قضايا وآراء

حبـيـبــة

حبيبة أحمد عبد العزيز
مرت عشر سنوات على مجزرة رابعة، غير أني (ومثلي) نعيشها كل يوم!

"نعيشها كل يوم".. جملة لا يدركها ولا يعيها إلا من شهد هذا اليوم المشهود الذي لم يشهد شهوده يوما مثله (في حياتهم) من قبل!

محرقة.. بكل ما تجسده الكلمة من الإصرار على حصد أرواح الأحياء السلميين المسالمين حرقا ودهسا وتجريفا، ورميا بالرصاص!

مذبحة.. حيث أهرقت الدماء (في ذلك اليوم) بغير حساب! فالضحايا كانوا بالآلاف، لا بالعشرات، ولا بالمئات!

انتقام.. بكل ما تحمله الكلمة من قسوة، وبطش، وغِل، ورغبة في إفناء الآخر!

في هذا اليوم الدامي، أراد الجنرال المنقلب، أن يجعل الرعب عنوان المرحلة، ولم يفلح.. فالظالم لا يفلح حيث أتى، مهما حاز من قوة و"غَشَم"، إذا كان يواجه أصحاب حق، وأنصار قضية عادلة!

فرغم صدمة رابعة والنهضة، ظل شرفاء مصر ونجباؤها يخرجون بعشرات الآلاف كل يوم، معرِّضين أنفسهم للقتل، والإصابة، والاعتقال، حتى جاء أحدهم أو بعضهم (قاتلهم الله) فأوقفوا هذا المد الهادر، وأخمدوا هذا الغضب الثائر، بدلا من استثمارهما في استعادة الشرعية، وعودة صاحبها لاستكمال مدته الدستورية، واستنقاذ مصر من هذا المصير الأسود الذي وصلت إليه (اليوم) عمدا وقصدا، والذي سيزداد سوادا مع مرور الأيام..

في الذكرى العاشرة لمذبحة رابعة أكتب عن "حبيبة"، إحدى ضحايا هذه المجزرة.. أكتب عن "حبيبة"؛ ليس لأني والدها، ولكن لأني مُعجب بشخصيتها أشد الإعجاب.. فـ"حبيبة" لم تكن لي ابنة وحسب، وإنما كانت لي زميلة، وصديقة، وأختا، وأما، وعونا، وسندا..

أقولها بكل ثقة، هناك شركاء للجنرال المنقلب (بيننا) سيكشفهم التاريخ اليوم، أو غدا، وستلاحقهم لعنات الأجيال القادمة، إلى يوم الدين!

في الذكرى العاشرة لمذبحة رابعة أكتب عن "حبيبة"، إحدى ضحايا هذه المجزرة..

أكتب عن "حبيبة"؛ ليس لأني والدها، ولكن لأني مُعجب بشخصيتها أشد الإعجاب.. فـ"حبيبة" لم تكن لي ابنة وحسب، وإنما كانت لي زميلة، وصديقة، وأختا، وأما، وعونا، وسندا..

أكتب عن "حبيبة"؛ لتدرك كل فتاة معجبة بـ"حبيبة"، سر إعجابها بـ"حبيبة"، ويدرك كل شاب أسَرته جسارة "حبيبة" سِر إقدام حبيبة وجسارتها، وإصرارها على البقاء في الميدان، رغم وعيها التام، وإدراكها الكامل أنه لا نجاة من هذا الموقف إلا من أحد طريقين: الهروب، وهو خذلان للمعتصمين السلميين العُزَّل، أو اليقين بأن أجله لم يحن بعد، حتى لو تخطف الموت كل مَن حوله!

في هذه السطور، لن أحكي سيرة "حبيبة"، وإن كانت تستحق أن تُروَى، وإنما سأعرض "ومضات" من حياة "حبيبة" التي كانت بدورها "ومضة"، إذ لقيت ربها وعمرها لم يتجاوز السادسة والعشرين..

الأسئلة الأولى

تفتّحت مدارك "حبيبة" على صور الشهداء، فنشأت على الشجاعة، والتضحية، والإيثار، والوفاء، ونصرة المظلوم، وكراهية الظلم، والعدوان، والاستبداد، والخيانة..

كانت "حبيبة قد بلغت العامين من عمرها القصير، يوم لحقت بي مع أمها في مدينة "بيشاور" الباكستانية، المتاخمة للحدود الأفغانية التي كانت مأوى لملايين المهاجرين الأفغان، ومعقلا لحركات المقاومة الأفغانية التي كانت تناضل؛ من أجل تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي آنذاك..

