صحافة دولية

صحفي بريطاني: اقتلاع حماس مستحيل مهما امتلكت إسرائيل من قوة

تبنت الدول الغربية رواية الاحتلال وبررت جرائمه في غزة- جيتي
استعرض مقال للكاتب والصحفي البريطاني توم ستيفنسون، في صحيفة "لندن ريفيو" تفاصيل العدوان الإسرائيلي على غزة والرغبة -المدعومة غربيا- في تدمير القطاع.

وقال ستيفنسون: "إذا كانت إسرائيل قد أخفقت في توقع هجوم تم الإعداد له بتخطيط دقيق وعلى مثل هذا المستوى الضخم، فأنى لها أن تقوم الآن بتنفيذ عملية عسكرية متناسقة؟".

وأضاف: "لسوف يكون من سابع المستحيلات اقتلاع حماس أو تدميرها كمنظمة، حتى لو كان لإسرائيل اختراق استخباراتي واطلاع جيد على الأمور داخل القطاع".

وتابع، بأنه "منذ البداية، كانت عملية السيوف الحديدية هجوماً شاملاً على سكان أغلبيتهم العظمى من المدنيين الذين يعيشون رهن الحصار".

وأردف بأنه "لا تمت أساليب إسرائيل بكثير من العلاقة إلى مذهب مكافحة التمرد المتعارف عليه، أو إلى قواعد الاشتباك. ولذلك تعتبر الحرب على غزة في جوهرها عملية انتقامية: فعلا من أفعال العقاب الجماعي، الذي مثله مثل جميع الإجراءات العقابية".

وبيّن أن "تنفيذ الحرب له صفة عربدية. الاحتفالات بالقتل من قبل الزعماء السياسيين الإسرائيليين، المخططات الخيالية لإزاحة الفلسطينيين".

واستدرك بالقول: "لا يملك المرء سوى أن يتساءل ما الذي سيكون عليه شكل الرد لو أن الحجج التي تعتبر صالحة بما يكفي لتبرير الهجوم على غزة كانت مقلوبة رأساً على عقب".

لنفترض أن الصحف المحلية خرجت علينا بمقولات مثل: نظراً لأن حكومة إسرائيل تأمر بارتكاب فظائع منكرة، وذلك بالضبط ما هو حاصل، فإنه يتوجب قتل المسؤولين الإسرائيليين مهما كان الثمن".

وأشار إلى تصريحات المسؤولين الغربيين الذين تبنوا رواية الاحتلال التي تستخدم في تبرير قتل الفلسطينيين.

وفي ما يأتي نص المقال الذي ترجمته "عربي21”:

خلال الأشهر الثلاثة من هجوم إسرائيل على غزة قُتل ما يقرب من 25 ألف فلسطيني وجُرح ما يقرب من 60 ألفاً، 70 بالمائة منهم من النساء والأطفال وما يقرب من 80 بالمائة من السكان في غزة أجبروا على النزوح.

كان معدل القتل خلال تلك الفترة أعلى مما شهدته معظم الحروب التي شهدتها المعمورة في هذا القرن، حيث إنه وصل في بعض الأوقات إلى ما يزيد على الألفين من الوفيات في الأسبوع الواحد، ولم تسلم من القصف الجوي عربات الإسعاف ولا المخابز ولا مدارس الأمم المتحدة التي تحولت إلى ملاجئ للنازحين.

قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد على الـ150 من موظفي الأمم المتحدة، بينما تحولت المنظمات الخيرية الدولية إلى مجرد وكالات مهمتها تدوين أعداد الأطراف التي تبتر في كل يوم. وإذ يصر المسؤولون الإسرائيليون على الاستمرار في النفي السخيف لوجود أي نوع من الأزمات الإنسانية، فقد تحولت معظم المراكز الحضرية في غزة إلى ساحات بركانية من الأكوام الرمادية والسوداء غير المتساوية.
 
شاعت الرغبة داخل إسرائيل في الانتقام للهجوم الذي وقع يوم السابع من أكتوبر. إلا أن الجيش الإسرائيلي كان بكل وضوح يعلم أقل بكثير مما كان يعتقد بذلك الذي يجري داخل قطاع غزة.

وإذا كانت إسرائيل قد أخفقت في توقع هجوم تم الإعداد له بتخطيط دقيق وعلى مثل هذا المستوى الضخم، فأنى لها أن تقوم الآن بتنفيذ عملية عسكرية متناسقة؟ لسوف يكون من سابع المستحيلات اقتلاع حماس أو تدميرها كمنظمة، حتى لو كان لإسرائيل اختراق استخباراتي واطلاع جيد على الأمور داخل القطاع.

لقد شبه المسؤولون والسفراء الإسرائيليون أنفسهم الحملة الجوية على غزة بالقصف الذي تعرضت له مدينة دريزدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية. ورغم حجم القتل المهول، إلا أن التدمير المنتظم للبنى التحتية المدنية فاق التصور. 

وتطلبت الحرب نشر ما لا يقل عن 360 ألفاً من عناصر الاحتياط،  أي ما يقرب من أربعة بالمائة من سكان "إسرائيل".

