سياسة عربية

ملف مصالحات البناء بمصر.. أمر به السيسي فتربح الفاسدون وخسر المصريون

ملف التصالح على مخالفات البناء بدأ منذ عام 2017- الاناضول
في الوقت الذي قرر فيه رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، منع المصريين من البناء بالأراضي الزراعية عبر ترسانة قوانين تؤصل لجباية الأموال من المخالفين لكنها في النهاية جعلت من شعب أغلبه فقراء نهبا للفاسدين من موظفي الدولة، بل إنه لم يحافظ على تلك الأراضي ويواصل تخصيصها للجيش ولأغراض البناء بحجة، "المنفعة العامة".

وكما تعامل السيسي، مع معارضيه تعاملا أمنيا خشنا منذ انقلابه العسكري عام 2013، والذي أطاح بحكم أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا، الراحل محمد مرسي، تعامل في ملف البناء في مصر والذي شهد طفرة نهاية عهد حسني مبارك وإثر ثورة يناير 2011، تعاملا أمنيا خشنا، وهدم آلاف المباني بحجة مخالفتها القانون.

وفي حزيران/ يونيو 2017، وبعد أن أفزع مشهد هدم جرافات الشرطة والجيش والإدارات المحلية آلاف الوحدات؛ أعلن السيسي، أن "من يُريد تقنين مخالفاته فليأت ومعه حقائب النقود".

ما دفع بملايين المصريين للهرولة نحو دفع ربع قيمة التصالح المقررة بقانون حكومي، وتقديم الأوراق والأموال لموظفي الإدارات المحلية والسماسرة الذين قاموا بابتزاز المصريين بدعوى تسهيل تقديم الملفات التي كان من المحتمل أن تحمل للخزينة المصرية نحو 11 مليار دولار من نحو 20 مليون مخالفة في 40 مليون وحدة عقارية، وفق بعض التقديرات.

بل إن السيسي، وفي 29 آب/ أغسطس 2020، استخدم اسم الجيش ليهدد به المصريين لوقف البناء، حيث قال: "لو لزم الأمر هخلي الجيش ينزل كل قرى مصر، ننزل القرى وأشيل كل الكلام ده بالمعدات الهندسية".

لكنه أعلن حينها عن خيبة أمله، في هذا الملف لأن حصيلة ملف التصالح لم تتجاوز الـ10 بالمئة فقط، موضحا أن هناك 700 ألف طلب تصالح حتى الآن، فيما أكد في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، أن حجم مخالفات البناء بلغت 2.7 مليون مخالفة.

ولهذا فإن لهجة تهديده المصريين لمنع البناء وصلت في أيلول/ سبتمبر 2021، حد التلويح بقطع الدعم من خبز وتموين عن من يبني على الأراضي الزراعية، ثم لاحقا إقرار عقوبة الحبس والغرامة.

وبدأ ملف التصالح على مخالفات البناء منذ العام 2017، بقانون يحدد قيمة التصالح ولائحة تنفيذية تنظم الأمر، ثم إصدار القانون (17) لعام 2019، ولائحته التنفيذية، ليقر البرلمان القانون الثالث في تشرين الأول/ نوفمبر 2023، ويعتمده السيسي في الشهر التالي.

لكنه ومع تلك القوانين إلا أن المنجز بهذا الملف قليل، وما دخل الخزينة أقل من المتوقع، بل إن مئات الآلاف من المصريين دفعوا مبالغ مالية كرشى تفوق ما ستحصل عليه الحكومة لقاء المصالحات، ما اعتبره البعض تقنينا للفساد الإداري وإهدارا لملايين الجنيهات لم تدخل خزينة الدولة منذ 2017.

وخلال الأيام الماضية جرت انتقادات برلمانية للحكومة المصرية لتقاعسها عن إصدار اللائحة التنفيذية لقانون التصالح في مخالفات البناء فيما أكد عضو مجلس النواب إيهاب منصور أن تأخر صدور اللائحة أضاع نحو 6 مليارات دولار على الدولة وتسبب في دفع المصريين ملايين الجنيهات كرشى لموظفي الوحدات المحلية.

ويؤكد مصريون تحدثوا لـ"عربي21"، أن ملف مصالحات البناء فرضه السيسي بالقوة بعد تنفيذه عمليات هدم واسعة لآلاف المنازل وقرر عقاب المصريين على بناء مساكنهم بحجة البناء في الأراضي الزراعية، بينما يواصل هو عمليات البناء في الأراضي الزراعية، ثم حول موظفي الحكومة في المحليات إلى مرتشين ودفع المصريين لهم ملايين الجنيهات كرشى ولم تستفيد الدولة إلا ربع قيمة تلك المصالحات.


