تقارير

التصوف الفلسفي.. ما حقيقته وكيف تسرب إلى التداول الإسلامي؟

صرنا نرى التصوف اليوم مجالا للاستكانة إلى الظالمين تحت ذريعة المحبة والأخلاق، ومجالا أيضا للتعامل مع العدو، ومع كل مؤذ بحجة التسامح وتقارب الأديان.. (عربي21)
يُعد التصوف من الموضوعات الإشكالية التي دار حولها جدل واسع منذ ظهوره في عصور مبكرة من التاريخ الإسلامي، بين من رآه ترجمة حقيقية لمصطلح "التزكية" القرآني، ومقام "الإحسان" النبوي، وبين من عده وافدا غريبا، أُقحم على التداول الإسلامي، ووفد على المسلمين من ثقافات أخرى، سادت فيها عقائد وثنية، وأفكار منحرفة وضالة.

وعلى مدار التاريخ الإسلامي وُجدت مدارس سنية إسلامية، ضبطت مسار التصوف بضوابط الشريعة، وهو ما يُعرف بـ"التصوف السني"، من أبرزهم أبو القاسم القشيري، والجنيد بن محمد البغدادي، وعبد القادر الجيلاني، وأبو حامد الغزالي، ولهم كلمات تؤكد انضباط تصوفهم بالكتاب والسنة، كما قال الجنيد: "علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويحفظ الحديث ولم يتفقه، لا يُقتدى به".

وفي تأكيد اقتفاء أثر الرسول عليه الصلاة والسلام والسير على سنته، قال الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". وقد أثنى العالم المتفنن تقي الدين بن تيمية المعروف بنقده الصارم للمنحرفين عن الشريعة على الجنيد بقوله: "فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة، كان قد اهتدى ونجا وسعد".

لكن ذلك التصوف العملي السلوكي الذي يُعنى بمجاهدة النفس، والاجتهاد في السلوك إلى الله تعالى، والزهد في الدنيا، ولزوم طريق الاستقامة، والمواظبة على العبادات والذكر والأوراد، داخله في عصور لاحقة ما أُطلق عليه "التصوف الفلسفي"، الذي أقحم الفلسفة على التصوف، وأدخل عليه مفاهيم غامضة ومنحرفة، كوحدة الوجود، والحلول والاتحاد.

في الحديث عن تاريخية "التصوف الفلسفي"، يُذكر أن أول من تكلم به هو شهاب الدين السهروردي (549 ـ 586 هـ) المقتول بتهمة الزندقة، وهو أول من دمج الفلسفة بالتصوف، وعُرف بأفكاره الشاذة والغريبة، كقوله بوحدة الوجود، والحلول والاتحاد، وهو ما حمل الفقهاء على اتهامه بالزندقة، وقد أصدر صلاح الدين الأيوبي أمرا بقتله، وقد تم قتله بالفعل عام 586هـ.

يُشار إلى أن سجالا ساخنا تشهده مواقع التواصل الاجتماعي منذ أسابيع، وما زال محتدما حول التصوف الفلسفي بانحرافاته العقدية المتعددة، فثمة اتجاه داخل المدرسة الأشعرية ينتقد بشدة تأثر بعض الاتجاهات والشخصيات الصوفية، كابن عربي وابن الفارض بالتصوف الفلسفي، وإدخالهم لمصطلحات ومفاهيم قلقة وشائكة متولدة من رحم التصوف الفلسفي، من أبرز شخصيات ذلك الاتجاه، المنظر والمتكلم الأشعري الأردني سعيد فودة وتلاميذه، والمحقق التونسي نزار حمادي.

انتقد الباحث والمحقق التونسي، نزار حمادي في أحد منشوراته تلبس التصوف الفلسفي بالتصوف السني، محذرا من ذلك ومطالبا بضرورة "تنقية كل من التصوف السني والكلام السني من الفلسفات الباطلة التي التبست بهما، ولا شك أن هذه التنقية هي وظيفة الراسخين في العلم، وهو من أعظم الواجبات عليهم".