من الهرمية السياسية والعسكرية نزولاً إلى أدنى الرتب الفردية، بدا أن طبيعة العمليات كانت محل قبول منذ اللحظة الأولى، ألا وهي أنه سوف يتم تدمير غزة وسوف يرفرف العلم الإسرائيلي فوق أطلالها.

لعل هذا ما يفسر انهماك الجنود الإسرائيليين في تسجيل سيل منهمر من مقاطع الفيديو التي وثقوا من خلالها إخراج الفلسطينيين عنوة من ديارهم، ودونوا احتفالهم بذلك، وكما عبرت عن ذلك القناة 13 الإسرائيلية، (لسوف تحتفل القوات الإسرائيلية بعيد الحانوكا (مهرجان النور) في ميدان فلسطين).
 
وبدأت الحرب بشن حملة من القصف الاستراتيجي، على مدى أسابيع، لم يكد يسلم منها متر مربع واحد. وتم استهداف المباني السكنية التي يعتقد بأنها كانت تحتوي شققاً تعود لأعضاء في حركة حماس دونما أي اعتبار لعدد من قد يقتلون خلال العملية. 

بل وفي بعض الحالات قتل المئات من المدنيين أثناء محاولة إسرائيل استهداف شخصية واحدة من شخصيات حركة حماس. ولكن، بحسب ما يقوله الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أبراهام – والذي يعرف بمصادره الجيدة داخل التسلسل القيادي في الجيش وأجهزة المخابرات، كان جل حملة القصف الجوي يستهدف غزة بأسرها، وليس حماس فقط كما تدعي إسرائيل باستمرار. 

وطبقاً لمصادر أبراهام فإن معظم الضربات الجوية كانت تستهدف بكل وضوح أهدافاً مدنية، وكانت "الغاية منها إلحاق الأذى بالمجتمع المدني الفلسطيني"، لدرجة أن روبرت بابه، الخبير السياسي الأمريكي، وصف ذلك في شهر كانون الأول/ ديسمبر، بأنه "واحد من أشد حملات العقاب التي تشن على المدنيين في التاريخ".
 
ما يفعله القصف الاستراتيجي بأي مدينة هو اللجوء إلى الأساليب العسكرية من أجل إحداث دمار هائل في المراكز الحضرية شبيه بذلك الذي أحدثه زلزال العام الماضي في تركيا وسوريا: أنابيب وأسلاك مشوهة، عقد ملتوية من القضبان الحديدية والخرسانة المقطعة، منازل مقسومة إلى شطرين، انكشفت أساساتها كما لو كانت أعجاز نخل خاوية. 

بشكل ما، يبدو الركام كما لو كان أكبر بكثير من الكتلة الكلية للمباني الأصلية، من ذا الذي يملك إزاحة كل ذلك؟ وأين عساه يذهب به؟ وكيف لآليات الحفر والجرف أن تميز بين الحطام والعظام؟

كانت استراتيجية إسرائيل على الأرض تتمثل في البدء بإحكام طوق على أطلال مدينة غزة، فدخلت القوات الإسرائيلية إلى القسم الشمالي من غزة ما بين بيت حانون والبحر وقطعت خط الانسحاب إلى الشمال تماماً بمحاذاة وادي غزة قبل أن تقوم بوصل المواقع بعضها ببعض على امتداد البحر.

وبعد الهدنة المؤقتة التي استمرت لمدة أسبوع في شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، بدأت العمليات البرية في المناطق التي تلي ذلك جنوباً. وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) توجهت القوات الإسرائيلية نحو خان يونس، دافعة بمعظم السكان باتجاه رفح وشريط ضيق من الأرض على امتداد الحدود مع مصر. لا يسمح إلا لعدد ضئيل جداً من الناس بالعبور، ولذلك بقي سكان غزة محشورين بطريقة يندر أن يتعرض لها أحد، بما في ذلك حتى من يعلقون في مناطق الحروب.
 
إن القتال بين أكوام الركام أصعب بكثير من القتال في شوارع لم تصب بأضرار. واستخدم الجيش الإسرائيلي مسيرات كوادكوبتر صينية، مثل تلك التي من طراز DJI Mariv 3، حتى يصل إلى داخل المباني المقصوفة قبل أن يعطي جنوده الضوء الأخضر بدخولها. ينبغي على جنوده وهم يفعلون ذلك حماية أنفسهم من العبوات الناسفة ونيران البنادق التي تستهدفهم عبر الثقوب الموجودة في المباني، والتي غدت تستخدم كمتاريس. 

يقوم أفراد سلاح الهندسة بتنفيذ عمليات هدم وتفجير لمناطق بأسرها. وأثناء الهجوم على خان يونس نشر الجيش الإسرائيلي كتيبة محمولة جواً بكاملها داخل وحول المدينة بالإضافة إلى الكتائب المسلحة الثلاث التي كانت ما تزال تعمل داخل مدينة غزة. إلا أن كتاب عز الدين القسام التابعة لحماس، وعناصر الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى وغيرها من المجموعات الفلسطينية المسلحة، تصدت للإسرائيليين بالمقاومة. 

