مقالات مختارة

أخطر «دبوس» في العالم!

1300x600
في كتاب اللامعقول الحاصل في مصر الآن أضيف هذه الحكاية: ذهبت الطبيبة صباح الثلاثاء 28 يناير إلى عملها في مستشفى ميت غمر بعدما أضافت إلى ثيابها «دبوسا» يحمل شارة رابعة، وفاء لذكرى زميل لها توفاه الله، دون أن تدرك أنها بذلك ارتكبت إحدى الكبائر في زماننا.



وهو ما لفت انتباه مدير العيادات الخارجية الذي سارع إلى نقل الخبر إلى مدير المستشفى الذي انتفض بدوره وأمر باستدعائها إلى مكتبه. عاتبها الرجل في البداية وسألها عن السبب في اقتنائها الدبوس فروت له قصته، لكنه نهرها وطلب منها أن تخلعه.



لكنها رفضت قائلة إن ذلك أمر يتعلق بزيها ومظهرها ولا دخل له بهما. إلا أنه أصر على موقفه وتوعدها قائلا إنه يعرف كيف يجبرها على خلع الدبوس. وبعدما خرجت الطبيبة من مكتبه قاصدة معمل الأشعة الذي تمارس فيه اختصاصها، أوعز مدير المستشفى ومدير العيادات الخارجية إلى أحد العاملين بقسم الأشعة لكي يكتب شكوى كيدية ضد الطبيبة، يتهمها فيها باستفزاز المواطنين جراء ارتداء الدبوس، وبالخشية من تسببه في إتلاف الأجهزة. بعد ذلك قام مدير المستشفى بإبلاغ الشرطة بالحالة، مدعيا قيام الطبيبة بالتجمهر في مكان العمل، إزاء ذلك قدم إلى المستشفى على الفور ضابط شرطة مصحوبا ببعض الجنود، دلهم المدير على قسم الأشعة، فقام الضابط باقتحام غرفة الطبيبة أثناء قيامها بالكشف على إحدى المريضات، وأبلغها بالقبض عليها. وحين سألته عن قرار النيابة الذي يخوله ذلك فوجئت الطبيبة بقيام الضابط بسبها بأقذع الشتائم وجذبها من شعرها والاعتداء عليها بالضرب بمعونة أفراد الشرطة المصاحبين له. ثم قام الرجل بجرها على الأرض من غرفة الكشف حتى سيارة الشرطة، وقام الجنود بحملها وإلقائها داخل السيارة. وهو ما تم أمام جميع الحضور بالمستشفى من عاملين ومرضى.



لم يقف الأمر عند حدود التأديب والإهانة، وإنما تحولت مسألة الدبوس إلى قضية. فأحيلت الطبيبة مرفت مصطفى جليلة إلى النيابة الكلية بالمنصورة، وتداول عرضها على رئيس النيابة ثم المحامي العام ثم المحامي العام الأول، وبعد تحقيق معها استمر أربع ساعات أمر المحامي العام بحبسها 15 يوما على ذمة التحقيق في القضية رقم 644 لسنة 2014 إداري بندر ميت غمر. وللتنكيل بها فإن مسألة الدبوس لم تذكر ولكن وجهت إليها عدة اتهامات من بينها الانضمام إلى جماعة محظورة، والاشتراك في تجمهر وتعطيل العمل بالمستشفى. وهي الآن رهن الحبس بمركز شرطة ميت غمر، في انتظار نظر القضية.



المعلومات السابقة كلها وردت في بيان أصدرته لجنة الحريات بنقابة الأطباء، التي ما إن علمت بما حدث حتى أوفدت من تحرى وقائع ما جرى، من خلال الاستماع إلى شهادات العاملين بالمستشفى الذين رأوا بأعينهم اقتحام الضابط لغرفة الأشعة وسحل الطبيبة وإلقاءها في سيارة الشرطة. وبناء على ذلك احتجت لجنة الحريات، وخاطبت 4 جهات من خلال مذكرات مكتوبة وقعها مقرر لجنة الحريات الدكتور أحمد حسين عبدالسلام والأمين العام للنقابة الدكتورة منى معين مينا. وهذه الجهات هي: وزارة الداخلية والمجلس القومي لحقوق الإنسان والنائب العام ووزيرة الصحة. ورغم مضي تسعة أيام على الواقعة لم تتحرك أي من تلك الجهات الأربع، الأمر الذي اعتبره مقرر لجنة الحريات «تجاهلا متعمدا وانحيازا للسياسات الأمنية الحالية».



من كان يتصور أن تحدث قصة من هذا القبيل بعد الثورة التي شهدتها مصر ضد الاستبداد والفساد اللذين خيما على البلاد طوال أكثر من ثلاثين عاما؟ ــ وهل كان يمكن أن يحدث ذلك لولا النجاحات التي حققتها الثورة المضادة، في ظل الأوضاع المستجدة، التي كادت تفرغ شعارات ثورة يناير من مضمونها؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن هناك من سعى إلى استثمار المعركة الراهنة ضد الإخوان وحلفائهم لكي يحولها إلى سعي صامت لتصفية آثار ثورة يناير واستعادة نظام مبارك الأمني؟ ثم أليس محيرا ومدهشا ذلك الفزع الذي ينتاب عناصر المؤسسة الأمنية بكل عضلاتها وهيلمانها من رؤية شعار رابعة على دبوس صغير أو رؤيته مرسوما على مسطرة مع تلميذ أو مطبوعا على قميص لفتاة جامعية، وهل هذا الفزع علامة قوة أو علامة ضعف؟



لا يقولن أحد إن ما جرى في مستشفى ميت غمر كان تصرفا شخصيا وتجاوزا من جانب ضابط الشرطة، لأن كثيرين ينسون أن الدنيا تغيرت وأن الناس كسرت حاجز الخوف، بحيث صاروا يفضحون ممارسات الشرطة من خلال شبكة التواصل الاجتماعي، الحافلة بقصص التجاوزات التي لا تكف الشرطة عن ممارستها بحق الناس. وليت الذين يراقبون ما تبثه المواقع من رسائل تنتقد النظام وتشهر به، يلقون نظرة على الرسائل الأخرى التي يعبر بها المواطنون عن معاناتهم وأوجاعهم وشكواهم من عسف الشرطة ومظالمها. علما بأن تجاهل تلك المظالم يعيدنا إلى عصر الشرطة التي كانت في خدمة النظام وهراوته التي يقمع بها الشعب.



في المأثور الفرعوني أن فلاح مصر الفصيح خن انوب كانت له مظلمة لدى النبيل رينسي بن ميرو وظل تسعة أيام ينتظر إنصافه. وبعد ما أصابه الإحباط هجا النبيل وقرر الرحيل، إلا أن الأخير أدرك فضائله فأنصفه ورد عليه مظلمته. وقد أمضت الطبيبة مرفت تسعة أيام مماثلة في الحبس تشكو إلى الله وليس بوسعها الرحيل، لكنها تنتظر النبيل الذي ينصفها ويرفع الظلم الذي حل بها. طالما أن القانون لم يوفر لها الحماية، وطالما خذلتها الجهات الأربع التي استنقذت بها نقابة الأطباء. علما بأن خذلان مجلس حقوق الإنسان والمرأة أشد مضاضة، وهو أمر ليس مستغربا على كل حال في ظل التحاق الجميع بالمؤسسة الأمنية، وما أدراك ما هي!



(بوابة الشروق)