كتاب عربي 21

مصر والأزمة السودانية.. غياب أم تغييب؟!

انحاز السيسي للجيش السوداني- تويتر
وكأنها ليست الدولة العربية الكبيرة، وكأنها ليست الجارة بالجنب للسودان، وكأن السودان لم يعد عمقها الاستراتيجي، كما أنها العمق الاستراتيجي له!

بعيداً عن الحساسيات التاريخية لدى البعض، فإن السودان يمثل لمصر الشقيق وإن اختلفا، فمصارين البطن تتعارك، ويُذكر التاريخ للنحاس باشا قوله: "تقطع يدي ولا أوقع على انفصال السودان"، وذلك عندما كان المعروض عليه استقلال مصر مقابل التنازل عن السودان. وإذا كان حدث الانفصال بعد ذلك، فإن الحرص استمر على أن تكون هناك علاقة أخوة ولو في حدها الأدنى بحسب العلاقة بين حكامها. ولا زلت أذكر عندما كنت في الصف السادس الابتدائي، كان موضوع الإملاء في امتحان نهاية العام، عنوانه: "مصر والسودان"، ولا زلت أتذكر نبرة صوت الأستاذ المراقب، وهو يملي علينا النص بنبرات صوته الغريبة، وطريقة نطقه المميز للتاء المربوطة للتمييز بينها وبين الهاء المربوطة. وكانت بداية النص: "مصر والسودان بلد واحد، فالنيل واحد، واللغة واحدة.." وهكذا..!

وربما كان السبب في بعض الأزمات العابرة هو خطأ القيادات المصرية، الذي أنتج حساسية لدى بعض السودانيين، من حيث القيام بدور الأخ الأكبر، فيزعجه تارة أن يحكم الإسلاميون السودان، فيرى أن من سلطته التدخل لإقرار المصير هناك، وذلك لوقوع ضرر من هذا الحكم بمحاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا، أو خوفاً من تأثير هذا على الداخل المصري، وتارة تحدث الأُلفة كما حدثت بين الرئيس السادات وجعفر النميري!

عندما نطالع أن وزير الخارجية الأمريكي قد أجرى اتصالات مع نظيريه السعودي والإماراتي لحث البلدين على التدخل لوقف إطلاق النار في السودان، فمن حقنا أن نسأل وأين مصر، وهي الجارة بالجنب، والتي يربطها بالسودان مصير مشترك؟

وعندما نطالع أن وزير الخارجية الأمريكي قد أجرى اتصالات مع نظيريه السعودي والإماراتي لحث البلدين على التدخل لوقف إطلاق النار في السودان، فمن حقنا أن نسأل وأين مصر، وهي الجارة بالجنب، والتي يربطها بالسودان مصير مشترك؟

إن مصر في زمن مبارك لم تكن نظرتها لحكام السودان العسكريين هي نظرة عبد الفتاح السيسي، الذي سعى للتقارب مع الرئيس عمر البشير، وقدم له "عربون محبة" تمثل في رفض استقبال الصادق المهدي بعد مشاركته في ندوة تعرضت للسياسة السودانية في الخارج، وكان يقيم في مصر منذ عهد مبارك، رغم أن بينهما ودا مفقودا، من جانب المهدي نفسه، لأسباب تاريخية، لا ناقة لمصر المعاصرة فيها ولا جمل، ومع ذلك استقبلته القاهرة مقيماً لأن مصر هي المكان الطبيعي والبديل لشخصية بحجم الصادق المهدي.

فالسيسي اندفع في اتجاه تطبيع العلاقات مع البشير، لحصار معارضيه من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه كان يرى أن العقيدة العسكرية هي الأصل الجامع بغض النظر عن التوجهات الأخرى، حتى وإن كان يعلم أن الجذور الفكرية للبشير هي جذور إخوانية، وقد سعى للحصول على اعتراف منه بالنفي، على طريقة "أكاد أشك فيك لأني أكاد أشك في نفسي وأنت مني"، لكن البشير لم يمنحه ما يريد، وغطى على الأمر بالضحك لا بالاستنكار!