كنت قد سافرت بطلب من إحدى الجهات الإغاثية التي كانت تقدم خدمات شتى للأفغان في نضالهم ضد السوفييت، من بينها استقدام بعض الكوادر الإعلامية؛ للمساهمة في إصدار مجلات ناطقة بالعربية؛ لإيصال صوت المقاومة الأفغانية إلى العالم العربي، بهدف حشد الرأي العام العربي، لنصرة القضية الأفغانية العادلة، فضلا عن جمع التبرعات (على اختلاف صورها) للمهاجرين الأفغان..

كان منوطا بي "الإخراج الفني" و"التحرير الصحفي" لبعض هذه المجلات، وكثيرا ما كنت أمارس عملي من البيت، وكانت "حبيبة" تراقبني، وما أن بلغت الثالثة من عمرها، حتى بدأت في طرح الأسئلة..

- من هذا يا أبي؟

= هذا شهيد.. اسمه كذا..

- ما معنى شهيد؟

= رجل قاوم المحتل الأجنبي لبلاده حتى قُتل، وهذا اسمه جهاد في سبيل الله.. والذي يموت في سبيل الله لا نصفه بأنه "ميّت"، وإنما نسميه "شهيدا"؛ لأن الشهيد حيٌّ عند الله، لكننا لا نعرف شيئا عن طبيعة هذه الحياة..

- ولماذا يضحك الشهداء هكذا؟

= لأنهم يرون أماكنهم في الجنة لحظة استشهادهم، فيفرحون..

وهكذا..

لم أكن أستعمل لغة "طفولية" في حواراتي مع "حبيبة"، وإنما كنت أستخدم لغة الكبار، إذ ليس مهما أن تفهم (في هذه السن) كل ما أقول، فالمهم (كما كنت أعتقد، وقد كان عمري، وقتئذ، نحو تسعة وعشرين عاما) أن تعتاد "حبيبة" على سماع الكلمات والمصطلحات وترددها؛ لتصبح ضمن حصيلتها اللغوية، وقطعا ستعرف معانيها لاحقا، كلما اتسعت مداركها.. وهذا ما كان..

نشأت "حبيبة" في بيئة محافظة، وأعني بالبيئة، المجتمع العربي في بيشاور، ثم في إسلام آباد العاصمة، فقد ذهب الجميع لخدمة قضية إسلامية عادلة، ولم يذهبوا للارتزاق! ولك أن تتصور (عزيزي القارئ) ماذا كان يشغل الرجال والنساء على السواء، في هذه البيئة، وماذا كانت طبيعة النقاشات التي تدور بينهم.. بالقطع كان معظمها مفيدا، وكانت "حبيبة" تسمع وتراقب..

ساهمت "حبيبة" أكثر من مرة، بمصروفها القليل؛ لدعم قضايا الأمة المشتعلة وقتذاك: القضية الأفغانية، قضية البوسنة والهرسك، كوسوفا، وفلسطين بطبيعة الحال، وذلك أثناء المعارض الخيرية التي كان ينظمها نساؤنا لصالح هذه القضايا..

الحقيقة مهما كان الثمن!

انتقلنا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في سنة 1996، أي أن "حبيبة" كانت قد بلغت العاشرة من عمرها، وبدأت في دراسة التاريخ.. ذلك التاريخ الذي ثبت (من ألف طريق) أن جُلَّه مكذوب ومزوَّر، وأعني تاريخنا المصري والعربي على السواء!

لذا، كانت والدة "حبيبة" تشرح لها المنهاج المقرر، ثم تغلق الكتاب، وتحكي لها التاريخ "الحقيقي"، وتشدد على أن تكون الإجابة في الامتحان مطابقة لما هو موجود في الكتاب المدرسي، حتى لا ترسب، أو تحصل على درجة متدنية!

لكن "حبيبة" كانت تجيب بما اقتنعت أنه الحقيقة، حتى لو كانت النتيجة غير مُرضية! وإن أنسى، فلا أنسى يوم وصلتنا نتيجة امتحانات آخر أحد الأعوام الدراسية، وكانت درجة "حبيبة" في مادة التاريخ أقل من المعتاد، فسألتها أمها عن سبب نقص درجتها، وهي المتفوقة في التاريخ.. فأجابت "حبيبة" بكل هدوء: لأني أجبت عن أحد الأسئلة بالحقيقة، لا بما هو موجود في كتاب المدرسة! فاستطردت أمها تسأل: وماذا كان السؤال؟ فأجابت "حبيبة": كان السؤال: من هو أول رئيس لمصر بعد ثورة (انقلاب) 1952؟ وكانت إجابتي "محمد نجيب"، كما قلتِ لي، وليس "جمال عبد الناصر"، كما هو موجود في المقرر الدراسي! وكافأنا "حبيبة" يومها بالأحضان، والقبلات، والدعاء لها بكل خير..

