مقالات مختارة

المشرق العربي والكيانات المتصدعة من سايكس بيكو إلى داعش

1300x600
كتب طلال سلمان: لكأن دنيا العرب وانطلاقاً من مشرقها، تخرج من التاريخ وعليه، وتعاد صياغة جغرافية «دولها» من جديد، ودائماً بمعزل عن إرادة أهلها ومصالحهم.

فقبل مائة عام إلا قليلاً، وفى غمار الحرب العالمية الأولى التى انتهت بانتصار «الحلفاء» على «دول المحور»، توزع «المنتصرون» وبالتحديد بريطانيا وفرنسا، أقطار المشرق العربى وتحديداً: فلسطين، سوريا لبنان والعراق بموجب معاهدة سايكس ــ بيكو التى عقدت بينهما سنة 1916.

بعد سنة واحدة، لا أكثر، أعطى وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور «وعده» للحركة الصهيونية باقتطاع فلسطين لتكون أرض مشروع وافد على المنطقة من خارجها: إسرائيل. ذلك ما سمى آنذاك «وعد بلفور» وما نراه الآن كما أراده أصحابه «أقوى دولة فى الشرق الأوسط، اسرائيل».

أعيد رسم خرائط المنطقة، باعتماد الحذف والضم، فأقيمت ثلاث دول متداخلة الحدود، ثم أضيفت إليها دويلة فى الأردن وبمعزل عن إرادة «الرعايا» فيها، هي:

«دولة لبنان» التى كانت «متصرفية» تحت حماية الغرب يحكمها «متصرف» يعينه السلطان العثماني من بين رعاياه المسيحيين، لذلك، كانت غالبية المتصرفين من الأرمن.

دولة سوريا ــ وقد أعيد تشكليها جغرافياً، فاقتطعت منها مناطق أعطيت إلى الدولة الجديدة فى لبنان، وكان الوعد أن تضاف إليها ولاية الموصل، لكن البريطانيين نجحوا فى ضمها فى نهاية الأمر إلى العراق، وكانت بعض الدراسات قد أكدت وجود النفط فى أراضيها،.. كذلك فقد أبقيت هوية بعض الشمال السوري (كيليكيا واسكندرون) معلقة حتى الحرب العالمية الثانية فاقتطعت من سوريا لتعطى إلى تركيا لكي تنحاز إلى الحلفاء ضد ألمانيا النازية.

وفى سوريا هذه المجرحة حاول الفرنسيون ترسيخ النزعة الانفصالية فاجتهدوا لتقطيع أوصال البلاد لإقامة «دول» عدة فيها واحدة في حلب، وأخرى في دمشق، وثالثة في جبال العلويين، ورابعة في الوسط لكن إرادة السوريين أكدت وحدتهم الوطنية فكان الكيان الذى نعرفه: الجمهورية العربية السورية.

وكجائزة ترضية أعطى عرش سوريا لنجله فيصل، فلما دخل جيش الاحتلال الفرنسي دمشق منتصراً، ارتحل «الملك» منها هائماً على وجهه حتى أعاده البريطانيون ولكن إلى عرش العراق، وليس سوريا.. وكان عليهم استرضاء أخيه الأمير عبد الله فاخترعوا له إمارة شرقي الأردن فى البادية السورية التى ستتولى حراسة المشروع الاسرائيلي مستقبلاً.

فلما وقعت «النكبة» واستولت اسرائيل على فلسطين، تدخل الغرب بقيادة بريطانيا فمنح الأمير عبد الله الضفة الغربية لنهر الأردن، وهكذا استوى عرشه ملكاً على الضفتين في المملكة التي سنعرفها، من بعد، باسم المملكة الأردنية الهاشمية.

لكن هزيمة 1967 ستعيد الضفة إلى الهيمنة الإسرائيلية، وسيخرج منها نصف شعبها ملتحقاً بالأردن وعرشه الهاشمي.

فأما العراق الذى جعله البريطانيون مملكة لفيصل فقد هبت فيه ثورة شعبية عارمة ضد الاحتلال الجديد الذى نجح فى استمالة بعض القبائل بتحريك النوازع الطائفية المذهبية، كان بين نتائجها استنكاف الشيعة عن المشاركة فى حكم المملكة الهاشمية الجديدة.

ها نحن نشهد، هذه الأيام، سقوطاً لتقسيم سايكس ــ بيكو، من دون أن نعرف إلى أين تتجه منطقة المشرق وما ستكون طبيعة «الدول» فيها بعد اجتياحات داعش، مناطق واسعة من مشرق سوريا ــ الرقة ــ دير الزور وغرب العراق (الموصل ومحافظة نينوى) تحت شعار «الدولة الإسلامية فى العراق والشام».

ولقد أثار توسع داعش الرعب في المنطقة جميعاً، خصوصاً وأن أوضاع دولها، جمهورية وملكية وأميرية، ليست في أحسن حال.

كذلك فقد خلخل الكيانات القائمة هذا التنظيم السياسي المصفح بالشعار الديني والسلاح وآلاف المقاتلين الآتين من مختلف ديار العرب وبعض نواحي الغرب، الأوروبي والأمريكي.