قبل أن تتولى حماس إدارة قطاع غزة في عام 2006، طورت كتائب القسام التابعة لها نسخة مصنعة محلياً من المدفع السوفياتي المحمول على الكتف (آر بي جي – 2)، والذي أطلقوا عليه اسم الياسين (على اسم الشيخ أحمد ياسين، أحد مؤسسي حركة حماس). ظن المحللون العسكريون الإسرائيليون أن هذا السلاح لن يكون فعالاً ضد دباباتهم وعرباتهم المصفحة الثقيلة. وذلك أن دبابات ميركافا مزودة بنظام حماية (يسمى تروفي)، صمم لحمايتها من الأسلحة المضادة للدبابات. 

وفعلاً، خلال هجومي عام 2014 وعام 2021 على غزة، نجح نظام تروفي، ولكن ثمة أدلة على أن مقاتلي القسام هذه المرة تمكنوا من الاقتراب من الدبابات على الأقدام ووضعوا الذخيرة تحت أنظمة الحماية الفعالة لإبطالها وتعطيلها قبل إطلاق قذائف آر بي جي عليها. 

واستخدم مسلحو غزة بنادق مصنعة محلياً باستخدام معدات الخراطة والأدوات الصناعية البسيطة. منذ الثالث والعشرين من يناير (كانون الثاني) فقدت إسرائيل في غزة 217 جندياً، بعضهم أثناء خوضهم معارك قتالية مع المليشيات الفلسطينية (مثل الواحد والعشرين جندياً احتياطياً الذين قتلوا في الثاني والعشرين من يناير)، والذين ماتوا بسبب عبوات انفجرت قبل الأوان، كانوا قد زروعها هم أنفسهم.
 
يتعرض الرجال والأولاد الفلسطينيون، ممن تتراوح أعمارهم ما بين اثني عشرة وسبعين سنة، للتعرية، والتكبيل، وعصب العيون، ثم يحملون في شاحنات تنقلهم إلى مقرات التحقيق. وبعضهم تدون أرقام على أذرعهم. 

ولقد تم نقل المئات ممن اعتقلوا داخل غزة إلى سجن كيتزيوت الصحراوي، بالقرب من الحدود مع مصر، ولربما تم نقل آخرين إلى القواعد العسكرية المجاورة. بعض الرجال الذين اعتقلوا في بيت لاهيا تمت تعريتهم ثم نقلوا إلى معسكرات مسيجة، وبقوا هناك أياماً وهم في الأصفاد، حيث تعرضوا للضرب والتعذيب. وهناك من اختفوا تماماً ولا يعرف لهم مكان. فيما بعد قال الجيش الإسرائيلي إن ما بين خمسة وثمانين بالمائة وتسعين بالمائة من المعتقلين كانوا مدنيين. 

وقامت القوات الإسرائيلية مراراً بمداهمة مدارس الأمم المتحدة لاعتقال أي رجال يتواجدون داخلها. ولقد وثق مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة حادثة وقعت يوم التاسع عشر من ديسمبر (كانون الأول) حينما حاصر الجيش الإسرائيلي ثم داهم بناية في حي الرمال داخل مدينة غزة. جاء فيما وثقه المكتب التالي: "تم الزعم بأن الجيش الإسرائيلي فصل الرجال عن النساء والأطفال، ثم أطلق النار على ما لا يقل عن أحد عشر رجلاً وقتلهم، وجلهم تتراوح أعمارهم ما بين أواخر العشرينيات ومطلع الثلاثينيات، وفعل ذلك على مرأى ومسمع من أفراد عائلاتهم."
 
منذ البداية، كانت عملية السيوف الحديدية هجوماً شاملاً على سكان أغلبيتهم العظمى من المدنيين الذين يعيشون رهن الحصار. 

لا تمت أساليب إسرائيل بكثير من العلاقة إلى مذهب مكافحة التمرد المتعارف عليه، أو إلى قواعد الاشتباك. ولذلك تعتبر الحرب على غزة في جوهرها عملية انتقامية: فعل من أفعال العقاب الجماعي، الذي مثله مثل جميع الإجراءات العقابية، يغفل التساؤل عما إذا كان ذلك ناجعاً أم لا.

حقيقة أن العقاب في حد ذاته كثيراً ما يكون هو الغاية النهائية. إلا أن تنفيذ الحرب له صفة عربدية. الاحتفالات بالقتل من قبل الزعماء السياسيين الإسرائيليين، المخططات الخيالية لإزاحة الفلسطينيين وإخراجهم إلى سيناء أو إلى أوروبا أو إلى الكونغو، والشخصيات العامة التي توقع اسماءها على القنابل التي سوف يقصف بها ما تبقى من غزة، والتسجيلات التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون بكل سعادة وابتهاج – كل ذلك يجمع ما بين الحقد والنشوة.
 
قد نرغب في مقارنة الحرب الحالية مع العمليات الإسرائيلية ضد غزة في حروب 2008-2009، 2012، 2014 و 2021. 