نشاط "سري"!

مرت السنون، والتحقت "حبيبة" بالجامعة الأمريكية، بإمارة الشارقة، لدراسة الإعلام.. ونشطت "حبيبة"، فالتحقت من فورها بالنادي الفلسطيني الذي كان مهتما جدا بعرض القضية الفلسطينية، في كل مناسبة، ولم يعجب "حبيبة" أداء النادي المصري؛ لعدم اهتمامه بأي قضية ذات قيمة، فضلا عن ابتذال المنتسبين له في تصوير الشخصية المصرية، على نحو مخجل، وغير مشرِّف!

تم اختيار "حبيبة"، من قبل إدارة الجامعة، ضمن الفريق الدبلوماسي المنوط به تمثيل الجامعة الأمريكية في الشارقة، في المحافل والمنتديات، وأبلت بلاءً حسنا، إلى جانب زملائها وزميلاتها في هذا الفريق..

كان لـ"حبيبة" نشاط يمكن وصفه بـ"السري" مع الطالبات "المدمنات"، ولم يكن يعلم بهذا النشاط غير شخص واحد في الجامعة، كان صاحب خُلق ودين.. وكم كنت أتمنى أن أذكر اسمه، غير أن إفشاء اسمه (اليوم) لن يكون في صالحه قطعا، إذا كان لا يزال على قيد الحياة، وحسبه شرفا أن الله يعرفه، وإن جهِله الناس..

لكن.. لماذا كان هذا النشاط سريا؟

لأن الفصل الفوري من الجامعة هو مصير هؤلاء الطالبات.. وكانت "حبيبة" تعتبرهن ضحايا، قبل أن يكنّ مذنبات، ومن ثم فهن بحاجة ماسة للمساعدة؛ حتى يتعافين من الإدمان، أما الفصل فسيؤدي بالضرورة إلى مشاكل اجتماعية جمَّة لهؤلاء الطالبات ولأسرهن، على السواء..

كانت "حبيبة" (بالتنسيق مع صاحبنا هذا، وهو في سن والدها) تقوم بحبس هؤلاء الطالبات في "غرف خاصة" بسكن الطالبات، مع توفير كافة احتياجاتهن، حتى يعبرن أزماتهن، دون أن يعلم أحد.. وكنتُ على علم بهذا الأمر، وكنتُ أشجع حبيبة وأدعمها؛ لإنقاذ زميلاتها من براثن الإدمان..

مسؤولية مبكرة

كانت "حبيبة" هي "ولي الأمر الفعلي" لإخوتها الثلاثة الذين لحقوا بها في الجامعة نفسها، فكانت تنظم لهم شؤونهم المادية مع إدارة الجامعة، لا سيما إذا كانت ظروفي المادية لا تسمح بسداد قسط من الأقساط في موعده، وكانت حبيبة تنجح (دائما) في مساعيها؛ لأنها كانت تحظى بحب واحترام الطاقم الإداري..

في عام 2008، حدثت أزمة اقتصادية عالمية، أثرت على مجال الأعمال في العالم، الأمر الذي أثر سلبا على مواردي المادية، كوني صاحب شركة متوسطة تعمل في مجال التصميم والنشر (مقرها دبي).. فسعت "حبيبة" سعيا حثيثا؛ لتوفير منح دراسية لإخوتها على مدى عامين تقريبا، إلى جانب "التخفيض" أو الخصم الذي كان يحظى به أشقاؤها الثلاثة، حسبما كانت تنص لائحة الجامعة، ونجحت "حبيبة" في سعيها الذي كان شاقا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. ولم تقْصِر "حبيبة" سعيها هذا لصالح إخوتها فقط، وإنما شمل مَن كانت تعرف من الطلبة والطالبات الذين كانوا يمرون بظروف مشابهة..

التحقت "حبيبة" فور تخرجها في الجامعة، للتدريب في محطة أم بي سي الممولة سعوديا، غير أنها قررت مغادرة القناة؛ لفساد بيئة العمل، من وجهة نظرها، ورفضت التوظيف في هذه القناة، براتب مُغْرٍ جدا..

