بورتريه

وجهان لمصر.. أم الدنيا: مرسي والسيسي (بورتريه)

مرسي - عربي 21
مصر واقعة بين زمانين، ورجلين، أحدهما رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب والمعتقل لدى الرجل الآخر الذي هو قائد الجيش يستند إلى ما يسمى "تفويضاً من الشعب" بوضع خارطة طريق لمصر ما بعد " الإخوان المسلمين".

"حزب القوات المسلحة" بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي أزاح حزب "الإخوان المسلمين" من الواجهة السياسية بانقلاب عسكري غلف بورقة "الجمهور عايز كده"، وبالتالي بات وصفه بالانقلاب جريمة يعاقب عليها قائلها بالإقصاء من الحياة أحيانا.

الرجل الأول الرئيس محمد مرسي، وفقا لأنصار دعم الشرعية، حمل لقب رئيس جمهورية مصر العربية، سيادة الرئيس، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، دخل قاعة المحكمة بوصفه متهما بالتحريض على القتل، إضافة إلى مسميات أخرى: فهو الرئيس المعزول أو المقال أو المخلوع أو الأسير أو المعتقل وفقا لموقع الخبر ومكان نشره وجهته.

هو الآن سجين لدى وزير الدفاع الذي عينه مرسي في موقعه هذا رغم اعتراض الكثيرين على هذا التعيين، مصيره مجهول، هل يعود من جديد رئيسا لجمهورية مصر العربية، هل يسجن لفترة طويلة بتهم ملفقة، هل يبقى في الإقامة الجبرية في منزله، هل يخرج من مصر إلى دولة أخرى، هل يتم إعدامه، هل يقتل في ظروف غامضة وبطريقة يصعب كشفها؟!

انتخب بانتخابات نزيهة بنسبة أصوات تزيد قليلا عن الأصوات التي حققها الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي عجز حتى الآن هو ومستشاروه ومساعدوه، الذين يزيد عددهم عن 500 موظف، عن توصيف ما حدث بمصر .

منذ اليوم الأول لتسلمه الحكم وقف ضده الجيش والأجهزة الأمنية والأجهزة الخدمية كافة، وسفارات عربية وأجنبية ومنظمات دولية ومجتمع مدني، وفلول النظام السابق وتحالف رجال الأعمال الفاسدين، وضخّت أموال عربية الدمِ واللسان إلى جيوب السياسيين والمعارضين له وأصحاب القنوات الفضائية.

ورث مرسي تركة ثقيلة تقصم الظهر، وهو حين وقف على تخوم الواقع المرّ لمصر، حاضنةِ العروبة وبوابةِ المستقبل العربي، وجد أمامه عشرات الملفات التي تحتاج إلى سنوات من الصبر والعمل والصد والرد.

لا يوجد ملف مصري لا يواجه معضلة أو مأزقا، سواء كان ملفا داخليا أو خارجيا، كل الملفات كانت عبارة عن قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أيّة لحظة، وساحة مفتوحة أمام جميع الاحتمالات.

في دولة وصلت ديونها إلى أرقام فلكية (الديون الخارجية نحو 34 مليار دولار والديون الداخلية نحو 250 مليار دولار)، يحتاج المرء إلى أكثر من عصا سحرية أو كيس ممتلئ بالنوايا الطيبة.

وقف مرسي على حد السكين، واجه ماكينةً إعلامية رصدت لها ملايين الدولارات من الداخل والخارج، حملةً إعلامية حكمت عليه بالفشل منذ اليوم الأول في مواجهة مشاكل تراكمت منذ أن طبّق الرئيس المصري الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح، كما واجه ضغطا شعبيا متزايدا لتصحيح أخطاء عالقة منذ عشرات السنين بأقصى سرعة وبقفزة تفوق قفزة فليكس الأسطورية.

كان هدفا للمعارضة، داخلياً خارجياً، المعارضة التي أوحت بأنّ رئاسة مرسي لمصر هي رئاسة "إخوانية" وبأنّ البلاد أصبحت "عزبة للإخوان".

مرسي كان حاسما وربما تعجل الأمر قليلا في السياسة الخارجية مما أثار مخاوف الكثيرين، فلسطينياً فتح المعابر التي أغلقها مبارك، وتنفس أهالي غزة الصعداء في عهده، كما أنّه سارع إلى قطع علاقات بلاده مع سوريا وطالب في أكثر من موقع بتنحّي الرئيس بشار الأسد عن السلطة، وكان حذرا في التعاطي مع الملف الإيراني وسط هواجس ومخاوف حقيقية من دول الخليج العربي من طموحات إيرانية للعب دور شرطي المنطقة وهو نفس الدور الذي لعبه الشاه سابقا.

