كتب

فكرة المهدي عند الصّوفيّة.. هل هي استنساخ للعقيدة الشيعيّة؟

يذهب الدكتور كامل مصطفى الشّيبي دون تردد إلى اعتبار فكرة المهديّ المنتظر واحدة من المثل الشيعيّة التي اخترقت التديّن الصّوفي وأثّرت فيه..
عنوان الكتاب: المهدويّة عند الصّوفيّة
المؤلّف: د. عبد السلام الحمدي
النّاشر: زينب للنشر والتّوزيع
الطّبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 164


 يقف الدّارس للمدوّنة الصّوفيّة على شحّ بائن فيما يتعلّق بفكرة المهدي،أو المهدي المنتظر أو المهدويّة الصّوفيّة. فعلى عكس ما ظفرت به المهدويّة عند الشيعة (الإمام الغائب) من عناية الدّارسين واهتمامهم، غلبت الاستهانة بالقيمة الرمزية لفكرة المهدوية ومدى فاعليتها الاجتماعيّة لدى الصّوفيّة ومدّعيها.

شحّ أكاديمي وبحثي قوّى الاعتقاد السّائدبأنّ المهدويّة الصّوفيّة استنساخ لأفكار شيعيّة ونسج على منوالها. بل إنّ الأبحاث التي حاولت الإحاطة بأقاويل مختلف الطوائف الإسلاميّة في المهدي المخلّص اتخذت مزاعم فرق الشيعة مبحثا مركزيّا وأولت دعاوى نحل أخرى ما يناسبها من الاهتمام، ولم يكن نصيب تصوّرات المتصوّفة سوى إشارات هامشيّة لا تزيد، على تأكيد أثر التشيّع فيها.

من جهة أخرى فإنّ اقتران المهدويّة الصّوفيّة بالمنازعة الدّينيّة والمغالبة السياسيّة، فضلا عن كون ما أمسى من الحقائق أن الظّلم السياسي والاضطهاد الدّيني ظلّا يغذّيان نزعة انتظار مخلّص محصّن بالتّأييد الإلهي، ساهم في الرّبط الآلي بين تبنيّ عقيدة المهدويّة في الأوساط الصّوفية والتعرّض لجور السلاطين أو الاضطهاد المستند على الدّين. وطبيعي جدّا أن تكون النتيجة المباشرةلهذا الخلط،تبسيط لظاهرة المهدويّة المركّبة وفشل في فهم تعقيداتها التاريخية والعقديّة.

في هذا الإطار، يتنزّل كتاب "المهدويّة عند الصّوفيّة"، لمؤلفه الدكتور عبد السلام الحمدي، الذي رامالتنقيب فيما يخصّ المنتظر من مدوّنات المتصوّفة وآثارهم الشفويّة، وتتبّع أخبار حركاتهم المستندة عليه واستنطاق كلّ ذلك بالاستنتاجات المفيدة والخلاصات النّافعة التي تبينُ خصوصيّة المهدويّة الصّوفيّة وأوجه تميّزها عن المهدويّة الشيعيّة.

والدكتور عبد السّلام الحمدي هو أستاذ اللغة والحضارة ومدير قسم الحضارة الإسلاميّة بالمعهد العالي للحضارة الإسلاميّة بتونس. وهوباحث في التصوّف وعضو بمخبر البحث: الظّاهرة الدّينيّة. وهو مؤلف: "مقالات الصّوفيّة في المسائل الاعتقاديّة" و"الخطاب الصّوفي الاحتجاجي في مؤلفات الشيخ العكريمي شيخ الطريقة الحسنية التونسيّة".

وجاهة البحث في المهدويّة الصّوفيّة

يؤكّد الدكتور الحمدي أنّ الخوض في المهدويّة الصّوفيّة يستمدّ وجاهته وجدواه من معطيين اجتماعيين على الأقل، أحدهما أنّ فكرة وعقيدة المهديلمّا تزل من العقائد الجذّابة في مجتمعاتنا الإسلاميّة، وهي ما انفكّت تثير الجدل المتنامي حتى أيامنا هذه، والذي نجد أثره في منتديات الشبكة العنكبوتية ومناقشاتها.  أمّا المعطى الثاني فمردّه إلى أنّ المتصوّفة هم أكثر ممّن رسّخوا في المجتمعات الإسلاميّة السنيّة معتقدات المهدي وممارساتها وهو ما أبقى على جذوتها إلى اليوم.

