فنون منوعة

مارسيل خليفة يهاجم جعجع في عزاء والده

توفي والد مارسيل أثناء الحرب الأهلية - أرشيفية
عاد مشهد سمير جعجع وهو يبكي لوفاة والده بالفنان اللبناني مرسيل خليفة إلى الوراء حين لم يتمكن من توديع والده الذي توفي وحالت الحرب الأهلية اللبنانية دون أن يراه قبل أن يوارى الثرى.

وأرسل خليفة رسالة إلى جعجع عبر فيها أن مشاطرته حزنه، غير أنه ذكره بأنه كان السبب في عدم تمكنه من توديع والده.

من جهته قال الدكتور وائل كرامة أنه اتصل شخصيا بجعجع ليتأكد مما جاء في رسالة خليفة حيث أكد له جعجع أن ما ورد فيها ليس صحيحا.

وفيما يلي نص رسالة الفنان مارسيل خليفة التي نشرها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

إلى د. سمير جعجع
ليس كلاماً ما أحاول بوحه
إنه حبر الروح
إنه بكاء القلب
إنه همس الغياب، لوالدي، الذي أحببته بعمق. . .
اقاسمك الحزن على غياب والدك. لأني اعرف هذا الحزن الذي لا يعرف الرحمة. حزن مثل هذا ليس سهلاً التفاهم معه.
البارحة رأيتك في التلفزيون تكبح رغبة الدمع في التفجّر، رغم أنك حرمتني من القاء نظرة على وجه والدي لأحتفظ بأسرار الروح.
لقد مضى والدي وحيداً ولم استطع أن أمشي في جنازته إلى تراب الورد.
لديّ من الشجن ما لا يوصف، ولو كان لشجن الروح صوت لتحتّم سماعه.


لم يبق إلاّ صورة تتوهّج الذاكرة كلمّا شعّ فيها طيف والدي الذي رحل الى سرير الارض.
حتى هذا الموت القاسي لا يقدر على مصادرة حق الحب، مثلما يفترق العشّاق ليبقى الحب
بقي والدي يحرس البيت، كان كالحلم المتمرّس بالوردة في غابة من فولاذ. قوتّه هشّة، ولكنّها لا تخذله مثل غصن يميل مع الريح ولا ينكسر.
أتذكر مليّاً مسار القطار الطويل الذي حملني ليلاً من ضيعتي الهادئة الى تلك المدن البعيدة، الصاخبة.
تركت عمشيت قسرآً وتركت فيها والدي وعيناه مغرورقتان بالدمع. رحلت صوب الشرق وظلّ يتبعني بعينيه. انحدرت مع الوادي، ثمّ صعدت تلك الرجمة وانحدرت ثانية الى ارض مشاع بدون أن ألتفت الى الوراء.
وسهرنا سويّة ليلة رأس تلك السنة في بيروت حتى الصباح. ولم نصدق اننا سنلتقي. تطلعت الى وجهه الحاني والى الخطوط التي انحفرت عميقاً فيه، ولكن عينيه كانت تبرقان من فرح اللقاء وتقولان كلاماً كثيراً. ودمع دون خجل لنقرة العود وكما كنّا نحتفل في قبو جدي منذ زمن وعزفت، وآخ. . . ما اسرع ما تبدد الزمن الآمن.
أين ولّت تلك الايام؟ أين؟ ورنّ في مسمعي من جديد تطييبات والدي المعهودة: الله… الله


كانت ساعات حميمة قضيتها مع والدي وفي اليوم التالي حزم متاعه ولملم حوائجه القليلة، واستعد للعودة الى عمشيت
حمل معه أيامه وذكرياته واللحظات الحلوة وعاد سيراً على الاقدام من بوابة المتحف
وفي 24 شباط لسنة 89 سار الموكب بطيئاً، بطيئاً في عمشيت على ايقاع الجرس الجرس الحزين.
لقد رحل ميشال “القفص” كما رحلت ماتيلدا ـ أمي
لقد عزفت للعالم كله إلاّ لموت ابي الذي اشتهى كل شيء في حياته ولم يحصل على شيء. كان ينتظر رجوعي كل يوم عند الكوع حتى رحل محزوزاً.
محزوزاً بقفصه، لم تسعفه الظروف على الخروج من هذا القفص، والموت سلخه إلى قفص آخر. هل حكم على والدي أن يحيا في قفص ويموت في قفص؟
أتذكر عندما طردت من ضيعتي في بداية الاحداث، زاره صديقي جورج وبادره والدي من بعيد


“لقد أقفر البيت لأول مرّة من وجوه من أحببت، لقد تبدّل كل شيء. شجرة الكينا أمام الدار نزفت ورقها الاصفر حتى الموت. يبست اللوزة في الجل الخلفاني. تجعدّت الحيطان من حولنا ونسي اللوز في الربيع أن يزهّر وزلزلت الارض تحت الاقدام ورحت أنتظر رسالة، خبراً، كلمة من وراء البحر”
فردّ جورج على والدي مطمئناً: فترة زغيري يا ابو مرسيل وبتمضي وكل شي بيرجع لحالو
صدّق والدي كلام جورج. ولكن بعد سنتين مرّ جورج لزيارة والدي فبادره من جديد: مرق الصيف، وخلفه صيف آخر، برد الطقس، سربت العصافير، وقصفت الريح ثلوج شجرة الكينا. كانون قاسي بلا نار، بلا أحباب. إن تصح، يلسعك الغياب وان تنم، تسرب الوجوه غزلان صحراء لتشرب تحت الجفن من ماء العين
عيل صبره، ضجر، صرخ، كفر، انزوى، صمت، وعيونه على البحر. لا قلوع أبيض في الافق، وملح عينيه يزيد الازرق ملحاً
من مرة لمرّة كان يأتي جورج ويواسيه: شو صار لك يا زلمي؟ شدّ حالك، كن قوياً. يا ابو مرسيل، لا تجعل من انتظارك الطويل سفراً الى واحة من سراب. إنه الليل وسيرحل قريباً
سمع في صوت جورج نبرة صوت من ينتظر. هبّ من فراشه، طرد الطبيب. حطم زجاجات الدواء. خرج الى الشمس. خفق قلبه. جمع كل الورق اليابس تحت صاج الفرح، ليخبز حياة جديدة
بقي والدي شهوراً وسنين على عتبة الدار أمام الكوع، يصحو باكراً، ينام متأخراً لئلا آتي واجده نائماً
لأيام كان يصر: لا بدّ غداً . . .


لأشهر تمنى: هذا الشهر
وأخيراً صار يسأل: هل يأتي السنة؟
جفّت عروقه وتراً وتراً . وتخّت عظامه قصبة قصبة، وتراخى جلده خريطة يأس وقهر وانكسار
على الدروب سعف نخيل وغصون زيتون. أرى أولاداً وشموع. أسمع هزيجاً ورجع أجراس، الصبايا خرجن وفي ايديهن ارزّاً وزهراً. الموكب يقترب والنشيد طالع من الارض وأنا ذئب شوق إلى يديك، إلى جبينك، إلى وجنتيك
لكن أبي سئم الانتظار الطويل واطبق جفنيه وشفتيه على اسم من أحب
الصبايا لبسن السواد. سعف النخيل أكاليل، والموكب بطيء بطيء على ايقاع الجرس الحزين
وأنا أحمل وجعه في صدري وحسرته تأكل قلبي وعيناي على حاجز طريق عمشيت


علمني حبّه الصدق