ولكن الأكثر فائدة من حيث المعلومات هو مقارنة عملية السيوف الحديدية الأكبر بكثير مع طوفان الأقصى، الهجوم الذي قادته حماس على عدة جبهات يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول). خلال دقائق من اختراقهم لحاجز غزة (وذلك ليس بحدود)، وجد المسلحون أنفسهم وجهاً لوجه أمام نسخة إسرائيلية من مهرجان النشوة البرازيلي، الذي كان قائماً بالقرب من رعيم. مباشرة تقريباً تحول ذلك إلى مجزرة، حيث قتل المئات من المشاركين في المهرجان بينما أخذ آخرون رهائن. 

داخل الكيبوتسات استهدف المقاتلون قوات الرد السريع المحلية (في نير يتسحاق قتلوا ما يقرب من خمسة رجال مسلحين)، بالإضافة إلى مدنيين إسرائيليين وعمال مزارع من جنوب شرق آسيا. 

يوصف طوفان الأقصى في العادة بأنه هجوم لحماس، يكاد يكون من المؤكد تقريباً أن التخطيط له والأمر به كان من قبل يحيى السنوار، زعيم حماس في غزة، وكذلك من قبل قائد كتائب القسام محمد الضيف.

ولكنه كان أيضاً عملاً تعاونياً شاركت فيه مختلف المليشيات الموجودة داخل غزة، حيث ساندت كتائب أبو علي مصطفى كتائب القسام والجهاد الإسلامي الفلسطيني. 

فيما بعد انضمت إلى هؤلاء المقاتلين عناصر غير نظامية من غزة، والنتيجة أن فرق هجومية نظمتها كتائب القسام، على درجة عالية من الانضباط العسكري والعنف النموذجي كانت ترافقها مجموعات من المقاتلين غير المدربين والذين ينقصهم ما يتميز به مقاتلو القسام من انضباط وعنف. 

بالمجمل، قتل ما يقرب من 800 مدني إسرائيلي، بما في ذلك 36 طفلاً، و370 من أفراد الجيش وعناصر الأمن (عدد قليل منهم قتلوا نتيجة لمحاولات الجيش الإسرائيلي فرض السيطرة على المنطقة). مائتان وخمسون آخرون أخذوا رهائن، ما يقرب من نصف عدد القتلى المدنيين كانوا من رواد المهرجان.
 
كان صادماً حجم الهجوم الذي شنته حماس، بما تضمنه من عدد كبير من القتلى في يوم واحد. منذ ذلك اليوم، قتلت إسرائيل ما لا يقل عدده عن عشرين ضعفاً وأكثر من مائتي ضعف من الأطفال. 

كما قامت بشكل منتظم بمهاجمة المرافق الصحية في غزة، رغم أنه بموجب القانون الدولي لا يجوز إلا في حالات استثنائية جداً القيام بمثل هذه الأعمال. 

في منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول)، انشغلت وسائل الإعلام الدولية لبعض الوقت في الجدل حول ما إذا كانت إسرائيل مسؤولة عن الضربة التي استهدفت ساحة مستشفى الهلال. 

ولكن لم يكن ذلك هو المستشفى الأول الذي يتعرض للهجوم. جميع المستشفيات في شمال غزة تقريباً – المستشفى الإندونيسي، مستشفى العودة، مستشفى الرنتيسي، مستشفى الشفاء، مستشفى القدس، مستشفى الأهلي، ومستشفى الصداقة التركية الفلسطينية، ومستشفى الوفاء – تعرضت للقصف والحصار أو الاحتلال من قبل القوات الإسرائيلية. ومعظمها أخرج عن الخدمة بنهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني). 

في الثالث والعشرين من نوفمبر اعتقل مدير مستشفى الشفاء محمد أبو سلمية، ولا يزال رهن الاعتقال (كان يفترض حينها أن مستشفى الشفاء هو مقر قيادة حماس ومركز التحكم). تم احتلال مستشفى الهلال من قبل الجيش الإسرائيلي الذي ما لبث أن أغلقه يوم الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول). 

وفي منتصف شهر ديسمبر، حاصرت القوات الإسرائيلية وقصفت مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، رغم علمهم بأنه كان يغص بالمرضى. ثم دخلوا المبنى واعتقلوا أكثر من ألف فلسطيني، بما في ذلك الكوادر الطبية العاملة داخل المستشفى، ونقلوا في شاحنات ما يقرب من سبعين منهم إلى موقع مجهول. ولقد وثقت منظمة الصحة العالمية 240 هجوماً على المرافق الطبية.  
 
في البداية منعت القوات الإسرائيلية جميع المساعدات من دخول قطاع غزة، وفي نفس الوقت قطعت إمدادات الوقود والمياه والكهرباء والطعام. بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ما يقرب من ربع السكان يعانون من مجاعة كارثية – 80 بالمائة من مجموع الناس حول العالم الذين يصنفون حالياً ضمن هذه الحالة. 

لدى غزة أعلى نسبة مئوية من الناس الذين يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي يتم تسجيله حتى الآن. كان يمكن بكل سهولة رفع الحصار البحري للسماح بشحن المساعدات إلى القطاع. مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات والأغذية تنتظر في مصر، ولكنها فعلياً تمنع من الدخول. 

