عيونهم مركزة في اتجاه واحد دونما حركة، تذكرت حينها كهف أفلاطون، يحكي أفلاطون على لسان سقراط نظرته للفرق بين العالم المحسوس المعيش وعالم المثل، فيتخيل كهفا في باطن الأرض فيه سجناء مقيدون بأغلال من حديد إلى أعناقهم بحيث تتجه أنظارهم إلى حائط تنعكس عليه ظلال تلقيها من خلفهم نار عظيمة.. ويجعل أفلاطون من هذا الكهف مثالا للحياة المعيشة التي تحجب عالم المثل في الخارج والذي يمثل الشمس الساطعة.

التشابه بين كهف أفلاطون ودار العرض جعلني أعيد النظر وقتها في خطورة أن يحبس أكثر من مئة شخص في غرفة مظلمة لمدة ساعتين تملأ عليهم شاشة عملاقة سمعهم وأبصارهم. فإن كان لنا أن نفهم السينما كأنها عرض هزلي لمهرج يتقافز أمام الجمهور فيضحكون منه وربما رموه بما في أيديهم فقد أغفلنا كونها أقرب إلى الحلم منها إلى مسرحية هزلية.

منذ اكتشاف ابن الهيثم إمكانية حبس الظل في قمرة مظلمة ليحاكي هذا الظل صورة ما في الخارج، ومنذ أن أصبح التقاط الظلال الثابتة "الصور" ممكنا، شغل إمكان التقاط الحركة أذهان الرواد والمخترعين في ذلك المجال كان أولهم إدوارد مويبريدج الذي استطاع سنة 1878 أن يلتقط حركة الحصان وهو يجري في مضمار، ثبت مويبريدج أثنتا عشرة كاميرا على طول المضمار ليدرس حركة قوائم الحصان وليربح رهانا عقده حاكم كاليفورنيا حول من يستطيع إثبات كون قوائم الحصان ترتفع كلها عن الأرض للحظات أثناء الجري.

تبعه "إيتيان ماري" بأن صمم كاميرا مثبتة على ظهر بارودة صيد يستطيع من خلالها تتبع البجع الطائر ودراسة حركته، إلى ذلك الوقت أمكن التقاط 12 صورة ثابتة في الثانية، حاول مويبريدج أن يرتب صوره الاثنتي عشرة للحصان في تسلسل متتابع، صورة تلحق الأخرى ليجري الحصان لاول مرة على طاولة كما جرى على المضمار.

ومن تحدي التقاط الحركة إلى تحدي عرضها، انهمك توماس إديسون في معامله بتصميم أجهزة تلتقط أكبر قدر من الصور في أقل زمن ممكن، وبمساعدة ويليام ديكسون تم تصميم جهاز أوتوماتيكي يلتقط الحركة ومن ثم يعرضها من خلال نافذة صغيرة يشاهدها شخص واحد فقط.

في عام 1895 وفي ثالث أيام عيد الميلاد وفي مقهى جراند كافيه في باريس، تم عرض أول فيلم متحرك على 33 شخصا كان عامل من العمال عند الإخوة لوميير يحرك بيده آلة تعرض على الحائط أمام الجماهير صورة قطار يتجه بسرعة نحوهم، وكان أن فر الحضور فزعين.

بين برجسون ودولوز "وهم السينما"

لا شك أن عملية التقاط الحركة وعرضها تمثل في ذاتها معضلة ابيستمولوجية كان قد طرحها زينون في "مفارقة السهم" Arrow Paradox ناقش زينون أن الحركة إن قسمناها إلى أجزائها استحالت صورا ثابتة للجسم في أمكنة مختلفة، أي أنها تصبح أحيازا ولحظات، وبذا تكون الأجزاء ساكنة فكيف يكون مجموع السواكن متحركا؟ وإذا فما الحركة إلا وهم ناشئ من تتابع الأحياز واللحظات الجامدة، اعتبر هنري برجسون أن السينما قد عززت مفارقة زينون هذه وجسدتها، إذ ما يفعله جهاز العرض السينمائي ما هو إلا تجميع صور جامدة وترتيبها ترتيبا تسلسليا ومن ثم إضافة حركة آلية مجردة إليها، واعتبر أن جهاز السينما يحاكي في ذلك الإدراك الإنساني الطبيعي، إذ العقل يفعل ذات الشيء.

