مقالات مختارة

المبادرة المصرية ليست مقدسة ويجب تجاوزها

1300x600
كتب خالد الحروب: ثمة تشدد مصري غير مفهوم في مسألة "التمسك" بعدم تعديل المبادرة التي طرحتها الحكومة المصرية بهدف توقف "الأعمال العدائية بين الطرفين"، إلى درجة أن أصبحت هذه المبادرة عائقا في طريق الوصول إلى اتفاق جديد يحقق المصالح الوطنية الفلسطينية.

إسرائيل قبلت المبادرة على الفور، لأنها تستجيب لمتطلباتها جملة وتفصيلا, ورفضها الفلسطينيون وطالبوا بتعديلها حتى تستجيب ولو لبعض مطالبهم. المبادرة التي من المفترض أن تكون جسرا تفاوضيا يسهل عملية وقف إطلاق النار والوصول إلى صيغة مقبولة من "الطرفين" تحولت إلى عقبة كأداء يرفض المصريون تعديلها وكأنها أصبحت بقرة مقدسة. من غير المعقول ولا المفهوم أن يتحول أي وسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل (ناهيك عن مصر العروبة التي نحب) إلى طرف مُنحاز تتلقف مبادرته إسرائيل ويرفضها الفلسطينيون, بل ويصر على فرضها على الفلسطينيين.

مشكلة الفلسطينيين مع "المبادرات" المصرية أنها تتحول إلى قضية "كرامة" وكأن طرحها للنقاش والتعديل يمس بهيبة مصر. رأينا ذلك على مدار عدة سنوات خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك عندما كان عمر سليمان, مدير المخابرات المصرية آنذاك, يدير ملف المصالحة الفلسطينية. حينها, تم صوغ وتقديم ما سمي في تلك الأيام بـ"الورقة المصرية" التي كان من المفترض فيها أن تجسر الفجوة بين فتح وحماس وتساهم في رأب الصدع الفلسطيني. لم يتم قبول تلك الورقة آنذاك واعتبرت منحازة لفتح والسلطة الفلسطينية, ورفضت مصير إجراء أي تعديل عليها لفترة طويلة. خلال تلك الفترة تم إغلاق الباب أمام أي محاولات أخرى للتوسط بين الفلسطينيين, وتحول "الملف الفلسطيني" إلى شأن مُحتكر من قبل المخابرات المصرية لا يحق لأي دولة أخرى التدخل فيه.

كان من الصعب في تلك الأثناء فهم المنطق المصري (والمفترض أن يكون وسيطاً لا طرفا) في رفض أي تعديل على "الورقة المصرية" وفي نفس الوقت حضر فتح أي مسار تصالحي آخر. واليوم يُعيد التاريخ نفسه، حيث تغلق المبادرة المصرية الطريق أمام أي مبادرات أخرى, وتحرج جميع الأطراف التي تريد أن تتدخل حتى لا يُقال عنها إنها تتجاوز "الدور المصري". لكن هذا الدور لم يعد وسيطا ولا نزيها ولا محايدا. الحياد نفسه من قبل مصر والحديث عن "أعمال عدائية متبادلة" مخجل ويحط من قدر مصر, التي يجب ألا تكون محايدة بين إسرائيل وفلسطين. لكن, حتى الحياد لم يتم التمسك به, وأصبحت المبادرة المصرية في خدمة المصالح الإسرائيلية ولهذا فإن إسرائيل تتمسك بها وبكل قوة. لكن لماذا تتمسك إسرائيل في المبادرة المصرية وترفض كل الأفكار الأخرى حتى تلك التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي كيري؟

السبب في ذلك وببساطة أن المبادرة المصرية سوف تُعيد إنتاج الوضع الذي كان قائما قبل الحرب, وتبقيه على حاله, وهو الوضع الذي كان يوفر كل الراحة والتفوق العسكري والسياسي لإسرائيل. ومكونات ذلك الوضع كانت التالية: استمرار الحصار العنصري والإبادي مفروضا على 1.8 مليون فلسطيني في قطاع غزة, ومفاقمة ذلك الحصار، خاصة بعد تدمير الأنفاق التي كانت تصل القطاع بمصر وشكلت شريان الحياة الرئيسي للناس, واستمرار السيطرة الإسرائيلية الاحتلالية حول القطاع برا وبحرا وجواً، مع تمتع إسرائيل بحق توجيه ضربات عسكرية هو تكبيل أيدي الفلسطينيين وشلهم عن أي رد فعل وأي مقاومة، سواء أكانت مسلحة أم سلمية, وإجبارهم على قبول الصفعات الإسرائيلية على وجوههم من دون رد, وفي الوقت الذي تختاره إسرائيل.

كل ذلك على خلفية انعدام الخيارات الأخرى أمام الفلسطينيين وفشل مسرحية مفاوضات السلام. المبادرة المصرية التي رفضها الفلسطينيون بشكلها القائم تريد إعادة الأمور إلى تلك النقطة, نقطة الوضع القائم الذي يخدم إسرائيل, ولأن ذلك هو جوهرها الذي احتضنته إسرائيل وتمسكت به ـ المبادرة المصرية التي تقول إن هدفها وقف سيل الدماء الفلسطينية لا تنطوي على تناقض كبير وحسب، لأنها تصر على إبقاء الحصار, بل أصبحت الآن سببا في استمرار إراقة تلك الدماء, لأنها تقف في وجه أي جهد إقليمي أو أممي آخر يريد أن يقوم بما عجزت مصر عن القيام به, أو لا تريد القيام به. أي أنها, ومرة أخرى, تتبنى الموقف الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية ما قبل الحرب والقائمة على ديمومة قتل الفلسطينيين ولكن ببطء وصمت وبعيدا عن أعين الرأي العالم العالمي.

مشكلة إسرائيل ومن يؤيدها في هذه الحرب وما تولد عنها من صراع إرادات أن هذه الحرب الهمجية والإبادية التي يقودها الجيش الوالغ في دماء الأطفال والمدنيين أنها تكشف الغطاء عن ذلك الموت البطيء والصامت الذي استمر سنوات طويلة خلال مرحلة الحصار, وتحوله إلى موت سريع ومعلن وفج. والمبادرة المصرية لا تعطي الفلسطينيين إلا الاختيار بين نوعي الموت هذين: الموت البطيء الصامت, أو الموت السريع المدوي. باختصار, هذه المبادرة لا تستحق أن توصف بأنها مصرية, ويجب أن يخجل منها كل المصريين الأحرار.

(بوابة الشرق القطرية)