وكان الأمر أشبه بالانتصار عند البعض، بعد أن تحدّث مرسي أمام قمة حركة عدم الانحياز التي استضافتها طهران حيث "ترضى" على الخلفاء الراشدين. وحين أقحمت الترجمة الفارسية لكلمته اسم البحرين في النص الذي لم يقله أصرّت الخارجية المصرية على التصحيح.

مرسي لم يكن ممثلا لـ"الإخوان المسلمين"، رئيس الوزراء ومعظم أركان وزارته لم يكونوا من "الإخوان"، قادة الأجهزة الأمنية والجيش وكبار المسؤولين في الدولة لم يكونا "إخوانا" كانوا من بقايا النظام السابق، وسائل الإعلام كانت مستقلة لدرجة أنّها تمادت في انتقاده بشكل شخصي مسيء و"قليل الأدب" من قبل بعض الإعلاميين الذين تحوّلوا إلى "الردح"، دون أن يغلق فضائية أو صحيفة واحدة.

يقال إنّ الانقلاب العسكري لم يكن وليد الثلاثين من حزيران (يونيو)، وإنما بدأ الإعداد له منذ اليوم الأول لانتخاب مرسي وسقوط أحمد شفيق أمام صناديق الاقتراع، وأنّ الشارع لا دخل له في ما جرى.

لقد احتاج الغرب والعالم إلى سنوات طويلة من التطويع وأنفقت ملايين الدولارات من أجل جرّ تيار الإسلام السياسي إلى صناديق الاقتراع والاندماج بالقنوات الديمقراطية، الآن ثمة إحساس لدى الإسلاميين بأنّهم سرقوا سياسيا وإعلاميا.

يقول المراسل الأمني لـ"بي بي سي" فرانك جاردنر في مقال له :" إنّ الرسالة التي سيفهمها الإسلاميون من الإطاحة برئيس إسلامي منتخب وتعطيل الدستور هي أنّ صندوق الاقتراع ليس بالضرورة أفضل من البندقية".

في أول ظهور له بعد "الإقصاء" ترجل من طائرة الهوليكبتر بثقة، وكـ "جنتل مان" أغلق زر الجاكتة، وسار مع مرافقيه بهدوء كرئيس جمهورية منتخب يستعرض حرس الشرف، ولم يكن ثمة حرس شرف يؤدي التحية العسكرية "سلام قف"، وإنما عسكر ورجال مخابرات رافقوه نحو قاعة المحكمة بأكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس.

ومنذ دخوله قاعة المحكمة وحتى مغادرته لها، أصر على أن يخاطب بوصفه رئيس الجمهورية المنتخب.

الرجل الآخر هو القائد العام للقوات المسلحة، ووزير الدفاع في الحكومة المصرية المشير عبدالفتاح السيسي، وواقعيا هو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والرجل الأول والأخير في منظومة مصر ما بعد الانقلاب، والمرشح الأوحد للانتخابات الرئاسية، وهو الآمر والناهي في المشهد السياسي في مصر، وعلى مقاسه تفصل المقالات والخطب العصماء.

هو بعد الانقلاب قائد الحرب على "التطرف والإرهاب"، وهو أيضا الخائن، وفقا لأنصار الشرعية، الذي غدر بالرئيس مرسي الذي رقاه من رتبة لواء في إدارة المخابرات الحربية إلى رتبة فريق أول وعيّنه وزيرًا للدفاع وقائدًا عامًا للقوات المسلحة، خلفًا للمشير محمد حسين طنطاوي، وقبل تبنيه من قبل مرسي لم يكن معروفا لمعظم المصريين.

عندما كان تحت مظلة الثورة قام بمهاجمة عنف الأمن في التعامل مع المتظاهرين، مؤكداً ضرورة تغيير الأمن لثقافته في تعامله مع المواطنين وضرورة حماية المعتقلين وعدم تعرضهم للتعذيب. وعندما دخل في لعبة إسقاط الرئيس المنتخب مارس الأمن والجيش تحت إدارته ما يمكن أن يقع تحت بند "جرائم ضد الإنسانية" بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وضحايا سيارات الترحيلات وسجن أبو زعبل.

