كتب

جرائم الكيان الصهيوني من منظور أكاديمي إسرائيلي متحرّر من الحقد الديني والعرقي

الخلاصة العامة التي ينتهي إليها الكاتب هي أن التطهير العرقي يظل أولوية إسرائيلية تعمل وفق طريقة ممنهجة..
الكتاب: التطهير العرقي في فلسطين
الكاتب: إيلان بابه
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت لبنان 2007
عدد الصفحات: 396 صفحة


ـ1 ـ

جاء في تعريف مؤسسة الدراسات الفلسطينية الناشرة لكتاب "التطهير العرقي في فلسطين" أن "الحرب الفلسطينية ـ الإسرائيلية سنة 1948 هي في نظر الإسرائيليين "حرب الاستقلال"، بينما بالنسبة إلى الفلسطينيين ستظل إلى الأبد النكبة. فبالإضافة إلى نشوء دولة إسرائيل أدت الحرب إلى واحد من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث إذ طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح، وارتكبت مجازر بحق المدنيين ودمرت مئات القرى الفلسطينية عمداً. ومع أن الحقيقة بشأن الطرد الجماعي الهائل شوهت وجرى طمسها بصورة منهجية فإنه لو كان حدث في القرن الحادي والعشرين لكان سمي "تطهيراً عرقياً". ويعمل الأكاديمي البارز إيلان بابه كاتب الأثر، على إقناع الرأي العام الدولي بأنّ ما حدث لا يمكن إلا أن يصنّف ضمن دائرة التطهير العرقي ويدعوه إلى ممارسة دوره ليُعامل الجناة باعتبارهم مجرمي حرب.

ـ2 ـ

ليسلط الضوء على جرائم إسرائيل، يعالج المسألة من داخل الفكر اليهودي نفسه. فيذكر أنّ أرض فلسطين، كما تسمى في الديانة اليهودية، كانت دائما محلّ تبجيل اليهود على مر القرون بصفتها قبلة حج ولم يكن يدور بخلدهم قط أن تكون مكاناً لدولة علمانية مستقبلية. فالدين والتراث اليهودي يأمرانهم بانتظار مجيء المسيح المنتظر في نهاية الزمن، ليعودوا إلى أرض إسرائيل شعبا يتمتع بالسيادة في دولة دينية يهودية.

ولم يعد المسيح لكن بريطانيا أوجدته في شكل وعد بلفور مستغلة الصهيونية الناشئة وقتها. فقد برزت هذه الحمّى في أواخر الثمانينيات من القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية ثم توسعت لتشمل كامل القارة، فكانت حركة إحياء قومي ناشئ عمّا كانوا يواجهونه هناك من ضغط متنام يخيّرهم بين الاندماج الكامل في القيم المسيحية أو تعرضهم للاضطهاد. ومن البديهي أنّ دولة جديدة بشعب جديد لن تقوم دون محو شعب وفسخ تاريخه وتطهير الأرض عرقيا.

لا يخفي الكاتب وهو يقدّم أثره، أنه لا يعرض جرائم التطهير العرقي الإسرائيلية جمعا وتنظيما وتفسيرا، بروح المؤرخ بقدر ما يعلن التزامه بقضية ودفاعه عن حقوق، فيذكر في مستهلّه:  "هذا الكتاب ليس مكرساً رسمياً لأحد، وقد كتب أولاً وقبل كل شيء من أجل الفلسطينيين، ضحايا التطهير العرقي في سنة 1948، وكثيرون منهم أصدقاء ورفاق، وكثيرون غيرهم أجهل أسماءهم، لكن منذ يوم عرفت عن النكبة رافقتني معاناتهم وفقدانهم وآمالهم. وعندما يعودون فقط سأشعر بأن هذا الفصل من النكبة بلغ أخيراً النهاية التي نرجوها، والتي من شأنها أن تتيح لنا جميعاً العيش في سلام وانسجام في فلسطين".

ـ 3 ـ

ظهر تعبير "التطهير العرقي" إبان الحرب العالمية الثانية. فقد استخدمه النازيون وحلفاؤهم في يوغسلافيا، كالميليشيات الكرواتية. ولكن لا شكّ أنّ الطرد الجماعي لأصحاب الأرض من قبل الغزاة ظاهرة قديمة جدّا تعود بداياتها إلى زمن التوراة ويستمرّ حتى أيامنا هذه. فهو سياسة ممنهجة لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة مجموعة أخرى من أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي أو قومي. فتعرّفه موسوعة هاتشينسون بكونه طردا بالقوة لسكّان من عرق معيّن (أو أكثر) من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة. ويعمل مدبّروه على ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك التمييز والإبادة أو الوسائل غير العنيفة. وما يميّز عنفه دعم القوات النظامية التي تؤازر مدنيين في تنفيذ خطط التهجير والاستيلاء على ممتلكات هؤلاء السكان الأصليين من منطلقات إيديولوجية قومية.