بناءً على توصية أحد أساتذتها في الجامعة، انتقلت "حبيبة" للعمل في صحيفة "جلف نيوز" الناطقة بالإنجليزية، وكانت محل تقدير من رؤسائها وزملائها..

تقديرا لظروفنا المادية الصعبة، في ذلك الوقت، كانت "حبيبة" تتصل بي تستأذنني إذا رغبت في شراء وجبة "تِكا"، أثناء عودتها في المساء من عملها، رغم تنبيهي لها ألا تستأذن! وقد كان الجزء الأكبر من الوجبة (على صغر حجمها) يذهب إلى قطها البري "نيمو" الذي لم يكن يفارقها، حتى في فراشها، وأستطيع أن أجزم أن "حبيبة" كانت تنام جائعة!

تواصلت "حبيبة" مع منظمات الرفق بالحيوان النشطة حول العالم، وكانت تساهم في حملاتها.. كما شاركت في حملة "أوباما" الرئاسية، كونه من أصل أفريقي مسلم، ولما بدا منه الخذلان لقضايا أمتنا، لا سيما القضية الفلسطينية، لم تتردد "حبيبة" في كتابة رسالة "توبيخ" له، أعربت فيها عن ندمها لدعمه!

كانت حبيبة (إذا اجتمعت وزملاؤها وزميلاتها في مطعم) تصر على دفع الفاتورة عن الجميع، حتى لو لم يبق في جيبها درهم واحد، وعندما سألتها شقيقتها "يارا" وقد شهدت هذا الموقف ذات مرة: لماذا هذا يا "حبيبة"؟ فأجابتها "حبيبة": نحن مسلمون، قبل كل شيء، والإسلام علمنا البذل، ونهانا عن البخل، فلعل وعسى أن ينتبه الزملاء والزميلات، ويصبح البذل سلوكا معتادا لديهم!

كانت "حبيبة" تحب القراءة حد الشغف، وكانت تميل إلى قراءة الكتب التي تتناول العوالم الأخرى (الفانتازيا) بشكل عام، والكتب والقصص التي يتحلى أبطالها بمكارم الأخلاق، مثل الصدق، الوفاء بالوعد، التضحية، الشجاعة، التحدي، ومقارعة الأهوال.. إلخ.

تنقلت "حبيبة" منذ بداية "انتفاضة" يناير 2011، بين تيارات شبابية "ثورية" مختلفة، غير أنها لم تلبث مع أي منها إلا قليلا! فكلما بدا لها من "الرفاق" في أي تيار أو تجمع بُعد عن الدين في القول أو السلوك، كانت تفارقهم، ولا تلوي على شيء..

الجانب المجهول من شخصية "حبيبة"

وحتى لا نغرق في "المثالية" إلى الحد الذي يُشعِر الشباب والفتيات بالعجز، أو الضآلة أمام "حبيبة"، ويتصورون أنها نوع نادر من البشر؛ تصوم النهار، وتقوم الليل، والمصحف لا يفارق يدها، ولا تتعامل مع زملائها "الشبان"، فضلا عن امتناعها عما يعتبره البعض "حراما"، أرى من الأهمية بمكان، تسليط الضوء على جانب آخر من شخصية "حبيبة"..

كانت "حبيبة" تسمع الموسيقى، وتذهب مع إخوتها إلى السينما (كانوا يختارون الأفلام بعناية قبل مشاهدتها، من خلال قراءة ما يُكتب عنها في الصحافة العالمية)..

أحبت "حبيبة" صوت فيروز.. فقد كنتُ معتادا على سماعها أثناء قيامي بعملي، وكانت "حبيبة" تراقبني، وتسمع ما أسمع.. وذات يوم (بعد أن كبرت حبيبة) قالت لي: دعني (يا أبي) أفشي لك سرا، لم تكن تعلمه من قبل، ولكن عِدني ألا تسخر مني.. فقلت لها مبتسما: أعِدك.. فقالت: كنت في صِغَري أعتقد أن فيروز "ملاك" يعيش في السماء.. ويوم أن اتسعت مداركي، واكتشفت أنها بشر مثلنا، انخرطت في البكاء، وغرقت في الحزن لأيام! فضحكنا، وقلت لها.. فيروز نموذج فني نادر.. أحترم فيها التزامها بتعاليم دينها، وأحترم فيها جديتها وعدم ابتذالها على المسرح، وهو أمر نادر في هذا الوسط، فضلا عن أغانيها التي اتسم كثير منها بالشفافية، وتصوير المعاني الراقية الجميلة..