خلال الشهرين الأولين من حربها، طالبت إسرائيل بنقل النزر اليسير من المساعدات التي ترسل من مصر عبر طريق طابا رفح حتى تخضع للفحص من قبل المسؤولين الإسرائيليين في نيتزانا قبل أن تعود وتنقل ثانية إلى معبر رفح من أجل أن تدخل من هناك إلى قطاع غزة. 

أما الآن، فيمكن أن تجرى عملية الفحص في معبر كرم سالم، ولكن الشاحنات مازالت تخضع للتدقيق والفحص يدوياً نزولاً عن رغبة الجيش الإسرائيلي (وذات مرة تم رفض حمالات الإسعاف). قبل أن تتمكن من الدخول إلى غزة، يجب على الشاحنات أن تفرغ بالكامل من أجل الخضوع للفحص والتدقيق، ثم يعاد تحميلها تارة أخرى، مما يتسبب بتأخيرات طويلة جداً. كان بإمكان إسرائيل السماح للمساعدات بالعبور إلى داخل غزة من منطقتها هي في أي وقت، ولكنها اختارت ألا يكون ذلك. 

خلصت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية ييتسيلم إلى أن التجويع الجماعي للناس في غزة "لم يكن ناجماً عن الحرب وإنما كان نتيجة مباشرة لسياسة إسرائيل المعلنة .... إن السماح بدخول الغذاء إلى قطاع غزة ليس عملاً من أعمال الشفقة وإنما هو واجب ملزم بموجب القانون الإنساني الدولي. يمثل رفض الانصياع لهذا الواجب جريمة من جرائم الحرب".
 
أحد مبررات هذا الحجم المهول من التدمير هو وجود شبكة الأنفاق في غزة. 

تعتبر إسرائيل والمدافعون عنها في الولايات المتحدة وأوروبا الأنفاق أمراً شريراً، وخاصة في ضوء المزاعم بأن حماس تستخدمها لتحويل المال والبضائع بعيداً عن المواطنين. 

وما لا يتم الإشارة إليه في العادة هو أن الأنفاق، وبعضها كان سابقاً على وجود حماس، إنما حفرت ووسعت كإجراء دفاعي بعد تعرض غزة مراراً وتكراراً للهجمات الإسرائيلية، وكوسيلة لتجاوز الحصار (بعض الأنفاق كانت تمتد إلى داخل مصر، رغم أن معظمها تم تدميره). أي إدارة في غزة لم تأخذ بعضاً من مثل هذه الإجراءات كانت ستتهم بالإهمال. 

ويبدو أن الأنفاق لعبت دوراً فعالاً في إحباط وإعاقة العمليات البرية الإسرائيلية. ومع ذلك، عززت الأنفاق في كل من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا فكرة أن أهل غزة عبارة عن وباء خارج عن السيطرة: مخلوقات تحت أرضية، أبناء الظلام.
 
تمثلت الأهداف المعلنة للحكومة الإسرائيلية في غزة في القضاء على حماس واستعادة الرهائن. 

ولكن عدداً قليلاً جداً من كبار القادة في حماس تم التأكد من قتلهم أو أسرهم في غزة، ولم تتمكن القوات الإسرائيلية من إنقاذ سوى رهينة واحدة من خلال عملية عسكرية، ولم تكن تلك الرهينة مدنية. 

قتل عشرات الألوف، ولكن السنوار والضيف، أبرز قياديين لحماس داخل غزة، ما زالا ليسا من بينهم. أبرز وأهم قادة حماس الذين تم قتلهم منذ بدء الحرب هو صالح العاروري، والذي اغتيل في لبنان يوم الثاني من يناير (كانون الثاني).

ما زالت القوات الإسرائيلية تقوم بعمليات تطهير في شمال غزة، ولكن كتائب القسام مستمرة في العمل داخل مدينة غزة وفي خان يونس. لقد قتل الجيش الإسرائيلي آلاف المقاتلين الفلسطينيين، ولكن من المحتمل جداً أن تكون الحرب قد أفضت إلى تجنيد سيل من المقاتلين الجدد. لم تحقق العمليات العسكرية الإسرائيلية أياً من الغايات المعلنة، ويبدو جلياً أن الغرض الحقيقي هو إنزال العقوبة الجماعية بالناس وإلحاق الدمار الشامل بالقطاع.

يبدو أن القادة الإسرائيليين يساندون هذا التقييم. بالنسبة لوزير التراث أميهاي إلياهو، كان تدمير شمال غزة "متعة للناظرين". تحدث بنيامين نتنياهو مراراً وتكراراً عن حمل الفلسطينيين على المغادرة. 

أما وزير المالية بتسالئيل سموتريتش، فيتصور مستقبلاً فيه 100 ألف أو 200 ألف عربي في غزة وليس مليونين. وأما وزير الدفاع يوآف غالانت فقال إن إسرائيل تقاتل حيوانات بشرية وأننا نتصرف بناء على هذا الأساس. 