"تربح وفساد"
أبو محمد، خمسيني مصري يعمل في إحدى شركات القطاع الخاص بمدينة العبور بمحافظة القليوبية، يقول لـ"عربي21"، "اشتريت 100 متر في أطراف قريتي عام 2009، وقمت ببنائها عام 2011، بالطوب الأبيض (الدبش)، لي ولأولادي بدلا من السكن بالإيجار".

ويضيف: "وتقدمت بملف التصالح عام 2019، ودفعت نحو 3 آلاف جنيه، مقدم تصالح ورسم هندسي، وتقرير استشاري، بجانب 500 جنيه حصل عليها موظف الوحدة المحلية".

ويبين أنه "بعد فترة جاءتني لجنة من المدينة بها مهندس، وموظف، وموظف الوحدة المحلية، لمراجعة الرسم وأخذ المقاسات وطلبوا 900 جنيه استلفت نصفها من الجيران".

ويتابع: "جانب من حائط البيت تم هدمه، فجائني موظف الوحدة المحلية وحصل على مبلغ 400 جنيه لكي لا يبلغ عن تغيير بالرسم الهندسي ولا بالمبنى، وحاولت إصلاح الحائط ولكن بعد أيام جاءني موظف من مجلس المدينة يقول إن المتغير أو القمر الاصطناعي رصد بناءك، وعليك مخالفة، فأوضحت له أنني متصالح وقدمت نموذج 3 مصالحة".

ويلفت إلى أنه "بعد أيام جاءني مهندس آخر ولجنة أخرى تقول إنه يجب دفع رسم معاينة وتكلفة رسم هندسي جديد 1200 جنيه، بعد سقوط الحائط، فقلت لهم ليس معي فقالوا ملفك سيقف وجهز الفلوس وتعالى مجلس المدينة للجنة الفنية وادفع هناك، فاضطررت لدفع المبلغ للمرة الثالثة".

ويؤكد: "أنا رجل فقير واضطررت لدفع أكثر من 6000 آلاف جنيه دون وجه حق علما بأن الإجمالي المطلوب مني للتصالح المفروض حوالي 4500 جنيه".

"متاجرة ونصب"
ويقول "أحمد"، أربعيني مصري يعمل بالأزهر الشريف: "تقدمت للتصالح، عام 2019، ودفعت ثمن معاينة ورسم هندسي وتقرير صلاحية بأكثر من 4500 جنيه، وطوال سنوات لم أحصل على أي ورقة أو نموذج 10 تصالح والذي يعني نهاية الملف".

ويضيف لـ"عربي21": "تواصلت مع موظف الوحدة المحلية الذي أخذ أول مبلغ مني لتسهيل مرور الملف، فأرسل لي موظفا من اللجنة الفنية في مجلس المدينة، الذي طلب مني 2000 جنيه لتمرير الملف خلال أسبوع واحد، ولأني أريد أن أصب سقف بيتي المكون من دور واحد بمساحة قيراط (175 مترا)  لكي أزوج ابني اضطررت لدفع المبلغ".

ويوضح، أنه "بعد أسبوع تواصلت مع الموظف، ولكنه طلب 500 جنيه أخرى، لدفعها لما يسمى بالشبكات و500 أخرى للحصول على موافقة الحماية المدنية، فرفضت وتأكدت أنه يستغل حاجتي، وطلبت نقودي فلم يردها لي، وعندما ذهبت لمجلس المدينة أكدوا لي أنه تم القبض عليه في تهمة تعاطي المخدرات، وأنه نصب على كثيرين من أصحاب ملفات التصالح".

"لماذا يعاقبوننا؟"
وتقول سيدة مصرية تقيم منزلا لها بالطوب الأبيض "الدبش"، إن "الحكومة تعاقبنا على بناء مساكن لأنفسنا رغم أننا لا نطلب منها شيئا بل فقط يتركونا في حالنا".

وتوضح لـ"عربي21": "لأن منزلي حجرة وحمام وأمامه فضاء حوله سور، بمساحة 150 مترا رفضوا التصالح في البداية ثم قالوا لي جهزي الملف وادفعي ربع قيمة التصالح حوالي 1750 جنيها لإثبات الجدية، ومنذ 5 سنوات لم أحصل على أي ورقة تقول إنهم قبلوا التصالح بحجة أنني خارج الكردون".

وتضيف "ذهبت للموظف، وقال لي: إنك كنتي خارج الحيز العمراني، ولكنك بالفعل داخل الحيز الجديد، ولكن الحكومة ترفض الإعلان عن الأحوزة العمرانية الجديدة".