ومؤكد أن تلك الكيانات التي أقامها الاستعمار القديم على عجل وأرادها ضعيفة ليستمر نفوذه فيها، تواجه اليوم مخاطر التداعى والتفكك.. فالأنظمة التى تعاقبت على حكمها، ملكية ثم جمهورية، لم تهتم كثيراً بتدعيم الوحدة الوطنية فيها وتعزيز كرامة المواطن وتأمين حقوقه، فظلت « الدول» معرضة للارتجاج.. ثم إن العسكر قد تقدموا إلى السلطة مستفيدين من فشل الطبقة السياسية التي تناوبت أحزابها على الحكم فأفسدها وتسبب في انقسامها على ذاتها حتى صارت الشعارات الثورية مجرد تمويه لحكم القائد المفرد.

لقد اجتاحت «داعش» هذه المساحات الواسعة من أراضي الدولتين، العراق وسوريا، بتواطؤ أكيد ولو غير معلن، مع تركيا الواقعة على حدودها..

ولا يصمد للنقاش الإدعاء أن هذه الجحافل التي اجتاحت مساحات هائلة فى دولتين عربيتين كانت قوتهما معقد الآمال فى تحرير فلسطين من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، ذات يوم، قد نمت قدراتها وتعاظم حشد الرجال فيها، الآتين من أربع رياح الأرض العربية وبعض الغرب، و«الدول» جميعاً، الولايات المتحدة الأمريكية أساساً ثم أوروبا، غافلة عنها، لا تدري من أمرها شيئاً حتى فوجئت باجتياحها مساحات هائلة من الأرض فى دولتين عربيتين متجاورتين، مع خطر تمددها إلى دول أخرى فى الجوار ليست أعظم قدرة، ولا أنظمتها أكثر صلابة من النظامين السوري والعراقي.

إن الرعب الآن يسود أرجاء لبنان والأردن..

والخوف على المصير قد اضطر الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى إطلاق نداء موجه إلى الأمريكيين والأوروبيين تمتزج فيه الاستغاثة بالتحذير، مع تلميح مباشر إلى مسئولية دول الغرب بالقيادة الأمريكية عن تعاظم هذه الظاهرة «ملتهمة الدول»، مروعة الشعب بالقتل الجماعي الحي منقولاً بالبث المباشر على مختلف الشاشات ووسائط التواصل الاجتماعي.

بل إن هذا الخوف قد تمدد حتى وصل إيران، التي بادرت إلى تجاوز الحساسيات والإشكالات السياسية والتواصل مع السعودية، وتدارس كيفية مواجهة هذا الخطر الداعشى المعزز الآن بإيرادات النفط وما تركته الجيوش في ثكناتها من آليات وأسلحة حديثة باتت بتصرفه.

إن ملامح خريطة جديدة لهذه المنطقة ترتسم فى الأفق، وهى تمتد بين الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى اليمن على البحر الأحمر مروراً بالجزيرة والخليج، مع تهديد مؤكد لسلامة إيران... والشعار الإسلامي يرفرف فى الرياض وطهران، لكن شعاراً إسلامياً جديداً نافياً لغيره، يتمدد ـــ بقوة السلاح وضعف الخصم «فوق الشرق الأوسط» متجنباً أى احتكاك مع إسرائيل، أو أية إشارة إلى القضية الفلسطينية، فتأكيد إسلامية التنظيم تجىء في مجال نفي العروبة، بل وإدانتها واعتبارها خروجاً على الدين الحنيف.

إن تهالك الأنظمة فى مجمل أقطار المشرق (من دون أن نستثنى الأنظمة فى مختلف أنحاء الشطر الأفريقى من الوطن العربي) كان خير حليف لداعش، وخير مبرر لاجتياحاته.

لقد تبدت هذه الدول التي كان المواطن العربى يعتبرها حصينة، ويمني النفس بأنها ستواجه العدو الإسرائيلي بعد أن تستكمل بناء قدراتها، وكأنها كيانات ضعيفة وغير مؤهلة لمواجهات جدية تتطلب جيوشاً عصرية وذات عقيدة قتالية بقدرات فعلية، طالما اقتطعت الأنظمة الحاكمة أثمانها من قوت رعاياها.

لهذا كله فإن الشعوب العربية فى المشرق تعيش قلقاً جدياً على المصير.

إن مجمل هذه التطورات تنذر بتفكك الدول القائمة فى ظل هذه الأنظمة المتهالكة، من دون أن يكون فى الأفق ثمة مشروع سياسى جدى يحصن القائم منها فيحميه أو يؤشر إلى طبيعة البديل سواء هزمت جحافل داعش بقيام حلف تحت القيادة الأمريكية يتصدى للمواجهة، أو استمر توزع الجهات والمناطق بين الكيانات السياسية القائمة (أو ما يتبقى منها) وبين ما قد ينجح تنظيم داعش في الاحتفاظ به من مناطق لخليفته ولدولته الإسلامية.

ولن تقتصر هذه الانهيارات على الدول العربية في المشرق، بل ستطال بنارها إيران وربما تركيا، كما أن تداعياتها ستطاول أقطار المغرب العربي جميعاً بشهادة ما يحدث فى ليبيا وما يحضر ضد مصر وضد تونس وضد الجزائر...

.. وفى كل الحالات فإن خريطة جديدة للمنطقة ربما تكون تحت التحضير، الآن ومؤكد أنها سترسم بدماء أبناء هذه الأرض الذين عجزوا عن الانتصار بثوراتهم كما عجزوا عن وقف تداعيات الهزيمة التي تلتهم الآن يومهم كما تهدد حقهم فى غدهم الأفضل.


(الشروق)