قضايا وآراء

الدين والسلطة (الضرورة وقدرها)

عربي21
على الرغم من أن الدولة في التاريخ الإسلامي لم تقم لها قوة إلا بـ"الدين"، كما ولا يُغفل أبدا دورها الواضح والمحدد في القيام بأمور الدين.. إلا أنها لم تكتسب أبدا صفة تتصل بـ"القداسة" وما وراء البشر والطبيعة، كما سيروي لنا تاريخ الحكم والدين والدولة في أوروبا.. وللمفارقة سيكون هو نفس الوقت تقريبا الذي أشرقت فيه شمس الإسلام على الدنيا بهذه الأفكار الكبرى عن الدين والحياة..

الراشدان الكبيران أبو بكر وعمر رضى الله عنهما أسسا من أول يوم لهما في الحكم، لعلاقة واضحة بين كل مكونات الكيان الجديد (الدولة) وعلاقة هذا الكيان بجموع الناس؛ مسلمين وغير مسلمين.. منعا لأي انحرافات بالموضوع عن مراده الحقيقي، والذهاب به إلى دنيا الهوى والأهواء. وهي العلاقة التي تقوم على "من رأى مني اعوجاجا فليقوّمه".. لا قداسة هنا ولا عصمة.. هنا بشر يصيبون ويخطئون..

* * *
لم يكن الدفع بالمسألة في المسار الديني إلا لأسباب لا علاقة لها بالدين نفسه، وهو ما سيزيد الحالة تعقيدا على مدار التاريخ كله.. وصدق من قال إن الأمة إلى يومنا هذا تسدد "فاتورة" معركة صفّين الشهيرة (657م) ليس على مستوى الصراع المذهبي فقط (شيعة وسنة)، ولكن على مستوى الكثير من المفاهيم والأفكار

وهذا ما استوقف علامة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث د. حامد ربيع رحمه الله (ت: 1989م) فوصف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في السياسة الإسلامية بأنها بسيطة، وبلا وسيط.. تنبع من مفهوم تبعية العلاقة الدينية بين المسلم وخالقه، وتتحدد بها علاقة المسلم بالكتاب وتعاليمه التي تحدد خصائص هذه العلاقة.. وتتميز بالبساطة لأنها قائمة على مفهوم "الحرية" ومفهوم "التوحيد" ومفهوم "الكرامة" الإنسانية.

* * *

لكن الأمر تطور على نحو آخر وبشكل سريع بعد أن رفع معاوية رضي الله عنه (ت: 680م) المصاحف في وجه الإمام على كرم الله وجهه في صفّين، وهو ما استغربه الإمام علي، وحذر أصحابه منه والذين كانوا بالفعل قد تم تشتيتهم عن أصل الموضوع بهذا الموقف الأريب..

ولم تكن الآية الكريمة في سورة الحجرات التي تتناول فكرة القتال بين فئتين مؤمنتين حاضرة في المشهد، فنحن هنا أمام خروج عن الدولة الجديدة المعترف بشرعيتها، ببيعة الناس للإمام علي خليفةً بعد سيدنا عثمان رضى الله عنه (ت: 656م)، وإلا كان سيدنا علي سيكون أول المرحبين بفكرة التحكيم.. دائما ستكون المشكلة في العنوان الذي يندرج تحته الموضوع..!

* * *

لم يكن الدفع بالمسألة في المسار الديني إلا لأسباب لا علاقة لها بالدين نفسه، وهو ما سيزيد الحالة تعقيدا على مدار التاريخ كله..

وصدق من قال إن الأمة إلى يومنا هذا تسدد "فاتورة" معركة صفّين الشهيرة (657م) ليس على مستوى الصراع المذهبي فقط (شيعة وسنة)، ولكن على مستوى الكثير من المفاهيم والأفكار، التي طرحت في مساراتها أسئلة كثيرة بلا إجابات حقيقية كافية.

سيستمر الأمر على هذا التداخل الذي سيتجه إلى تحقيق مصالح تتعلق بحيازة الدنيا، لا بإقامة الدين، وان كثر معسول القول وزاد. سيتم تثبيت الحكم الأموي الوراثي بتعميم دعاء "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت" على كل المساجد في كل الأمصار، للإيهام بأن الحاكم قد جاء بإرادة الله لا بإرادة البشر
سيستمر الأمر على هذا التداخل الذي سيتجه إلى تحقيق مصالح تتعلق بحيازة الدنيا، لا بإقامة الدين، وان كثر معسول القول وزاد. سيتم تثبيت الحكم الأموي الوراثي بتعميم دعاء "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت" على كل المساجد في كل الأمصار، للإيهام بأن الحاكم قد جاء بإرادة الله لا بإرادة البشر، فسبحانه وتعالى له الخلق والأمر كله. بالطبع كانت هناك أشياء أخرى، كالمال والأعوان والسياسة.