وينطوي كل تطهير عرقي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي كاتفاقيات جنيف لسنة 1949، أو البروتوكولات الإضافية لسنة 1977. ويصنّف في المعاهدات الدولية بكونه جريمة ضد الإنسانية، كما في المعاهدة التي قامت على أساسها المحكمة الجنائية الدولية، وسواء أكانت الجريمة المزعومة أم معترفاً بها تماماً، ويخضع للمحاكمة، وقد أنشئت محكمة جنائية دولية خاصة به في لاهاي.

يؤكد الكاتب أنّ هذا التعريف يحظى بقبول وزارة الخارجية الأمريكية التي تؤكد أنّه لا يحدث إلا بتواطؤ جهات تمتلك نفوذ السلطة وقوة السلاح. ويبقى هدفه الأكبر هو اقتلاع تاريخ الإقليم المعني بكل الوسائل الممكنة، لذلك فهو ينتهي دائما إلى خلق مشكلة لاجئين. وتذكر وزارة الخارجية الأمريكية ما حدث في شهر مايو 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية من إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة مثالا على ذلك. وصادرا على أنّ مثل هذا العمل لا يمكن إنجازه دون تخطيط مسبق تنخرط فيه جهات سياسية وعسكرية.

ـ 4 ـ

ولمّا كانت إسرائيل تنكر باستمرار ارتكابها لعمليات تطهير عرقي، عمل هذا الكتاب على تعريف التطهير العرقي من مصادر عديدة ووصله بالوقائع والقوانين الدولية والمفاهيم التي تورطها. فكان يقف عند التطابق بين ما تذهب إليه التعريفات في سياقات عامّة وما يرتكبه الإسرائيليون. فأهم الدراسات وأوسعها اشتمالاً تربط التطهير العرقي بإنشاء الدول الجديدة على أساس قومي. وهذا ما قامت عليه دولة إسرائيل ووظفت في سبيله الخطة الإسرائيلية داليت (أو د)، وهي خطة وضعتها منظمة الهاجاناه في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948 وأُقرت في سنة 1948، وكانت تهدف إلى تأمين تأسيس دولة يهودية في فلسطين، عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينة وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.

فقد جاء في الأوامر للألوية بالانطلاق في العملية ما يلي: «سوف تنتقلون إلى الحالة دالت من أجل التنفيذ العملي للخطة.. سيتم تحديد القرى التي يجب احتلالها وتطهيرها أو تدميرها بالتشاور مع مستشاريكم في الشؤون العربية وضباط الاستخبارات"، فيما كانت تقتضي في الأصل أن يعرض على القرى خيار الاستسلام. فلم تستثن قرية من هذا التدمير والتهجير. ثم يأخذ في عرض مخطط التطهير العرقي وتنفيذه في نحشون ودیر یاسین وتدمير المدن الفلسطينية وتطهير حيفا من العرب وعكا وبيسان ويافا وتحويل القدس إلى مدينة أشباح..

ـ 5 ـ

ولأنه أكاديمي بارز انتهى إلى عرض مثال يختزل المأساة الفلسطينية كلّها. فيجد في "البيت الأخضر" صورة مصغرة لإنكار الخطة الصهيونية الرئيسية لتطهير فلسطين عرقياً: يشير بكثير من السخرية إلى جامعة تل أبيب التي تقدّم نفسها باعتبارها مؤسسة مخلصة لحرية البحث الأكاديمي. ويذكّر بأن المقر الذي يضمّ الإدارة ونادي هيئة التدريس يسمّى بـ"البيت الأخضر". وهو في الأصل بيت مختار قرية الشيخ مؤنس، ولكن المرء لن يكون قادراً أبداً على معرفة الكثير عن تاريخ هذه البناية، باستثناء إشارات عامة إلى أنّ المكان قد بني في القرن التاسع عشر. فيظلّ مالكه الأصلي شخصا خياليا عديم الملامح شبيها بكل السّكان الأصليين من عديمي الملامح الذين كانوا يعيشون ذات مرة في القرية المدمرة، التي بنيت جامعة تل أبيب على أنقاضها.

يستند الباحث إلى بحوث تكشف بوضوح أن جذور مفهوم الترحيل عميقة جداً في الفكر السياسي الصهيوني، وأنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين كان "خيارا شرعيّا" لدى القادة الرئيسيين للمشروع الصهيوني في فلسطين.
ويتساءل ضمن أسلوبه السّاخر: هل أنّ جامعة تل أبيب مخلصة للبحث الأكاديمي السليم فعلا؟ فـ:

ـ المشاريع الاقتصادية الخاصة، والمصارف، والمقاهي والمطاعم والورشات والصيدليات والفنادق وشركات حافلات الركاب كلّها كانت ملكاً للفلسطينيين، فهل قدّر علماء الاقتصاد فيها قيمة الأملاك في دمار 1918 كي يوفروا قائمة يمكن أن تساعد مفاوضين مستقبليين على بدء العمل من أجل السلام والمصالحة؟