ويطلق لفظ المهدي اسما مرادا به شخص معيّن أشار إليه مؤلّف معجم "لسان العرب" إذ قال: "وبه سمّي المهديّ الذي بشّر به النّبيّ ـ ص ـ أنّه يجيء في آخر الزّمان". ويرى الدكتور عبد السلام الحمدي أنّ صيغة المهدي لم تتداول اسما لشخص منتظر إلاّ بعد مضّي الرّسالة المحمّديّة، حين ظهرت نزعة انتظار منقذ وراج المنسوب إلى الرّسول من الأحاديث المبشّرة به. كما أنّه ولئن اختلفت تلك الأحاديث في تعيين هويّة "المهدي" الذي تشير إليه وتباينت، قليلا أو كثيرا، في رسم صورته، فإنّها اتفقت في كونه خليفة ينصف المظلومين في حملة شاملة على الجائرين.

عقيدة الرّجعة

تجلّت عقيدة الرّجعة لأوّل مرّة على لسان عمر بن الخطّاب حين قال، وقد هاله خبر وفاة النبيّ: "إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله ـ ص ـ قد توفّي، وإنّ رسول الله ـ ص ـ ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنه مات، والله ليرجعنّ رسول الله -ص- كما رجع موسى، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله -ص- مات".

تجلّت عقيدة الرّجعة لأوّل مرّة على لسان عمر بن الخطّاب حين قال، وقد هاله خبر وفاة النبيّ: "إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله ـ ص ـ قد توفّي، وإنّ رسول الله ـ ص ـ ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران
وإذا كانت مقالة عمر بن الخطّاب قد خنقت في المهد ولم يكن لها أثر في فترة حكم الخلفاء الراشدين، فإنّ فكرة الرّجعة طفت على السطح من جديد بعد مقتل علي بن أبي طالب مقترنة به ثمّ بعض ذرّيته في فترات لاحقة، وباتت عنصرا بنيويّا في نظريّة الإمامة لدى الفرق الشّيعيّة كافّة. وبالتالي يجزم الدكتور الحمدي بأنّ التشيّع هو الذي روّج تلك الفكرة على نطاق واسع ورسّخها صلب الخطاب الدّيني داخل المجتمع الإسلامي.

ويرى الدكتور الحمدي أن منطلق تكوّن المهدويّة الابتدائّية، على الأرجح، مجرّد مقالة برزت بعد مقتل الحسين بن علي (680 م) أي عندما اتّجهت الأنظار إلى محمّد بن الحنفيّة الذي أشاع عنه المختار الثقفي في الأوساط الشّيعيّة أنّه المهديّ. وقد حرص الشيعة منذ حركة المختار الثقفي على استثمار المهدويّة فيالصّراع السّياسي.

المهدويّة الصّوفيّة والمشرب الشيعي

يذهب الدكتور كامل مصطفى الشّيبي دون تردد إلى اعتبار فكرة المهديّ المنتظر واحدة من المثل الشيعيّة التي اخترقت التديّن الصّوفي وأثّرت فيه. ويتنزّل رأيه هذا في تصوّر عامّ مبنيّ على اختزال العلاقة بين التصّوف والتشيّع بمقولة التأثّر والتّأثير، فمن تداعيات هذه المقولة أن وصل الباحثالولاية الصّوفيّة بالإمامة الشيعيّة، إذ اجتهد في إثبات أنّ المتصوّفة وضعوا مقوّمات الولاية على منوال نظريّة الإمامة عند الشّيعة، وترتّب على تسلسل الرّوابط في منطقه أن انتهى إلى استنتاج عبّر عنه بالقول: "مادامت الولاية مرتبطة بالإمامة، والإمامة تنتهي بالمهديّة في التشيّع، فإنّ المنطقيّ جدّا أن تنتهي الولاية بالمهديّة شأن الإمامة".