وتؤكد أن المصيبة الأكبر أن "مهندسة جاءتني بسيارة وقامت برفع المقاسات وطالبتني بقيمة معاية ورسم هندسي جديد وطالبتني بعرش المساحة الفارغة بالخشب أو الغاب حتى يتم قبول ملف التصالح، فقلت لها ليس معي أموال لهذا أو لذلك، فأكدت أن ملفى سيُحفظ ويضيع ما دفعته سابقا".

"الأزمة هنا"
وأكد مدير سابق لإحدى الوحدات المحلية، ونائب رئيس مجلس إحدى مدن الدلتا، لـ"عربي21"، أنه "منذ البداية هناك فجوة كبيرة بين التشريع والقوانين ولوائح القوانين التي صدرت وبين الواقع على الأرض"، موضحا أن "المواطن وقع فريسة لنهم الحكومة للمال وبين نهم الموظفين للرشا وبين دور اللجان الفنية".

ويشير إلى أن "الخطأ الأول كان بجلب الحكومة لجانا فنية من كليات الهندسة في كل محافظة ومعهم مهندسين من خارج دولاب العمل الحكومي، لمراجعة ملفات التصالح والبت فيها، وإبعاد الإدارات الهندسية بالوحدات المحلية ومجالس المدن، وقصرها فقط على استقبال الطلبات".

ويبين، أنه "كان يجب على القانون أن يكون أبسط من ذلك بأن يقرر غرامة موحدة للريف وأخرى للمدن عن كل دور مبني يتم دفعه بشكل فوري أو بالتقسيط، وبشكل مباشر من لجان حكومية تابعة للإدارة المحلية".

ويلفت، إلى أن "ما جرى هو تحميل المواطن ما لا يطيق من اللجان الفنية التي تنتدب مهندسين لمراجعة الملفات وتجبر المواطن على عمل رسم هندسي من قبلها رغم أن المبنى المخالف قائم بالفعل ولا يحتاج رسما بمقابل من 900 إلى 1500 جنيه".

ويؤكد أن "المهندسين يمعنون في تغريم الأهالي بتغيير الرسم الهندسي، ودفع رسوم جديدة وثمن معاينة جديدة كل مرة، وذلك إلى جانب المطالبة بتقرير استشاري هندسي غالبا يكون من أعضاء تلك اللجان، مع تقرير صلاحية للمبنى والذي يكون في كل الأحوال مزور، وذلك بجانب طلب إحداثيات وشهادة قضائية وأمور كثيرة يقابلها أموال بقيمة أكبر من المقرر رسميا وفق القانون لإنهاء التصالح".

"حرم المصريين ليبني"
المثير هنا أن السيسي، يحشد القوات المسلحة لمتابعة هذا الملف عبر استخدام ما لديها من بيانات التصوير الجوي التي جرى اعتماد آخرها في 15 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كما أنه أنشأ وحدة للمتغيرات المكانية بالتنسيق مع هيئة المساحة العسكرية، وذلك لرصد أي تعديات أو متغيرات في البناء بأنحاء الجمهورية.

كما أنه ولإحكام الأمر، عدل في قانون الزراعة (53) لعام 1966، وتعديلاته بالقانون (164) لعام 2022، وقرر الحبس من سنتين إلى 5 سنوات وبغرامة من 500 ألف جنيه إلى 10 ملايين جنيه، لمن خالف أحكام المادة (152) من القانون.

لكن؛ السيسي الذي يحرم المصريين من البناء على أراضيهم أو تعليتها هو نفسه الذي يواصل تخصيص أراضي زراعية للجيش وللمحافظات والوزارات بدعوى المنفعة العامة.

وقرر السيسي، عام 2016، تخصيص أراضي بعمق كيلومترين على جانبي 21 طريقا جديدا، للجيش، وبينها طرق تمر بأراضي زراعية.

وفي آذار/ مارس 2018، وتحت بند "المنفعة العامة"، خصص أراضي زراعية لبناء مدينة سفنكس الجديدة، بين القاهرة والمنوفية والجيزة، ليزيد مساحتها 3 مرات حتى وصلت 76 ألفا و931 فدانا في كانون الثاني/ يناير 2020.

وفي 2020، أيضا خصص 70 ألف فدان زراعي من الحزام الأخضر بالجيزة، للجيش، لبناء مساكن.

بل إنه وفي أيلول/ سبتمبر 2020، اعترف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، بأنه نزع ملكية 62 ألف فدان زراعي وحولها للنشاط العمراني.

وطال ذلك التخصيص أيضا أراضي الوقف الزراعي، عبر القانون (15) لعام 2022، في آذار/ مارس، بتخصيص 900 ألف فدان، من أراضي الإصلاح الزراعي، لإقامة منشآت ذات نفع عام.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قرر السيسي تخصيص أراض بعضها صالح للزراعة والآخر كان مخصصا للاستزراع لأغراض مثل إقامة مصنع أعلاف بأسوان، ومحطة تخفيض غاز بالبحيرة، ومساحة 28958 فدانا غرب المنيا، و642 فدانا بمطروح.