كانت "حبيبة" تختلف معنا (جميعا) في مسائل كثيرة، في مجالات شتى، لا سيما في المجالين السياسي والاجتماعي، غير أنها كانت تنصاع بكل رضا للحق، أو للرأي الأمثل، إذا ما اقتنعت، وتصبح أكثرنا تشددا في الدفاع عنه..

وكانت "حبيبة" تشعر بالضعف أحيانا، وكانت تتأثر بالأذى أحيانا أخرى، إلى حد الحزن والغضب، وكانت تبكي بحرقة لا سيما إذا قال لها أحدهم أو إحداهن: أنتِ غير قادرة على قراءة المشهد في مصر؛ لأنك لا تعيشين فيها!

أما الذي لا يعلمه هؤلاء، فهو أن "حبيبة" كانت أدرى (بما يجري في مصر، وبعض البلاد العربية) من بعض كبار السياسيين في هذه البلاد، بحكم اتصالها بالصحافة العالمية..

اللقاء الأخير

دعمت "حبيبة" انتفاضات الربيع العربي جميعا.. وكانت ناشطة في جمع المساعدات لصالح أهلنا في قطاع غزة لسنوات.. وحاولت الذهاب إلى الشمال السوري؛ لتقديم المساعدة، غير أن ظروف عملها حالت دون ذلك..

انتخبت "حبيبة" الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح (فك الله أسره)، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية "اليتيمة" التي جرت في 2012، وكذلك أنا، ثم صوتت لصالح الدكتور محمد مرسي (الرئيس الشهيد) في الجولة الثانية، وصارت من أشد أنصاره والمدافعين عنه، مع انطلاق الهجوم غير الأخلاقي، وغير الموضوعي، وغير المبرر عليه، بهدف إسقاطه!

تقدمت "حبيبة" أكثر من مرة إلى مديرها في "جلف نيوز"، بطلب للحصول على إجازة بدون راتب؛ للنزول إلى مصر لتكون بين الثوار، غير أن طلباتها قوبلت بالرفض إلا أن طلبا واحدا تزامن مع موعد إجازتها الاعتيادية، فنزلت، ومكثت في مصر نحو شهر، وشاركت الثوار في مظاهرات عديدة ضد العسكر الذين كانوا يصرون على عدم تسليم السلطة لرئيس منتخب كما وعدوا، بعد تنحِّي مبارك، أو تنحيته على وجه الدقة، ثم كانت المرة الثانية والأخيرة، أثناء اعتصام رابعة..

في هذه المرة، قررت "حبيبة" أن يكون سبب إجازتها (غير الاعتيادية) مختلفا؛ كي تحصل على الموافقة! إذ قالت لمديرها: أطلب الإجازة هذه المرة؛ لأن هناك مشروع "خِطبة"! فوافق المدير مضطرا.. ونزلت "حبيبة" مصر، ولعلها كانت تعي وتدرك ما تقول، فقد لقيت ربها عذراء، يزوجها في جنته بمن يشاء من عباده الصالحين..

شاركت "حبيبة" في اعتصام رابعة.. وكانت ناشطة في اللجنة الإعلامية، وكثيرا ما قابلت الوفود الأجنبية بصحبة النائب البرلماني المعتقل (منذ عشر سنوات) الدكتور محمد البلتاجي الذي أوفدها لحضور بعض اللقاءات نيابة عنه، ومتحدثة باسمه..

كنتُ ألتقي "حبيبة" من آن إلى آخر، وفي الليل، قبل يوم من مجزرة رابعة، جاءتني "حبيبة"، وكنت جالسا في المركز الإعلامي، مع الدكتور علاء عبد العزيز، وزير الثقافة في حكومة الدكتور هشام قنديل، نتجاذب أطراف الحديث، فانضمت إلينا "حبيبة" لبعض الوقت، ثم ما لبثت أن همست في أذني: أستأذنك يا أبي.. فقلت لها تفضلي، ثم التفتُ إلى الوزير مواصلا الحديث، غير أن "حبيبة" قالت لي بصوت مسموع هذه المرة.. انهض يا أبي من فضلك.. أريد أن أعانقك.. فقمت وعانقتها، وودعتها، وكان لقاءنا الأخير، في هذه الدنيا الفانية..

هذه "حبيبة".. أما استشهادها الذي أحسب أنه كان مكافأة من الله لها عن صدقها معه، ولا أزكيها عليه سبحانه، فقد رويت وقائعه، في مقال سابق، نشره موقع "عربي 21" تحت عنوان "كنت هناك"، ونشره موقع "Middle East Eye" تحت عنوان: "Rabaa massacre: A bereaved father's eyewitness account".

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com