مقالات مختارة

الدولة الموازية في مصر

1300x600
طول الوقت كنا ندافع عن حق الناس في أن يعرفوا ما يجري في البلد، لكننا اكتشفنا أخيرا أننا كنا مبالغين في الطموح وأن علينا أن نتواضع في تطلعاتنا في ظل النظام الجديد، إذ لا يليق أن نطالب بذلك الحق للناس إذا كانت الحكومة ذاتها لا تعرف. على الأقل فتلك هي الرسالة التي تلقيناها في ثنايا إعلان استقالة حكومة الدكتور حازم الببلاوي، الذي لم يفاجئنا نحن فقط، ولكنه فاجأ الوزراء أنفسهم، وأغلب الظن أنه فاجأ رئيس الحكومة شخصيًا.

صباح يوم الإثنين 24/2 الذي أعلن خبر الاستقالة بعدة بساعات، نشرت صحيفة «المصري اليوم» على صدر صفحتها خبرا كان عنوانه: «الببلاوي: لا مشاورات حول التعديل الوزاري حتى الآن». وتحت العنوان ورد النص التالي: «شدد الدكتور حازم الببلاوي رئيس مجلس الوزراء على عدم إجرائه مشاورات حول التعديل الوزاري حتى الآن. وقال إن الحقيقة الوحيدة حاليا هي وجود وزارتين شاغرتين هما الإنتاج الحربي والتعاون الدولي. ومن المحتمل أن تكون هناك وزارة ثالثة شاغرة (يقصد وزارة الدفاع في حالة ترشح المشير السيسي للرئاسة).»

ذكرت الصحيفة في التصريحات «الخاصة» التي أدلى بها أن الحكومة تعمل بشكل مستمر، وقد أقرت تعديلات القوانين التي سيكون لها مردود إيجابي على تدفق حركة الاستثمار قريبا.

معلومات الدكتور الببلاوي كانت في حدود ما شاع بيننا طول الأسابيع الماضية من أن الرجل باق في منصبه حتى إجراء الانتخابات الرئاسية (في شهر أبريل في الأغلب)، من ثَمَّ فإن التعديل سيكون في حدود شغل المناصب الشاغرة، وليس في الحكومة كلها بما فيها رئيسها. إلا أن ما حدث معه كان مماثلا لما حدث في دستور 2013، حين نصت خارطة الطريق على تعديل بعض مواده، ثم اكتشفنا أن الدستور كله تغير وجيء لنا بدستور جديد.

كان الدكتور الببلاوي مطمئنا إلى بقائه في منصبه، بدليل أن جدول أعماله للأسبوع الحالي تضمن رحلة كان مقررا أن يقوم بها اليوم (الأربعاء) إلى نيجيريا لحضور اجتماع السلم والأمن في إفريقيا (وفد ترتيب الزيارة سافر قبل ساعات من إعلان الاستقالة). وبسبب تعارض رحلته المقررة مع موعد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء الذي يقعد في نفس التوقيت، فقد تم التبكير بعقد الاجتماع يوم الإثنين. 

وبدلا من أن يبدأ الاجتماع باستعراض جدول أعمال الجلسة، فإن الدكتور الببلاوي افتتحها بكلمة قال فيها إن الظروف الطارئة التي تمر بها البلاد باتت تفرض على الوزارة أن تقدم استقالتها بصورة جماعية. وهو ما فوجئ به الجميع، ليس فقط لأنه لم تكن هناك أي مقدمات توحي بذلك، وإنما أيضا لأنه لم يشرح للوزراء طبيعة تلك الظروف الطارئة. ولأن كلامه كان لإبلاغ الوزراء وليس لمناقشة الموضوع، فإن الاجتماع لم يستمر لأكثر من 15 دقيقة، عاد بعدها كل وزير لكي يجمع أوراقه من مكتبه.

المفاجأة لم تكن من نصيب الوزراء وحدهم ولكنها كانت أيضا مفاجئة للمجتمع المعني بالموضوع، حيث لم يتوقع أحد أن يطالع في الصباح ما نشر عن التعديل الوزاري وبرنامج سفره إلى نيجيريا، ثم يتغير كل شيء عند الظهر، دون أي تفسير أو تبرير.

منذ أذيع الخبر والناس يضربون أخماسا في أسداس، ولا أحد فهم شيئا مما حدث، الأمر الذي فتح الباب واسعا للتأويلات. وفي حدود علمي فإن الأمر حسم مساء الأحد في لقاء جمع بين المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية وبين الدكتور حازم الببلاوي. أما ما الذي تم في ذلك اللقاء، فذلك لغز لا سبيل إلى تفسيره، حتى الآن على الأقل، من ثَمَّ فإننا لا نعرف على وجه الدقة ما إذا كان الدكتور الببلاوي قد قدم استقالته فعلا، أم أنه أقيل من منصبه، ولكل احتمال أنصاره الذين أكدوه. وإن كانت أغلب الآراء التي عبر عنها المشاركون في البرامج التلفزيونية الحوارية التي جرت في مساء اليوم ذاته قد مالت إلى فكرة الإقالة وليس الاستقالة.

لم تتوقف المفاجآت عند ذلك الحد، وإنما لاحظنا أن اسم رئيس الوزراء الجديد قد ظهر بعد ساعات قليلة من إعلان استقالة الحكومة، حيث لم يعلن عن مشاورات أو ترشيحات، الأمر الذي يعني أن الأمر كله كان مرتبا من قبل، وأن الدكتور الببلاوي وأعضاء حكومته كانوا ــ مثلنا ــ آخر من علم بالموضوع.

ما جرى يسوغ لنا أن نسجل الملاحظات الثلاث التالية:
< إن المشهد كله بدا غامضا وناعيا إلينا موت الشفافية، الأمر الذي يكرس انفصال المجتمع عن القرار السياسي. فلا نحن عرفنا من أصدر القرار ولا فهمنا طبيعة الظروف الطارئة التي اقتضته. ولا كيف تمت المشاورات، ولكن مبلغ علمنا أن ذلك كله أعد في السر وأن الطبخة كانت جاهزة قبل بداية الأسبوع، الأمر الذي يثير أكثر من علامة استفهام حول الجهة التي تدير مصر في الوقت الراهن، وعن صحة الادعاء بأن في البلد دولة موازية إلى جانب الدولة العميقة واحتمال اندماجها مع بعضهما البعض.

< إننا بصدد تغيير في الوجوه وليس في السياسات. ولئن تمت إقالة الحكومة أو استقالتها بعد انتشار الإضرابات العمالية وانفضاح أمر التعذيب والانتهاكات في السجون المصرية، فلم تظهر في الأفق بادرة توحي بأن ثمة سياسات جديدة في الطريق، بدليل التأكيد على استمرار وزير الداخلية في منصبه أو استبداله بأحد رجاله رغم كل الدماء التي سالت في عهده والانتهاكات التي وقعت.

< إن ما جرى يعد إعلانا مجددا عما وصفته من قبل بموت صحافة الخبر في مصر، بعدما أصبحت الأخبار مقصورة على التسريبات الأمنية. ذلك أن الإعلام المصري كله فوجئ بالاستقالة، بما في ذلك الصحف التي تتباهى طول الوقت بانفراداتها وقدرتها على اختراق المستحيل، كما تقول.

لقد عاد المجتمع المصري إلى السياسة بعد ثورة 25 يناير، لكنها عودة من طرف واحد، لأننا اكتشفنا أن السياسة لم تعد إلى المجتمع.

(بوابة الشرق)