ـ وأراضي اللاجئين التي صادرتها إسرائيل تعدّ بملايين الدونمات من الأرض المزروعة. فهل عمل الباحثون في الجغرافيا على رسم خريطة موضوعية تبين تلك المساحات؟

ـ والمصادر المختلفة والأرشيفات العسكرية والشهادات الشفهية الإسرائيلية، تثبت حدوث إحدى وثلاثين مجزرة مؤكدة حتى يناير 1949 ولديهم امتياز الاطلاع على الوثائق الرسمية العسكرية والحكومية والمادة الأرشيفية اللازمة لذلك، فهل في إمكان أساتذة الفلسفة في الجامعة أن يفكروا ملياً في المضامين الأخلاقية للمجازر التي ارتكبتها القوات اليهودية في أثناء النكبة؟

ينتهي إلى أنّ الجامعة التي يفترض أن تنتج المعرفة الحق المحايدة تسقط في دائرة الزيف وأنّ الأكاديميين المزيفين يبدون مطمئنين لتوظيف معارفهم في خدمة الأيديولوجيا المهيمنة، فيصفون جرائم 1948 بأنها حرب الاستقلال، ويمجدون الجنود والضباط اليهود الذين شاركوا فيها، ويجدون في إجرامهم أعمالا بطولية وبالمقابل يحطون من قدر الضحايا.

ـ 6 ـ

ربما يندهش البعض من كون جرائم التطهير العرقي هذه قد نسيت تماماً ومحيت من العقول والذاكرة. أما الباحث فلا يجد في ذلك أمرا غريبا. فالأيديولوجيا التي أدت إلى طرد نصف سكان فلسطين الأصليين إثر النكبة لا تزال قائمة إلى اليوم. ولا تنفكّ تدفع إلى طرد من بقي منهم بلا رحمة. والأدهى أنّ بعضها يتمّ أحياناً بطريقة غير مرئية والسبب في ذلك يرجع في تقديره إلى تعويل الإسرائيليين في المراحل السابقة للتطهير العرقي على ابتكار لغة جديدة تحجب النتائج المدمرة لممارساتها وتنجح في جعل الرأي العام الدولي يتكلمها. فتبدأ بتعابير ملطفة واضحة مثل انسحابات و"إعادة انتشار للقوات". ثمّ يستمرّ هذا التمويه بمسميات مضللة أقل وضوحاً، مثل «احتلال»، فتُصور أقاليم من الأراضي الفلسطينية بكونها "محررة"، أو "مستقلة"، أو أن معظم فلسطين ليس واقعاً تحت احتلال عسكري مباشر، كما هو الأمر في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي. وهم بذلك يحولون دون المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان لمنعهم من حماية سكانه. فيخرجون ضحاياهم هكذا من نطاق المواثيق الدولية المتعلقة بالاحتلال العسكري.

وإجمالا فالخلاصة العامة التي ينتهي إليها الكاتب هي أن التطهير العرقي يظل أولوية إسرائيلية تعمل وفق طريقة ممنهجة. فتشمل كلّ الفلسطينيين. فأهل بيت المقدس مثلا يتعرضون لتطهير عرقي شأنهم شأن الذين يعيشون بالقرب من جدار الفصل العنصري أما أولئك الذين يعيشون في وهم أنهم آمنون من عرب 1948 فيصبحون هدفاً في المستقبل. وقد أعرب 86 في المائة من اليهود الإسرائيليين عن رغبتهم في التخلّص منهم.

ـ 7 ـ

يستند الباحث إلى بحوث تكشف بوضوح أن جذور مفهوم الترحيل عميقة جداً في الفكر السياسي الصهيوني، وأنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين كان "خيارا شرعيّا" لدى القادة الرئيسيين للمشروع الصهيوني في فلسطين. ومن هذه الخلفية تبنّى ليو موتسكين، في سنة 1917 تصوّرا يرى أن استعمار فلسطين يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان اليهود في أرض إسرائيل، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراض خارج البلد.

ولمواجهة هذا الانحراف الثقافي يدعو هذا الإسرائيلي المتحرّر من عمى الإيديولوجيا والمتصالح مع إنسانيته ومع صفته الأكاديمية إلى تجذير التطهير العرقي الذي يحدث في فلسطين في الذاكرة والوعي بصفته جرائم ضد الإنسانية، خاصّة أنّ مرتكبيه ليسوا مجهولين. فهم مجموعة محددة يُمجّدون ويُشار إليهم باعتبارهم أبطال حرب الاستقلال، و"أسماؤهم مألوفة جداً لدى معظم القراء والقائمة تبدأ بزعيم الحركة الصهيونية غير المنازع في زعامته، دافيد بن ـ غوريون، الذي نوقشت في منزله الخاص وحبكت نهائياً الفصول الأولى والأخيرة في قصة التطهير العرقي".