بعض هذه التصريحات تم جمعها في المرافعة التي تقدمت بها جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية في التاسع والعشرين من ديسمبر (كانون أول)، والتي اتهمت إسرائيل بالقيام بأعمال تجاوزت المذبحة إلى الإبادة الجماعية. في اليوم الأول من المرافعة، قالت تيمبيكا نغكوكايتوبي إن الدليل على وجود نية بارتكاب إبادة جماعية ليس مرعباً فحسب، بل إنه كذلك كاسح ولا جدال فيه. 

في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً مؤقتاً يوجب على إسرائيل "اتخاذ جميع الإجراءات" لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة. وقالت إنها اطلعت على التصريحات التي صدرت عن غالانت وعن غيره.  
 
ثمة ما يغري بتحميل اليمين الإسرائيلي المسؤولية عن التوحش في الحرب. إلا أن الانقسامات السياسية تلاشت بعد السابع من أكتوبر، والتي قامت، كما كان الحال، على التظاهر بأن الاحتلال ليس ذا شأن وأن وجود الفلسطينيين هو مصدر الإزعاج. 

في أغسطس الماضي، قالت شيكما بريسلر، إحدى الشخصيات الرئيسية في حركة المعارضة، إنه يُنصح بعدم رفع الأعلام الفلسطينية في مسيرات المعارضة من أجل التأكيد على أن تلك ليست هي القضية الأساسية هنا.

ما من شك في أن التأييد المحلي لحكومة نتنياهو ضعيف، بل وتتعرض للانتقاد بسبب الإخفاق في استعادة الرهائن. إلا أن ثمة إجماعاً قوياً لصالح المجهود الحربي، ربما باستثناء بعض المعارضين في الهوامش. 

كما أن غزة وفرت غطاء ممتازاً للعدوان الذي تمارسه الشرطة بالتنسيق مع المستوطنين في الضفة الغربية، كما استغل القادة الإسرائيليون الفرصة للإيحاء بإمكانية مهاجمة لبنان. في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، اقترح المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس أن "التوقيت لن يكون أبداً أفضل مما هو عليه الآن" من أجل أن تهاجم إسرائيل إيران. 

وكتب موريس في مقال له في صحيفة هآريتس يقول: "من الممكن أن مثل هذا الهجوم، وخاصة إذا ما نجح، لسوف يسعد حتى واشنطن".
 
في الواقع اتسم رد الفعل من قبل إيران وحزب الله في لبنان على الهجوم على غزة بالانضباط والحذر. 

شن حزب الله هجمات صاروخية على شمال إسرائيل، وأطلقت إسرائيل قذائف الفوسفور الأبيض وأسقطت القنابل على البلدات المحاذية للحدود، ما أفضى إلى نزوح عشرات الآلاف من الناس من بيوتهم في الجانبين. 

وتم في الثامن من يناير (كانون الثاني) اغتيال القائد الميداني الكبير في حزب الله وسام الطويل في ضربة جوية إسرائيلية. 

ولكن بالمجمل، ظل رد فعل حزب الله على الحرب متواضعاً. لم يتكلم حسن نصر الله عن غزة حتى الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، وحتى عندما تكلم لم يقل الكثير. 

وإيران هي الأخرى مارست درجة عالية من الانضباط النسبي، واقتصر ردها في الأغلب على هجمات رمزية يشنها وكلاؤها على المواقع العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا. إلا أن محاولة الحوثيين فرض حصار على البحر الأحمر كانت أكثر خطورة وأشد تبعات، فلقد نجحوا عبر ما أطلقوا عليه عبارة "التدخل الإنساني عبر القرصنة" في تغيير المسار عبر جزء كبير من واحد من أهم الخطوط التجارية.

ورغم القصف الذي نفذته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على اليمن إلا أن ذلك لم يجد نفعاً معهم ولم يحملهم على التوقف عن ما يفعلونه.
 
لا يمكن رؤية أفعال إسرائيل في معزل عن الولايات المتحدة، وذلك لأن الحماية التي توفرها الولايات المتحدة هي التي تشكل البيئة التي تعمل فيها إسرائيل. 

وكان المقصود من نشر مجموعة حاملات الطائرات الأمريكية في المنطقة (بالإضافة إلى بضع سفن حربية بريطانية) هو توجيه رسالة إلى الدول المجاورة مفادها أن إسرائيل لا تعمل بمفردها، وبالتالي التخفيف من أخطار التدخل الإقليمي ضد إسرائيل. 

كما أن الحرب بحد ذاتها عبارة عن جهد عابر للحدود. ولا أدل على ذلك من أن القنابل التي يتم صنعها في تكساس تزود بأنظمة توجيه دقيقة في ميسوري، ثم تشحن إلى أوروبا، ثم من هناك تنقل جواً، ربما عبر قواعد بريطانية في قبرص، إلى إسرائيل قبل أن تستخدم لقصف غزة. 

يتم ضبط السياسات الخارجية لكل من الولايات المتحدة وأوروبا بحيث يتسنى تمكين إسرائيل من فعل ما تقوم به الآن بالضبط. سارعت الولايات المتحدة إلى توفير 14.5 مليار دولار إضافية كمساعدة طارئة لإسرائيل مساهمة في الجهد الحربي. 