وتابع: "ومن هنا، يظهر حجم العبث الكبير الذي يقوم به بعض الناس من إلقاء التصوف الفلسفي من حيث يشعرون أو لا يشعرون على عامة الناس، ظانين أنه تصوف سني، وهذا عين وضع السم في الدسم، والمصيبة أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم ينشرون التصوف السني، والحال خلاف ذلك".

وعن المخرج من تلك الفتنة، قال: "ولا مخرج من هذه الفتنة العظيمة إلا باتباع طريق الجادّة في التصوف التي سطرها الإمام زروق وقبله الغزالي في تصوف المعاملة، ونبذ ذكر الكلام الموهم المبهم الملتبس المشكوك أصلا في سُنِّيته، وترك الإغراب على الناس بشقاشق تضرهم ولا تنفعهم لا في دينهم ولا في دنياهم".

ويتولى في الجهة المقابلة شيوخ وطلبة علم من داخل المدرسة الأشعرية، الدفاع عن شخصيات صوفية معروفة متهمة بتلبسها بالتصوف الصوفي، وإشاعة مقولاته وأفكاره في أوساط أهل السنة، من أبرز نشطائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، الباحث اللبناني المتخصص في علم الكلام والمذهب الأشعري، عبد الناصر حدارة، والمدون السوري، الباحث في التصوف، محمد ياسر ياسر، وهما يصران على أن التصوف الفلسفي دخيل على التصوف السني، ويلحان على ضرورة فهم كلام ابن عربي وغيره، وفق مصطلحات الصوفية وإشاراتهم الخاصة بهم.



تلك الإشكالات والاعتراضات على مصطلح "التصوف الفلسفي"، تثير تساؤلات حول حقيقة المفهوم، ومتى وكيف تسرب إلى مجال التداول الإسلامي، وفي هذا السياق، أوضح المفكر اللبناني، الأستاذ المحاضر في الفلسفة والتصوف النظري، الدكتور محمود حيدر، أن "هذا المصطلح يحوي الكثير من اللبس والغموض، على الرغم من تداوله الواسع في الأوساط الأكاديمية والمعرفية".


               محمود حيدر، مفكر لبناني، وأستاذ محاضر في الفلسفة والتصوف النظري

وأضاف: "وأميل إلى القول بأن هذا المصطلح أقرب ما يكون إلى ما يمكننا اعتباره من الأخطاء المنهجية الشائعة، ولكي نتبين الصواب ـ وباختصار شديد ـ، لا مناص من التمييز الدقيق بين الفلسفة والتصوف، وبيان ماهية كل منهما، ومن ثم إيضاح منطقة اللقاء بينهما".

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "هناك شبه كبير بين التصوف النظري والفلسفة لجهة مقاربة بعض قضايا الوجود، وهنا أشاطر الرأي الذين يقولون؛ إن مجمل أبعاد المعرفة الفلسفية للوجود مختزنة في ما يُعرف بالعرفان النظري، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، قضية الألوهية، وعلاقة الكون والإنسان بالله، وقِدم العالم وأزليته، ووحدة الوجود واتحاد العقل والعاقل والمعقول، إلخ".

وعن الاختلاف بين هذين الحقلين، ذكر حيدر أنه "يكمن بصورة أساسية في كون الفلسفة معرفة عقلية للوجود، وموضوعها الوجود المطلق غير المتقيد، والوجود في جميع أبعاده الواقعية، كما هي معرفة الوجود العقلية البرهانية القائمة على أساس العمليات العقلية، لكن بخصوص ما يُعرف بالشهود القلبي فلا دور له في الفلسفة، بمعنى أنه حتى لو كان الفيلسوف يتمتع بالشهود، فإنه ما لم يجعل معرفته عقلية برهانية، لا يستطيع إدخالها في الفلسفة، واعتبارها جزءا منها، فالفيلسوف يصل إلى المعرفة اليقينية الضرورية عن طريق العقل".