اعتبر جيل دولوز دعوى برجسون أن الحركة شيء يزيده العقل وجهاز السينما على مجموع الصور الجامدة دعوى سخيفة، إذا كان برجسون بهذه الدعوى يريد اعتبار السينما إعادة إنتاج لوهم الإدراك الإنساني، فإن دولوز يعتبر السينما تصحيحا لوهم الإدراك، فالسينما لا تضيف الحركة إلى صور ساكنة بل تنشئ مباشرة في نفس الوقت صورة للحركة "صورة-حركة"، فالحركة هي المعطى الذي يظهر من خلال شريط الصور الجامدة لا الأجزاء هي التي تظهر.. وبالتالي فالسينما أعطتنا إحساسا ابستيميا صحيحا بالحركة وفهما جديدا لها.

و على كلٍ، فهمنا من هذه المناقشة بين عقلين فلسفيين بارزين أن نلفت الانتباه إلى كون السينما بصورتها ومعناها هذا مرحلة جديدة شكلت آراء وأفكار وتحيزات أجيال جديدة، وأن تطورات التأثيرات البصرية والسمعية ستشكل فيما بعد معضلات فلسفية واجتماعية.. لا بد أن كهف أفلاطون أصبح حقيقة.

من الصورة المتحركة إلى القصة المجسدة

كان دانييل جريفيث ممثلا فاشلا من موظفي استوديوهات إديسون للإنتاج، لكنه كان بلا ريب قاصا محترفا استطاع أن يحول قصة كونت مونتي كريستو إلى فيلم قصير مؤثر، وبذا اعتبر أول مخرج روائي، الرواية ستصبح مجسدة إذا، والجمهور الذي فزع من قطار الإخوة لوميير ففر هاربا سيعيش قصصا عالمية يقترب منها بجميع حواسه بدل أن يفر. 

فالصورة المتحركة وحدها موضوع ملاحظة، فإذا أضيف إليها قصة وسرد روائي بكل عناصره أصبحت موضوع تأثر، فالجمهور الذي دفعه الفضول لرؤية ديكشون يحرك قبعته أصبحت تدفعه العواطف والأشواق ليعيش القصة وسحرها، ومع شاشة العرض في غرفة مظلمة وبالتقنيات الجرافيكية والبصرية الحديثة التي تمسح الحدود بين الحلم والحقيقة ها نحن نعيش أحلاما بكل تفاصيلها.

لهذا لا أزال أعتبر فيلم كريستوفر نولان الشهير Inception خلاصة قصة السينما وفلسفتها، حاول نولان أن يفهمنا هذه الفلسفة بأن يقدم نفسه على أنه رجل اسمه "كوب" متخصص في تصميم الأحلام والدخول من خلالها إلى عقل فريسته ليزرع ما شاء من أفكار، فإن لم يؤدَّ بِكَ التشابه بين مظهري نولان وكوب إلى أنْ تعلم هذا، فيكفي أن تقابل بين الفيلم وبين الحلم وبين فيشر وبينك.. لتدرك فيما بعد أن رحلة كوب ما هي إلا صراع نولان، مع وعيك بوجوده في عقلك، فها هو يقاتل وعيك ليستفرد باللاوعي فيزرع الفكرة بهدوء.

سيعطيك في النهاية وفي مشهد الختام إيماءة لطيفة إلى أن فيلمه نفسه هو المستوى الخامس من الأحلام.. وأنك منذ البداية كنت تحلم... منذ دخلت دار العرض.

بهذا يتبنى نولان فلسفة دولوز في كون السينما إعادة إنتاج للحياة، فالإنسان يلاحظ بحواسه أولا ثم ينفعل وبعدها يفعل، فجدلية التأثير بين الإنسان والواقع حاصلة في تأثير كوب في الحلم وخلقه لواقعه وتأثير الحلم نفسه فيه.. هذا بخلاف فيلم ماتريكس الذي يكون فيه عقل Neo أسيرا في عالم صنعته الآلات، فهو حين أدرك ذلك لم يستطع أن يغير شيئا في المصفوفة، بل حاول التكيف مع شيء خارج عن إرادته.. هذا قريب إلى فلسفة جين بودريارد في التماثل أكثر من فلسفة دولوز في التأثير المتبادل.

وإذا، فباعتبارنا الفيلم حلما صممه مخرج بمساعدة مصممي الديكور والممثلين وباقي الفنيين من فريق كوب أو نولان، سيكون علينا أن نفهم خطورة ما يلقيه هذا الحلم في أدمغتنا من أفكار، مباغتا بذلك وعينا به، ومنسلا برشاقة خارجها حين تقفل شاشة السينما فنصحو بعدها.