كتاب عربي 21

الجدل الافتراضي على وقع الانتخابات البلدية التركية

1300x600
كما هو شأن الحوارات العربية عمومًا في هذا الوقت؛ من النادر أن نقع على نقاش يأخذ الموضوعة في سياقها الشامل وأبعادها المركبة، بتجرد من الانحيازات العصبوية المسبقة، والرغبات والأماني الجاهزة، والانتقائية القصدية لإثبات مقولات سالفة، وكذلك كانت النقاشات العربية، التي تكثفها لنا مواقع التواصل الاجتماعي بشأن التجربة التركية على وقع الانتخابات البلدية الأخيرة التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة طيب رجب أردوغان.

 فإما أن تكون مع التجربة وتحولها قصرًا إلى نموذج قابل للاستنساخ في بيئات وظروف أخرى، وتعتبرها نهاية التاريخ في المحاولة الإسلامية، والتعبير الأمثل عن الإسلام في هذا الزمن، حتى لو لم يدِّع أصحاب التجربة ذلك، وإما أن تكون ضد التجربة بالمطلق ورغمًا عن حسابات السياسة وإكراهاتها وضروراتها التي قد لا تتيح الخيارات المرجوَّة، وقد لا تجسد التصورات الأيديولوجية المثلى، أو - وكما في العادة- تختزل التجربة بمسارها التاريخي الطويل، ومحاولاتها المتعددة، في شخص رجل واحد، هو في هذه الحالة أردوغان، وبالتالي فإما أن تكون معه أو تكون ضده، وكأن هذه هي الممكنات الوحيدة على مستوى الاختيار ولو في مجال الشعور، فضلاً عن أن تكون في مجال الواقع السياسي.

 كارهو التجربة، عربيًا، برمزها أردوغان؛ مجموعات عديدة لها أسبابها المختلفة، انطلاقًا من حسبان التجربة على "المحاولة السياسية الإسلامية المعاصرة" وهي المحاولة المكروهة أصلاً، أو بسبب من استفادة الحركات الإسلامية العربية منها بشكل أو بآخر، أو بسبب من التحولات الإقليمية المحمولة على الثورة العربية الراهنة والتي جعلت تركيا بقيادة العدالة والتنمية فاعلاً أساسيًا فيها، على نحو يثير مخاوف دول المنظومة الإقليمية، ومن ضمن هؤلاء الكارهين، التحالف الحاكم لسوريا اليوم (إيران والنظام السوري وحزب الله وملحقاتهم) وأنصاره في العالم العربي، وهو التحالف الذي تعوَّد على تغطية مواقفه السياسية بمقولات مبدئية، وهو على هذا الأساس فإنه يحمِّل حزب العدالة والتنمية مجسدًا في أردوغان، كل آثام وخطايا الواقع الذي وجد فيه الحزب نفسه، وكامل تراث الكمالية وتحالفاتها الغربية وعلاقاتها بـ "إسرائيل"، وهو واقع كله سابق على الحزب الذي لم يساهم في إيجاده، أما المجموعات العربية الأخرى الخاضعة صراحة للهيمنة الاستعمارية، كما هو حال دول الخليج والنظام الانقلابي المصري وحلفائهم، فإنها لا تستحق المناقشة الجادَّة بقدر ما تستحق السخرية والهجاء المقذع.

 في مقابل هذا التطرف المعادي؛ فإن ثمة تطرفًا مواليًا في أوساط بعض من الإسلاميين العرب، منتظمين في جماعات أو مستقلين، يعاني من الاستلاب والانبهار، ويعجز عن أخذ التجربة في حدودها الموضوعية، ويتجاوز قاصدًا أو غافلاً عن كل اختيارات التجربة من داخل الواقع الذي وجدت نفسها فيه، والتنازلات الضخمة التي قدمتها لإكراهات هذا الواقع، واشتراطاته بمستوياته المحلية والإقليمية والدولية، وكأن هذه التجربة بدأت للتو نقية من كل التلوث المحيط، ما يحيل التجربة، خاصة في أذهان من يجسدونها في شخص رجل وعبقريته مسقطين كامل المسار التاريخي وصيرورة التحولات التركية منذ ستين عامًا وشركاء التجربة والظروف المساعدة، إلى نموذج قابل للاستنساخ في صورة الضرورة الحتمية، شريطة توفر العبقرية الشخصية، وتقديم التنازلات اللازمة! مع السكوت المطبق عن التنازلات التي أملتها علاقة تركيا بالعدو الصهيوني وموقع تركيا في النيتو، واشتراطات رأس المال المحلي،  إضافة إلى الظروف المساعدة التي نشأت عقب هجمات 11 أيلول، وإرادة أمريكا في تقديم نموذج إسلامي مختلف عن ذلك النموذج الذي صدَّر لها هؤلاء الذين ضربوها في عقر دارها، والإجماع التركي على الانضمام للاتحاد الأوروبي وهو ما سهل استخدام شروط الاتحاد الأوروبي لتفكيك الهيمنة العسكرية وتخفيف الفاشية العلمانية المتسلحة بالقضاء والعسكر.