لقد انجرّ عن عقد الصّلة بين نظام الولاية الصّوفي ونموذج الإمامة الشّيعي انفتاح مجال رحب لقياس أفكار المتصوّفين على عقائد المتشيّعين، حتّى أنّ الشّيبي لم يكتف في ذلك بالمهدويّة الابتدائيّة، وإنّما سحبه على المهدويّة الاستئنافيّة، مضيفا في مجرى ربط التصوّف بالتشيّع فكرة الرّجعة، إذ عدّ صيغتها الشيعيّة أصلا تحتّم على سالكي طريق الإحسان استنساخه، فهو يقول في هذا المعنى: "بل لقد كان من الضّروري/ والحال هذه، أن تسبغ (المهدوية) على بعض شهداء الصّوفيّة كما دارت حول الأئمّة الذين كانت مهديّتهم دليلا على تعلّق شيعتهم العاطفي برجعتهم وإيمانا منهم بروحانيّتهم وبشبههم بالمسيح الذي رفع إلى السّماء وسيعود بعد".

وأمّا المناسبة التي أسفرت عن أثر تلك العلاقة في المخيال الصّوفي فهي، على ما يرى الشيبي، حادثة قتل الحلاّج (922 م)، إذ آمن أنصار المقتول بحتميّة رجعته. وقد أجرى الشيبي، صاحب كتاب "الصلة"، مقارنة بين نموذج الحلاّجيّة هذا وجملة من دعاوى الشيعة في أئمتهم ليثبت تأثّر المتصوّفة بما دأب أولئك على ترويجه، ووسعه أن يخلُص، في ضوء حصيلتها، إلى تحديد زمني يتعلّق بأقدم تجلّيات المهدويّة داخل الأجواء الصّوفيّة: "فتكون فكرة المهديّة قد دخلت التصوّف ابتداء من الحلاّج في أوائل القرن الرّابع هجريّة".

ابن خلدون ووصل المهدوية الصّوفيّة بالمهدويّة الشيعيّة

فضلا عن وصل المهدويّة الصّوفيّة بالمهدويّة الشيعيّة، فإنّ صاحب كتاب "المقدّمة" قرن التصوّف المتأخّر كليّة بالتشيّع، وقد رصد الشّيبي هذه العمليّة وأشار إليها، وفي ضوئها بدت له فكرة المخلّص واحدة من جملة أفكار متكاملة صاغها الشّيعة ونسج على منوالهاالمتصوّفة  المتأخّرون مثلا وعقائد متكاملة هي الأخرى.

يخلص الدكتور الحمدي إلى أنّ حصيلة تلقّي الشّيبي لعمليّة القران تلك، إنّما تكشف عن إمكان أن تفضي قراءة النّص الخلدوني إلى استنتاج أن فهم الصّلة بين المهدويّتين لا يتيسّر إلاّ بالنّظر في مختلف أبعاد علاقة شاملة تجمع ذينك النّمطين من أشكال التديّن الإسلامي، إذ تنتظم الأفكار الصّوفيّة على مثال المثل الشيعيّة، في نسق نظريّ تتكامل عناصره بنحو يجعل كنه العنصر الواحد منها متعذّرا ما لم يستوعب سائرها.

لقد انجرّ عن عقد الصّلة بين نظام الولاية الصّوفي ونموذج الإمامة الشّيعي انفتاح مجال رحب لقياس أفكار المتصوّفين على عقائد المتشيّعين،
في ذات الإطار، فإنّ التّسليم بأنّ هذا المنطق هو الذي يحكم ذاك النّص، يجعل سهلا تحديد المغزى من إشارة ابن خلدون إلى محاكاة المتصوّفة لنظريّة الإمامة عند الشّيعة في تصوّر هيكل الحكومة الباطنيّة التي يرأسها القطب.

ويرى الحمدي أنّه بفعل تلك الإشارة، تنبّه الشّيبي إلى أنّ اتّصال الولاية الصّوفيّة بنظريّة الإمامة الشّيعيّة كان العامل في استثارة المنزع المهدوي لدى المتصوّفة، والرّاجح أنّها هي التي دفعت "ألفرد بل" إلى تفسير قريب من هذا المعنى، ومن المفترض كونها قادت أحمد أمين وسعد محمّد حسن إلى الخلط بين عقيدة المهدي وفكرة القطب. ويحتمل أن ما ذهب إليه الأوّلان هو مقصد ابن خلدون بها، فالظّاهر أنّه على وعي بأنّ عقيدة المهديّ الفاطمي فرع من نظريّة الإمامة عند الشّيعة، وأنّ ظهورها في أوساط المنتسبين إلى التصوّف ناجم عن محاكاة الحكومة الباطنيّة الصّوفيّة للنّظام الإمامي الشّيعي.