"حلول ومقترحات"
وفي تعليقه قال المستشار السابق لوزير البيئة المهندس حسام محرم، إن "إزالات المساكن المخالفة بالسنوات الماضية جاء بتوقيت غير ملائم لظروف معاناة المصريين المعيشية والاجتماعية خاصة مع إرتفاع أسعار المساكن، وكان صعبا تحمل خسارة المسكن الذي يؤويه وأسرته وهو لا يملك مدخرات كافية لتوفير مسكن بديل".

ويعتقد الناشط السياسي والنقابي المصري، في حديثه لـ"عربي21"، أن "الإزالات كانت بمثابة خطأ جسيم يفتقر للمواءمة السياسية حتى لو كان الإجراء صحيحا، وربما كان ذلك فخ وقعت فيه الدولة أدي لرفع مستوى التوتر الشعبي".

ويرى محرم، أن "التصرف الأمثل بهذه المرحلة تأجيل الإزالات المساكن المخالفة التي تؤوي الكثير من الأسر البسيطة والمتوسطة التي ليس لها مأوى بديل".

ولفت إلى ضرورة "إعادة دراسة القانون، والملف برمته دراسة متأنية عبر متخصصين بالجامعات؛ وألا يُترك الأمر فقط للأجهزة الحكومية المعنية لتتخذ قرارات وقوانين تفتقر للمنطق، والعدالة، والمواءمة السياسية، والتدرج، وتجفيف المنابع، والبعد المستقبلي الوقائي".

وشدد المسؤول السابق، على أهمية "إعفاء المواطنين ضحايا النصب من مقابل تقنين المباني المخالفة القابلة للتقنين، مع تحميل قيمة المخالفات بالكامل (إن وجدت) للشركات أو المقاولين أو المطورين العقاريين الذين ارتكبوا المخالفات، وأن تلاحقهم قضائيا بقيمة التقنين، وإعفاء الضحايا".

وبالنسبة لتقنين أراضي البناء التي بيعت لضحايا نصب شركات تقسيم الأراضي التي ارتكبت مخالفات بتغيير استخدامات الأراضي من زراعي إلى سكني بما يخالف مخطط الدولة لاستخدامات تلك الأراضي، أكد محرم، أنه "يجب إعفاء الضحايا من تكلفة التقنين، وتحميل التكلفة لتلك الشركات من واقع تسلسل الملكية".

ويعتقد أنه "يجب تغيير طريقة إبرام عقود بيع العقارات والأراضي بين القطاع الخاص والمواطنين بحيث تكون عقود ثلاثية؛ كأن تكون الدولة طرف بالعقد كضامن لسلامة الإجراءات والاستخدامات (وبدون رسوم) حتى لا يتعرض المواطن لخداع وتضليل ونصب".

وقال إن "ما تحتاجه المصلحة العامة الآن؛ التركيز على منع المخالفات الجديدة، وذلك بتعظيم الاستفادة من تكنولوجيا الأقمار الصناعية في إطار سياسة وقائية بمراقبة يومية مستمرة للكتل العمرانية للرصد الفوري للتعديات وأي صور لانتهاك القانون والاشتراطات والتراخيص ومخططات استخدامات الأراضي".

وأكد أنه "لا يجوز للدولة أن تغفل عن المخالفات ثم تستفيق فجأة وتعاقب المواطن الذي اعتاد وطمع في غفلة الدولة وفساد المختصين، في ظل محدودية البدائل، ثم تستفيق أجهزه الدولة في مرحلة لاحقة بعد أن يكون قد خسر المواطن كل مدخراته في بناء أو شراء وحدة سكنية مخالفة أو أرض مخالفة".

وأشار محرم، إلى "ضرورة الحذر في تنفيذ الإزالات حتى تعبر مصر الأزمة الاقتصادية والمعيشية وحالة الركود التضخمي التي تعاني منها الدولة والمجتمع والمستثمرين وقطاعات الأعمال بما فيها صناعة الإنشاءات".

ويرى أن "هذا القانون يزيد معاناة المواطن؛ وستزيد المشكلات الاجتماعية ومعدلات الطلاق والتفكك الأسري والمشردين من الأطفال ضحايا التفكك الأسري الناتج عن قانون قاسي غير مدروس".

وختم بالقول: "لذلك فالأهم الآن منع المخالفات الجديدة، والسابقة يجب التعامل معها بحذر في ضوء المقترحات السابقة".