لم يعاصر السيسي المولود عام 1954 كبرى الحروب التي خاضتها مصر، فقد كان يبلغ عامين فقط حينما شنت "إسرائيل" وفرنسا وبريطانيا عدوانا ثلاثيا على قناة السويس، وكان في 12 من عمره فقط في حرب 1967 كذلك حرب أكتوبر 1973 التي اندلعت قبل أربعة أعوام من التحاق السيسي بالجيش.

الجيش الذي عاصره السيسي كان أقرب إلى آلة يتم تطويعها لكي تدر منافع ومكاسب جمة لضباطها المخلصين أكثر من كونها آلة حرب، واعتمد الجيش منذ حينها على مجندين من كافة شرائح المجتمع المصري، وبناء عليه كان أقرب إلى تحقيق مبدأ الجدارة والكفاءة في دولة غرقت في بحر المحسوبية والفساد.

ووفقا لمجلة "نيوزويك": "كلما ارتقى الضباط في المراتب، زادت فرصة معيشتهم داخل عالم معزول عن سائر المجتمع، حيث كانت لديهم منازلهم الخاصة ونواديهم ومدارسهم، نظرا لأن المؤسسة العسكرية عمدت إلى تطوير إمبراطوريتها الخاصة في الصناعة ومجال البناء".

وبالرغم من دعم الجيش مبارك على مدار أعوام طويلة، إلا أن ضباطه أدركوا أنه أصبح لزاما عليهم الاصطفاف إلى جانب الثوار حفاظا على مؤسساتهم ومصالحهم والتخلص مرحليا من مبارك شريطة الإبقاء على سياسته.

ولفتت مجلة "فورن بولسي" إلى إنه "بينما كانت البلاد تتجه نحو إجراء أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير في 2012، أصبح جليا أن جماعة الإخوان المسلمين تمتلك أقوى بنية سياسية وتنامت حظوظها في الفوز بالاستحقاق الشعبي، وما كان من ضباط الجيش سوى التفاوض مع خصومهم السابقين -الإخوان- حول كيفية تأثير فوزهم بالانتخابات على الجيش والعكس صحيح، وكان مرسي ممثلا للجماعة خلال هذه المحادثات والسيسي تولى الحديث حينها نيابة عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة."

من هنا نشأت ثقة مرسي به، وهي ثقة سيكتشف العالم فيما بعد بأنها كانت في غير موضعها، على الأقل بالنسبة لداعمي مرسي، ففي مكان ما.. كانت تدار عملية انقلاب كبرى بدعم خليجي سخي، أنفق على العسكر والأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام ونخب من الحركات الشعبية بهدف إسقاط "الإخوان" كمقدمة لإجهاض الربيع العربي.  

السيسي أعلن أكثر من مرة "أن القوات المسلحة كانت وما تزال وسوف تظل بعيدة عن العمل السياسي". ثم فجأة أصبح العسكر هم الثورة والشعب، وأصبح السيسي رجل مصر القوي، ومرشحا مدنيا لرئاسة الجمهورية العام المقبل.

الإعلام المصري الذي فقد ريادته ورمزيته ودوره الطليعي في الوطن العربي، عاد سيرته الأولى في التطبيل والتزمير للعهد الجديد، وباتت صور السيسي وأخباره تتسيد نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف والميادين. 

حالة فوضى من الكراهية تترسخ يوما بعد يوم في مصر، لا لشيء، فقط من أجل تمهيد الطريق أمام  الجيش ليحكم من خلال جنرال مدني، وأيضا من أجل "شيطنة الإخوان" وتحويلهم إلى "كفار وخوارج" ينبغي التخلص منهم حتى لو كان زوجا أو زوجة. 

الوقت في مصر يتدحرج في دوائر لا نهائية من الصدام والفوضى والإقصاء والكراهية، ووفقا لـ "الفيننشال تايمز"  تجتاح مصر"حالة تملق للمؤسسة العسكرية هي أقرب للإضراب العقلي الجماعي".

مصر أم الدنيا، باندفاعها الحالي نحو الصدام وغياب العقل وأي نية للحوار لم تعد صالحة لحكم الجيش و"الإخوان" لن يسمح لهم بالحكم من قبل الجيش، دوائر من الشك والريبة باتت تحيط بالغلاف الجوي لقاهرة المعز، من يعيد بوصلة مصر إلى الاتجاه الصحيح!!!!