تشتمل الإمدادات العسكرية على 2000 صاروخ من طراز نار الجحيم وكذلك 57 ألف قذيفة من عيار 155 ملم. عندما أوشك مخزون الجيش الإسرائيلي من قذائف الدبابات عيار 120 ملم على النفاذ، أقرت وزارة الخارجية شحن 14،000 قذيفة أخرى. وفي العشرين من أكتوبر (تشرين الأول) طلب البيت الأبيض رفع جميع القيود التي تحول دون الوصول إلى الذخيرة التي تم تخزينها داخل إسرائيل.
 
بعد أسبوع واحد من بدء الهجوم الإسرائيلي، سافر أنطوني بلينكن إلى تل أبيب لإجراء تسع ساعات من المحادثات في معقل التحكم الذي يوجد تحت الأرض أسفل هاكيريا، المقر الرئيسي للجيش الإسرائيلي، والذي يعرف باسم "الحفرة". دون أن يردعهم الدمار الحاصل، ظل المسؤولون الأمريكيون يقومون بزيارات مستمرة لإسرائيل للتأكيد على ما أطلق عليه وزير الدفاع لويد أوستن "الدعم الأمريكي الذي لا يتزحزح". 

في البداية، ادعت الولايات المتحدة أنها تطير المسيرات فوق غزة من أجل "استعادة الرهائن." ولكن بناء على طلب تقدم به الصحفيان الأمريكيان كين كليبنستين وماثيو بيتي، انطلاقاً من حرية الحصول على المعلومات، تم الكشف عن أن سلاح الجو الأمريكي نشر ضباط مخابرات في تل أبيب وكلفهم بمهمة توفير دعم استهدافي للحملة الجوية. 

بالطبع، يمكن لحجم المذابح في غزة أن يصعب الأمور على القادة الأمريكيين. يتناوب طاقم العاملين المدجن في الدوائر الصحفية داخل البيت الأبيض والخارجية الأمريكية – والذي يقف من وراء الملف الذي نشرته مجلة تايم عن بلينكن ويقطر تزلفاً – على القول بأن الولايات المتحدة لم تزل بكل جرأة "تتفاوض" مع إسرائيل من أجل حملها على ممارسة "الانضباط". 

ولكن لا يوجد سبب يجعل المرء يأخذ ذلك التوصيف على محمل الجد. إلا أن كولين كاهل، وكيل وزارة الدفاع السابق، قدم تقييماً أكثر دقة حين قال إن "بايدن سارع مباشرة إلى الدفاع عن إسرائيل وظل ثابتاً على موقفه ذلك حتى في وجه الانتقادات المتزايدة له محلياً ودولياً".
 
تحول الولايات المتحدة دون إمكانية ممارسة ضغط فعال من قبل الأمم المتحدة على إسرائيل، وذلك نظراً لأن سياسة "العلاقة الخاصة"، التي حددت معالمها مذكرة صادرة عن البيت الأبيض في مايو (أيار) 1961، ما زالت فعالة.

تنص تلك السياسة على التالي: "يجب على إسرائيل أن تعلم أنها فيما لو هوجمت، فإن بإمكانها أن تعتمد على الولايات المتحدة التي لن تدخر جهداً داخل الأمم المتحدة وخارجها". من المعروف أن بايدن لا يستسيغ نتنياهو، ولكن في أوج المذابح كان الرجلان يتكلمان مع بعضهما البعض يوماً بعد يوم. 

ولقد كشف الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد عن أن بايدن ونتنياهو جرت بينهما مكالمة هاتفية صعبة في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول)، وأنهما لم يتحدثا سوى مرة واحدة منذ ذلك الحين. ولقد أقر بذلك بلينكن في السادس عشر من يناير (كانون الثاني)، قائلاً إنه ولئن كان الدعم الأمريكي مستمراً بدون ريب فإن "عدداً أكبر من اللازم من الفلسطينيين، الفلسطينيين الأبرياء، يتعرضون للقتل". 

ولكن هذا التبدل في اللهجة لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يعني أن الكثير قد تغير. لربما بادر بلينكن ومعه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بالطلب من إسرائيل تخفيف معدل القتل من أجل تيسير مهمة الولايات المتحدة وأوروبا في الدفاع عنها. ولذلك تصادف تصريح بلينكن مع انتقال الجيش الإسرائيلي إلى ما وصفه أحد المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين بأنه "حملة متنقلة منخفضة الشدة".
 