* * *

وقبل كل ذلك "اللغة" التي استخدمها سيدنا معاوية رضى الله عنه كثيرا في إدارته للشأن السياسي.. لغة القول وسلطته، وما يجعلك دائما على صواب.. لغة الإيهام وفن القول..

الفيلسوف الألماني شوبنهور (ت: 1860م) له كتاب اسمه "فن أن تكون دائما على صواب"، ترجمة د. رضوان العصبة، قال فيه: إننا نميل إلى دحض حجة الخصوم حتى لو كنا مخطئين وهم على حق..

وسبب ذلك الدونية الطبيعية في البشر..!! النزاهة تتطلب البحث عن الحقيقة، لكن الكبر عند معظم الناس مصاحب دائما بالجدل وعدم النزاهة..

* * *

يحكون أن معاوية رضي الله عنه قال ذات مره في إحدى خطبه: إن الله تعالى يقول "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم"، وأضاف: فعلامَ تلوموني إذا قصّرت في عطاياكم؟

فقال له أحدهم: وإنا والله لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله لنا من خزائنه، فجعلته أنت في خزائنك، وحُلت بيننا وبينه.

وكل كلام وله كلام، وحين تفتح الكلام على هذا النحو فلن تنتهي الحكايات.

* * *

إن يكن من أمر فقد أثبتت لنا تجارب التاريخ الإنساني الطويل، أن حضور الدين في السلطة يجب أن يكون بمقتضى الضرورة، كما يقولون، ووفق ضوابط وأحكام لا خلاف عليها البتة، والإفراط في الحديث باسم الدين حول السلطة لا يفيد الدين أبدا، ومفسد للسلطة فسادا كريها.
كل ما تنطق به السلطة هو اجتهاد بشرى لا قداسة فيه، قابل للمعارضة والرفض والتصويب والمحاسبة، ويجب أن يظل دائما كذلك.. والدين متمم المكارم يراقب المسألة "من بعيد لبعيد" ويقول رأيه ناصحا ومرشدا وهاديا ودليلا

فكل ما تنطق به السلطة هو اجتهاد بشرى لا قداسة فيه، قابل للمعارضة والرفض والتصويب والمحاسبة، ويجب أن يظل دائما كذلك.. والدين متمم المكارم يراقب المسألة "من بعيد لبعيد" ويقول رأيه ناصحا ومرشدا وهاديا ودليلا.

وحكى لنا أ. فريد عبد الخالق رحمه الله (ت: 2013م) عن أن الأستاذ حسن البنا (ت: 1948م) كان دائم الإشارة إلى "التجربة الفابية" في إنجلترا التي تأسست عام 1884م.. وكانت جماعة إصلاحية تعتمد على نشر الأفكار والأخلاق والتعليم والتواصل مع النخب والعوام وتقليل الفجوات الطبقية..

ولكن هذه الأفكار للأسف الشديد ضاعت في زحمة التاريخ الصاخب للأحداث، عبر الانقلابات والصراعات النفسية العليلة..

* * *

وكان من الممكن أن تتحول الحركة الإصلاحية كذلك.. وتكون الطليعة التي تراقب "من بعيد لبعيد" محتفظة لنفسها بعلاقة جيده مع السلطة، بما يمكنها من قول النصيحة الخالصة، المصفّاة من كل شوائب الغرض والمنافسة على السلطة.. أيضا تحتفظ بعلاقة متينة مع المجتمع، بما يمكّنها من الحركة الهادفة إلى تعميم مكارم الأخلاق (التي بُعث الرسول الكريم لتتميمها).. وهو الجهد الذي ينتج "رجال المكارم" الذين ينطلقون في رحاب المجتمع والدولة، يمارسون الأعمال التنفيذية في السياسة والحكم والإدارة، وهم محصنون بالفهم الإسلامي الشامل وبأخلاق الإسلام الصلبة، متوجين بالنزاهة والترفّع عن الدنيا وأغراضها.

twitter.com/helhamamy