 من أسباب هذه الظاهرة في أوساط الإسلاميين؛ علمنة الحركة الإسلامية، باختزالها في الشق السياسي، وبالتالي قصر النجاح على الإنجازات الاقتصادية، وهو تصور مادي صرف ينم عن الإيمان بأن وظيفة الحركة الإسلامية في تحقيق الفردوس الأرضي، الممكن بحسب هذا التصور الحالم، بيد أنه وإذا كانت وظيفة الحزب السياسي الذي يحكم الناس أو يسعى إلى حكمهم في بناء عناصر القوة الاقتصادية والتقنية والأمنية والعسكرية سواء كانت مرجعيته إسلامية أو غير إسلامية، فإن وظيفة الحركة الإسلامية بمعناها الشامل تتجاوز ذلك، بل إن الدولة بحسب الوظيفة الشاملة للحركة الإسلامية في خدمة الدعوة وليست منتهى الدعوة وغايتها.

 في هذه الحالة؛ سوف نجد أن بعض من يدعو لفصل الدعوي عن السياسي، بتصوره للحركة الإسلامية على هذا النحو، ومن ثم اتخاذه التجربة التركية نموذجًا للاستنساخ التام، يخلط الدعوي بالسياسي حينما يختصر الحركة الإسلامية فقط في المهمة السياسية، ويقصر النجاحات على الشق المادي في توفير الأمن والرفاه للإنسان، وهو التصور الذي يتطرف إلى درجة يرى فيها، أن الانشقاق كما فعل أردوغان مع أربكان هو الحل، أو أن الحل في التبني العلني والصريح للعلمانية، ونفس هذا الاختزال هو الذي يجعل أحدهم يتساءل عن سبب فشل تجربة حماس في فلسطين، وكأن وظيفتها حكم الناس في ظل الاحتلال لا مقاومة الاحتلال! ونفس هذه التصورات المادية للحركة الإسلامية تجعل من مجرد الوصول إلى الحكم أو الثبات فيه أو الحفاظ على الذات أو حكم بلدية هو (النجاح) بهذا الإطلاق.

 في المقابل يعجز بعض آخر، من أصحاب الرأي الوجيه الذي يقرأ حجم الخضوع لإكراهات الواقع في التجربة التركية، عن تفهم أسباب سعادة الإسلاميين العرب بفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية الأخيرة، معتبرًا هذه السعادة موافقة مطلقة للتجربة التركية ورضا بكامل خياراتها، وهذا وإن كان حاصلاً لدى البعض، فإن من أسباب التعاطف مع هذه التجربة احتمالات السياسة التي تجعل تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية أفضل لنفسها وللإقليم وللقضية الفلسطينية مما لو كانت محكومة بالبدائل الأخرى المعروفة.

 حكم العدالة والتنمية بالتأكيد لم يجعل تركيا بعد خارج الهيمنة الاستعمارية الغربية، وقد لا يستطيع التحرر الكامل من هذه الهيمنة، ومن وظيفة تركيا التاريخية داخل حلف النيتو، ولا إغفال العلاقة مع العدو الصهيوني، والتي راعاها كما حصل في زيارة أردوغان لدولة العدو وقبر مؤسسها في العام 2005 ومن قبله في نفس العام عبد الله غل، ولكن الصراع الدائر داخل تركيا الآن؛ هو بين توجهين؛ الأول، والذي يمثله أردوغان وحزبه، في السعي لتحقيق قدر من الاستقلال عن الهيمنة الغربية، والثاني الذي يمثله خصومه الذين يرون أن التبعية المطلقة للغرب هي الضامن الوحيد لبقاء الدولة التركية، إلا أنه وإن كانت هذه أسباب كافية للتعاطف مع التجربة التركية، وتفضيل العدالة والتنمية -إلى جانب أسباب أخرى- على منافسيه، فإنها ليست كافية لبناء الرهانات عليها ما لم يستقر هذا الصراع بقدر مطمئن، لا من حيث استقرار العدالة والتنمية في الحكم، بل من حيث استقرار أيديولوجيا الدولة التركية على موقف نهائي من تبعيتها للغرب وامتلاكها لقرارها فيما خص القضية الفلسطينية.