أما بريطانيا فدعمت الهجوم على غزة، ليس فقط من خلال تزويد إسرائيل بكميات متواضعة من الأسلحة والذخيرة، ولكن أيضاً، وبكونها عضواً في التحالف الاستخباراتي الخماسي (الذي يشمل كذلك كلاً من أستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة)، من خلال تقديم المعلومات الاستخباراتية. فقد طير سلاح الجو الملكي البريطاني طائرة فوق غزة متخصصة في جمع المعلومات والرصد والتعرف على الأهداف، حتى إن منظمة هيومان رايتس ووتش دعت في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) بريطانيا إلى التوقف عن تسليح إسرائيل وإلا فإنها تجازف بأن "تتهم بالتورط في ارتكاب انتهاكات خطيرة." إلا أن المؤسسة السياسية البريطانية كشفت عن دعم ثابت لا يتزحزح لإسرائيل. ولا أدل على ذلك من أن ديفيد كاميرون، الذي يشغل الآن منصب وزير الخارجية، قال إنه لا سبيل لأن تكون إسرائيل ضالعة في ارتكاب جرائم حرب في غزة لأنها "دولة ديمقراطية" ولأنها "بلد لديه قوات مسلحة ملتزمة بالانصياع لسيادة القانون". 

وفي الرابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) دافع رئيس هيئة الأركان البريطاني طوني راداكين عن الجيش الإسرائيلي، قائلاً إنه "لا مفر من أن القتال في مثل هذه المناطق ذات الكثافة السكانية العالية قد يسبب ضرراً بالغاً للمدنيين." بالإضافة إلى ذلك، يسارع الوزراء إلى استخدام عبارات تعود إلى الحروب السابقة في غزة، تكاد تكون بدون أي معنى في السياق الحالي. 

ومن ذلك ما قاله كاميرون أثناء حديثه أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان يوم التاسع من يناير (كانون الثاني)، من أن الدعوات لوقف القتال كانت غير واقعية نظراً لأن السؤال الملح هو: "كيف يمكنك التخلص من قدرة حماس على إطلاق المزيد من الصواريخ". وكأن الصواريخ هي كل ما يشغل البال في هذا الوقت.
 
لا يملك المرء سوى أن يتساءل ما الذي سيكون عليه شكل الرد لو أن الحجج التي تعتبر صالحة بما يكفي لتبرير الهجوم على غزة كانت مقلوبة رأساً على عقب. 

لنفترض أن الصحف المحلية خرجت علينا بمقولات مثل: نظراً لأن حكومة إسرائيل تأمر بارتكاب فظائع منكرة، وذلك بالضبط ما هو حاصل، فإنه يتوجب قتل المسؤولين الإسرائيليين مهما كان الثمن، وأنه لو كان تدمير تل أبيب ضرورياً من أجل تحقيق هذه الغاية، فليكن إذن ولا بأس في ذلك. 

وكذلك لو استدعى الأمر تحويل حانات ريهافيا إلى ركام، فحظاً سيئاً – ثم انظر كم هي قريبة من مقر الرئاسة في شارع هاناسي. 

هل تقوم الدولة الإسرائيلية باستخدام الأموال في بناء المعاقل لقادتها تحت الأرض؟ وهل يمكن تبرير القصف السجادي بناء على الزعم بأن الحكومة والأحزاب السياسية التي تتشكل منها غدت جزءاً لا يتجزآ من المجتمع الإسرائيلي؟ لقد اكتسبت مثل هذه المقولات السخيفة درجة من الاحترام وهي تستخدم في تبرير قتل الفلسطينيين.
 
تقترب الآن نسبة المباني المدمرة في غزة من تلك التي شهدتها غويرنيكا أو هامبورغ أو هيروشيما، المدن التي ارتبطت أسماؤها بأشنع الفظائع وأشد حالات الدمار التي شهدتها الحرب العالمية الثانية. 

لا توجد ثمة علاقة بين هدف إسرائيل المعلن، أي تدمير حماس، والأساليب المستخدمة في التعامل مع عموم الناس، وهي الأساليب التي تستهدف قتلهم أو حملهم على مغادرة ديارهم باتجاه مصر. 

يبدو أن غرض إسرائيل لم يعد الرغبة في الاستمرار في إدارة غزة كما لو كانت معسكر اعتقال مسيج. ولكن خططها غير واضحة. ثمة مفاوضات تجري بين إسرائيل وحماس عبر مصر وقطر. تشير بعض التقارير إلى أن إسرائيل عرضت توقفاً في القتال لمدة شهرين مقابل إطلاق سراح من بقي من الرهائن. ولكن ردت حماس على ذلك بالتأكيد على أن أي إطلاق إضافي لسراح الرهائن لن يحصل إلا بعد أن توافق إسرائيل على وقف الهجوم والانسحاب.

قال يوآف غالانت إن غزة ينبغي أن تعود إلى "الإدارة الفلسطينية" بضمانة من الولايات المتحدة. ولكن في الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول)، اقترح نتنياهو أنه يتوجب على القوات الإسرائيلية كذلك أن تفرض سيطرتها على ممر فيلادلفيا، المنطقة الحدودية التي يبلغ طولها 14 كيلومتراً ما بين غزة ومصر. 

إلا أن إسرائيل مستمرة في رفض أي إطار سياسي لصالح البحث عن الأمن في كومة من العظام. نتنياهو ورئيس أركان حربه هيرزي هاليفي كلاهما يقولان إن الحرب سوف تستمر لعدة شهور. ولكن، من في غزة يملك مثل ذلك الوقت؟