المهدويّة في الخطاب الصّوفي

بالرّغم من أهميّة الخطاب الصّوفي الشّفوي اليومي، بوصفه الجاري على ألسنة مشايخ التصوّف في المجالس الخاصّة والعامّة، وبالرغم من كونه لا يقلّ عن مدوّناتهمجدارة بالبحث والدّراسة، إلاّ أن هناك مسلّمة مفادها ندرة الإشارات المهدويّة في المسطور من كلام المتصوّفة، ومن المحتمل أن تكون ندرتها، في القرنين الرابع والخامس خصوصا، ناجمة عن مرارة تجربة الحلاّج، فإنّ نهايته الأليمة من الوقائع الجسام التي يمكنها حمل أمثاله على إخفاء عقائدهم وكتمان أفكاهم حذر أن يكون مآلهم كمآله، يؤكّد الدكتور الحمدي.

كما يشير الدكتور الحمدي إلى معطى آخر لا يقلّ أهميّة عن المعطى الأوّل، ويرقى إلى مستوى الحقيقة الثابتة، يتمثّل في كون المهدويّة من النّزعات التي غالبا ما يكون أثرها في المنتج الكتابي ضعيفا مقارنة بوقعها صلب الخطاب اليومي الشّفوي، فهذا مجالها الحيوي الذي قلّما يعثر فيه على وثائق تيسّر تعرّف ما يروج فيه من تنويعاتها. إذن، ليس يبعث على الاستغراب انحصار المحفوظ من آراء متصوّفة القرنين الرابع والخامس في نصّين قصيرين جدّا خلّفهما محمّد بن عبد الجبّار النّفري المتوفّى، وهما يمثّلان، مع المنجز الذي ألّفه الحكيم التّرمذي تحت عنوان "ختم الأولياء"، عمدة المبحث الجاري.

هل تلقّى المتصوّفة عقيدة المهدي المنتظر عن الشّيعة؟

يؤكّد الدكتور عبد السلام الحمدي أنّ البحث قاده إلى تهافت القول بأنّ المتصوّفة تلقّوا عقيدة المهدي المنتظر من الشيعة، فقد تبيّن أنّ البيئة الإسلاميّة لم تكن خالية من دعاوي غير شيعيّة مدارها على تلك العقيدة لمّا برزت بوادر الاحتفاء بها في أوساط المنتسبين إلى التصوّف، بل قلّما وافقت مقالة من مزاعم هؤلاء فيها رأيا يختصّ به مذهب التشيّع.

وإنّما الملاحظ في الخطاب الصّوفي أن منتجيه كيّفوا، على مقتضى تطلّعاتهم، المنسوب إلى النّبي من النبوءات المبشّرة بالمهدي والمتواتر داخل البيئة الإسلاميّة من الدّعايات المحاكية لتلك النبوءات، ولا تخفى مباينتهم لما أنشأت سائر أشكال التديّن من الخطاباتالمهدويّة، ناهيك أنّ مقالاتهم في المهدي المنتظر تضمّنت ما لم تأت به الأسانيد النبويّة وخلت منه التوقّعات الشيعيّة ونظائرها المتنوّعة على قدر تعدد الفرق الدّينيّة، ولا غرو أن يزعم المتزيّد منهم في التحدّث عن أمر المخلّص أن الكشف الإلهي عرّفه عيانا كوائن آخر الزّمان، فإنّ دعوى المكاشفة متأصّلة في التصوّف، يضيف الدكتور الحمدي.

عقيدة المهدي ظاهرة مركّبة

بالرغم من إقراره بأنّ عقيدة المهدي استخدمت داخل الأوساط الصّوفيّة أداة للمنازعة الدّينيّة والمغالبة السياسيّة، فإنّ الدكتور عبد السلام الحمدي يرى أنّه من المبالغة الحكم بأنّ ميل غير فرد وجماعة من المتصوّفة، في غير عصر ومصر، إلى اعتماد تلك الأداة ناجم دوما عن تعرّضهم لجور السلاطين أو الاضطهاد المستند على الدّين، فلئن أمسى من الحقائق أن الظّلم السياسي والاضطهاد الدّيني ظلّا يغذّيان نزعة انتظار مخلّص محصّن بالتّأييد الإلهي، فإنّ ردّ كلّ مقالة ذات توجّه مهدوي إليهما وعدَّ أيّ دعوى من هذا القبيل منجرّة عنهما تبسيط لظاهرة مركّبة.