ولهذا تستقبل القاهرة الآن عدداً من القادة العسكريين السابقين، من بينهم قيادات الجيش الذين رفضتهم الثورة، فضلاً عن صلاح قوش، بغض النظر عن انتماءاتهم الأخرى، فالأصل عنده هو الانتماء العسكري وهو الانتماء الغالب، والانحياز لهذا الانتماء هو الذي جعله منحازا انحيازاً كاملاً ضد قوات الدعم السريع، بنفس درجة انحيازه لأن يحكم الجيش حكماً مباشراً، وينهي أي حضور للمدنيين، ولهذا ربما يسعده ما جرى مؤخراً لأنه سيتجاوز الاتفاق الإطاري، وقد ينتهي بالأمر إلى حاكم عسكري متغلب، يحكم مثله حكماً منفرداً، وهو الأمر المطلوب لديه!

الملف السوداني هو واحد من الملفات القليلة التي فيها خلاف بين الإمارات والقاهرة، فبينما يميل محمد بن زايد إلى حكم حميدتي أو الفوضى، يخشى السيسي بطبيعة الجوار من هذه الفوضى، وينحاز لرئاسة برهان بدون شريك ينتحل صفة عسكرية ليست له؛ مثل حميدتي وقوات الدعم السريع، ولهذا كانت بداية تحرك المليشيات بوضع يدها على مطار مروي، الذي ترابط فيه القوات المصرية،

ومن هنا، فمصر من حيث التاريخ والموقع، بل ومن حيث الأوراق والاهتمامات، ما كان ينبغي أن يتم تجاوزها في شأن يخص السودان، فما الذي يجعل وزير الخارجية الأمريكي يتجاوز الجنرال، ويستعين بالرياض وأبو ظبي؟!

إن الملف السوداني هو واحد من الملفات القليلة التي فيها خلاف بين الإمارات والقاهرة، فبينما يميل محمد بن زايد إلى حكم حميدتي أو الفوضى، يخشى السيسي بطبيعة الجوار من هذه الفوضى، وينحاز لرئاسة برهان بدون شريك ينتحل صفة عسكرية ليست له؛ مثل حميدتي وقوات الدعم السريع، ولهذا كانت بداية تحرك المليشيات بوضع يدها على مطار مروي، الذي ترابط فيه القوات المصرية، والخشية أن ينطلق الطيران المصري من هذا المطار لقصف مراكز الدعم السريع!

لا يستساغ القول إن انحياز السيسي لطرف دون طرف لا يجعله مؤهلاً للوساطة، فالإمارات أيضاً منحازة، ولا أعتقد أن المملكة السعودية يمكن أن تراهن على أن يكون الدعم السريع هو سلطة الحكم، وحميدتي مغامر، ليس لديه ما يخسره سياسياً!

إن السيسي يتصرف دائماً في الملمات على أنه لا يوجد هناك ما يقلقه، وفي الوقت الذي كان فيه ضباط وجنود مصريون في قبضة قوات الدعم السريع، كان يعقد اجتماعاً مع مرؤوسيه ظهر فيه عسكريون على نحو قد يوحي للناظر للصورة أنه اجتماع حرب لتحرير الجنود، لكن الخبر أفاد بأنه لمتابعة مشروعات خاصة بالهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، ومنها مشروعات الطرق، وتشييد الكباري، وكأنه لا يعيش على هذا الكوكب!

بعيداً عن اختطاف الجنود المصريين وهو أمر لا بد أن يثير الغضب العارم، فبدون هذا فإن ما يحدث في السودان، لا بد أن يكون على رأس جدول الأعمال، إن لم يكن موضوعه الوحيد، لكن فكرة المبالغة في الظهور في مشهد غير المعني، بمعنى غير القلق من أي شيء، فضلا عن تصديره صورة أن العالم يشهد فوضى بينما هو يناقش البناء وإتمام المشروعات، أخرجه من المشهد، فلم يجد البيت الأبيض أهمية ترجى، فيهاتفه كدولة معنية بالأمر، إن لم يكن بحكم كون مصر دولة الجوار للسودان، فمن حيث كونها الدولة العربية الكبرى، وهي المكانة التي تخلى عنها  السيسي بحديثه حد الملل عن حالة العوز، والاحتياج، وأنه ليس لديه قدرة على التعليم، أو العلاج، أو توفير السكن، الأمر الذي يجعل منه عبئاً على كل من يطلب منه طلباً بالتدخل في أي ملف!

إن مبارك متهم عندنا بأنه تنازل عن الدور المصري في المنطقة لصالح المملكة العربية السعودية، فكان تابعاً لهم حتى في تحديد علاقته بالإقليم، فيعادي قطر إذا خاصمتها السعودية، ويصالحها إذا صالحتها، ويطلب منه التقارب مع سوريا فيقول ناقشوا الأمر مع السعوديين، لكن ظاهريا فإن السعودية لم تمعن في تجاوزه بل كانت دائماً تحرص على أن تكون خلفه وليس أمامه!