وأردف: "في المقابل، العرفان والتصوف النظري هو نظام معرفة الوجود بنحو شهودي، ويدور حول محور وحدة الوجود الشخصية، وطبقا لهذا النظام، فإن الوجود منحصر بحضرة الحق تعالى، وما سواه هو ظهورات له عز وجل، فجميع مجالات معرفة الوجود التي يخوض فيها الفيلسوف هي مطمح نظر العارف أيضا، مضافا إلى مباحث مرتبطة ببعض مجالات الوجود التي لا تتعرض لها الفلسفة".

من جهته عرَّف الأكاديمي المغربي، الباحث في الفلسفة والفكر الإسلامي، الدكتور أحمد بوعود التصوف الفلسفي بأنه يقصد به "الأساس الميتافيزيقي أو النظريات الفلسفية التي حاول بها الصوفية تفسير أحوالهم في حالة اليقظة منها، وقد لجؤوا إلى هذا بعدما عجزوا عن إيجاد تطابق شرعي مع ما حدث لهم، ونتج عن هذا كثير من القضايا؛ كالتأويل والإشارة ووحدة الوجود".


                                      أحمد بوعود.. باحث في الفلسفة والفكر الإسلامي

وتابع: "والتصوف الفلسفي لم يظهر في الإسلام، إلا بعد أن تهيَّأت له مجموعة من الظروف، في القرن الثالث الهجري، ويمكن القول بأن ظهوره يشكل دورا من أدوار التصوف الإسلامي، هذا الظهور كان له مجموعة من العوامل أو المؤثرات يمكن اختصارها في: القرآن والحديث وعلم الكلام، والأفلاطونية المحدثة، حيث نجد مثلا أن نظرية المتصوفة في الكشف والشهود أفلاطونية حديثة، كما يقول أبو العلا العفيفي في صميمها، وكذلك نظرياتهم في المعرفة التي هي ترجمة لكلمة (غنوص) اليونانية".

وردا على سؤال "عربي21" عن مدى حضور التصوف الفلسفي في دائرة التصوف السني، قال بوعود: "لا يمكن أن ننكر ذلك؛ لأن المتصوفة المسلمين لم يكونوا معزولين عن الثقافات الأخرى، فكانت هناك بعض التأثيرات، خاصة أن بعضهم كان بحاجة إلى تفسير كثير من قضايا التصوف، فلجؤوا إلى الاستعانة ببعض النظريات، فظهرت بذلك نظرية الإنسان الكامل، كما عند ابن  عربي وعبد الكريم الجيلي، وكذلك نظرية وحدة الوجود، ونظريات تربوية وغير ذلك".

واستدرك: "لكن وجود التصوف الفلسفي في نظري، لن يحجب عنا حقيقة التصوف الإسلامي الذي يمثل الزهد كما كان عند الصحابة رضي الله عنهم، وكونه ترقيا في درجات الإسلام والإيمان والإحسان، لذا كان من الضروري أن تكون الشريعة سياجا للتصوف حتى لا يقع في المحظور".

وعن مدى حضور التصوف الفلسفي في واقعنا الراهن، رأى بوعود أن الخطورة "تكمن في طبيعة التصوف برمته، الذي صار لدى البعض مجردا من كل روح، ومجردا من كل عبادة، وهذا ما أشار إليه أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، حيث جعل من مظاهر الانحطاط فقدان التصوف لروحه حتى صار أشكالا بهلوانية، وهذا ما جعل كثيرا من الناس ينتقدون التصوف جملة وتفصيلا، وينفرون منه وينفرون غيرهم منه كذلك، بينما كان في الأصل زهدا غايته وجه الله تعالى".

وأنهى كلامه بالإشارة إلى أننا "صرنا نرى التصوف اليوم مجالا للاستكانة إلى الظالمين تحت ذريعة المحبة والأخلاق، ومجالا أيضا للتعامل مع العدو، ومع كل مؤذٍ بحجة التسامح وتقارب الأديان، وصرنا نرى أن التصوف هو أن تكون محبا متسامحا، من غير اهتمام كبير بالعبادة ولا بالشعائر".