ماذا بقي لمصر من أدوار في المنطقة، عززت مكانتها دولياً وفي الإقليم باعتبارها دولة مهمة لا يجوز تجاوزها، وهو ما كان يدفع الغرب للتقرب منها والعمل على ألا يسقط حكامها؟ وها هي تخرج طواعية من موقعها، ربما لفقد الإرادة وفقد الوعي بهذه المكانة وهذه الأدوار، في ظل حكم يدير البلد بمنطق تاجر الأراضي، أو السمسار

والعلاقة مع السعودية الآن ليست على ما يرام، ومحمد بن سلمان من جيل مختلف ولا بد أن يكون قد أصابه الملل من تصرفات صغيرة وغير مبررة، فلم يطلب وزير الخارجية السعودي من نظيره الأمريكي أن تكون القاهرة في الصورة، الأمر نفسه الذي لم تطلبه الإمارات، التي تتصرف على أنها دولة كبرى في المنطقة!

واللافت هنا أنه عندما تدخلت تركيا في الشأن الليبي، كان هناك غضب عارم من السلطة في مصر، باعتبار أن الجوار والعلاقة التاريخية بين مصر وليبيا يجعلها شأناً مصرياً لا يجوز لغريب أن يأتي من بعيد ليتدخل فيها، الأمر نفسه حدث بحضور تركيا في سواكن السودانية، لكن لا شيء عن تخطي الرقاب في الأزمة السودانية!

ليقودنا هذا إلى سؤال: وماذا بقي لمصر من أدوار في المنطقة، عززت مكانتها دولياً وفي الإقليم باعتبارها دولة مهمة لا يجوز تجاوزها، وهو ما كان يدفع الغرب للتقرب منها والعمل على ألا يسقط حكامها؟ وها هي تخرج طواعية من موقعها، ربما لفقد الإرادة وفقد الوعي بهذه المكانة وهذه الأدوار، في ظل حكم يدير البلد بمنطق تاجر الأراضي، أو السمسار الذي لا تشغله سوى العمولة!

هكذا لم يعد للقوم من أدوار سوى الدور الذي تخلق بكونهم يقومون بدور "خفير الدرك" على معبر رفح، وقد وجد الرئيس الأمريكي الحالي نفسه مضطراً ليجري أول اتصال بالسيسي ليطلب منه حث المقاومة على وقف إطلاق النار، وإن طلب الأمر نفسه من القطريين، لكن السيسي طلب استبعاد القطريين على أن يقوم بهذا الدور منفردا، فهي فرصة لإثبات وجوده

وهكذا لم يعد للقوم من أدوار سوى الدور الذي تخلق بكونهم يقومون بدور "خفير الدرك" على معبر رفح، وقد وجد الرئيس الأمريكي الحالي نفسه مضطراً ليجري أول اتصال بالسيسي ليطلب منه حث المقاومة على وقف إطلاق النار، وإن طلب الأمر نفسه من القطريين، لكن السيسي طلب استبعاد القطريين على أن يقوم بهذا الدور منفردا، فهي فرصة لإثبات وجوده، فتقارب مع المقاومة وهي التي اتهمها في السابق بفتح السجون، وإشاعة الفوضى في البلاد، والتآمر مع الرئيس محمد مرسي ضد مصر، لكنه نسي هذا فوراً، لأنه الدور الذي سيقربه من البيت الأبيض زلفى!

والآن، ماذا لو خضعت إسرائيل، وقدمت تنازلات للمقاومة، وتم إيجاد بديل عن المعبر، لسفر أهل غزة وإدخال الأغذية والمساعدات إليهم، وصار الحصار الذي هو بيد القاهرة في ذمة التاريخ؟ فماذا بقي له من أدوار تجعل من الحفاظ عليه ضرورة؟ حديثه عن أن أمن إسرائيل مهمته؟ وماذا لو كان في استمراره ما قد يدفع للفوضى التي قد تمثل خطراً محققاً على إسرائيل؟!

لقد غابت القاهرة، فتم أخذها غياباً، ومن ثم تغييبها، وتم طلب الوساطة من السعودية والإمارات، فانتبه لذلك وطار إلى جنوب أفريقيا للوساطة، لكن، وكما تقول الست: "فات الميعاد".

لقد مله العالم!

twitter.com/selimazouz1