أفكَار

كيف يصبح الحكام ظل الله في الأرض مهما كانوا طغاة وظلمة؟

أبو يعرب المرزوقي: الفلاسفة يحتقرون المادة ويعتبرونها مصدر كل الشرور بخلاف ما يراها عليه القرآن
بعد أن حددنا بنية المحتوى القرآني من حيث هو المعادلة الوجودية التي هي في آن عين كيان الإنسان وعين كيان عالم الشهادة وعلاقته بما يضفي عليه المعنى، ومن ثم فهو استراتيجية السياسة التي يحددها الإسلام للإنسانية من حيث هي مستعمرة في الأرض ومستخلفة فيها فرض عين كل فرد في التساخرين التبادلي لسد الحاجات العضوية والتواصلي لسد الحاجات الروحية.

ولا يمكن للفرد أن يحقق الاستعمار والاستخلاف من دون التجهيزين والتساخرين. فأما التجهيزان فهما حرية الإرادة ورجاحة العقل وأما التساخران:

 فأولهما تبادلي وشرطه تقاسم العمل المنتج للثروة والديموغرافيا والتعاون عليه في سد الحاجات العضوية وجزاؤه التعاوض العادل.

والثاني تواصلي وشرطه تقاسم العمل  المنتج للتراث والقيم والتعاون عليه في سد الحاجات الروحية وجزاؤه التفاهم الصادق.

وتلك استراتيجية السياسة الشرعية التي تحرر البشرية من دين العجل أي من الحلف بين أصحاب ربا الأموال (المرابون) وأصحاب ربا الأقوال (محرف ربيين). فالأولون يحولون العملة من أداة تبادل إلى سلطان على المتبادلين والثانون يحولون الكلمة من أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين فينقسم البشر إلى:

ـ سادة بدرجتين مثل سلطان العملة المباشر (البنكيون) وسلطانها بتوسط سلطان الكلمة الخادم لها (الإيديولوجيون).

ـ وعبيد بدرجتين مثل سلطان الكلمة المباشر (استراتيجو الخداع) وسلطانها بتوسط خدمها (الإعلاميون)
وذلك هو ما يعتبره  ابن خلدون علة لفساد معاني الإنسانية الذي يرد الإنسان إلى أسفل سافلين فيتخلى عن حرية الإرادة التي تعبد من يسيطر على الرزقين المادي والروحي وكرامة العقل الذي يقبل أن يتحول إلى أداة في خدمة الشر والباطل. فيفقد الإنسان بذلك منزلة الخلافة التي للإنسان الحر والكريم الذي عرفه ابن خلدون بكونه "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلقوا له".

وإذن فرمز فساد السياسة ومعاني الإنسانية تعين في غاية تحريف الأديان وأقصاه أي في دين العجل الذي يجعل الأداة غاية أداة التبادل وأداة التواصل تعوضهما بما لصاحبهما من سلطان على تلك الغايات. ولا يمكن تحديد الرؤية القرآنية للعلاقة بين الجسدي والروحي من دون الانطلاق من ظاهرتين غالبا ما ينكرهما الفلاسفة والمتصوفة:

ـ الأولى هي البعث البدني الذي لا جدال فيه في القرآن ما يعني أن البدن لا تنطبق عليه نظرية المادة التي سيطرت على الفكر الفلسفي بل هو مدد أحيا التراب فجعله أسمى من النار باصطلاح العناصر الخمسة في الفلسفة القديمة (التراب والماء والهواء والنار والعنصر الخامس).

ـ الثانية هي شهادة الجوارح على صاحبها يوم الحساب. فالجوارح هي أعضاء البدن التي تصبح ناطقة فتتين هي التي كانت تسجل كل سلوك الإنسان بحيث إن المدد لكونه حيا يشبه الذاكرة التي تسجل كل سلوك الإنسان بوظيفة الشاهدين لصاحبه عليه.

فالأولى ترفع من منزلة البدن فنفهم أهمية العناية به في القرآن الكريم عناية هي من شروط العبادات. واحتقار البدن نجده عند الفلاسفة ومن تأثر بهم من الأديان وخاصة المسيحية والبراهمانية والتصوف في الإسلام.

لكن الإسلام أكثر الأديان تجاوزا لهذا التأثير الفلسفي المحقر من المادة والجسم بحيث يعتبر موقف الفلاسفة أشبه بما يرمز إليه موقف إبليس من المفاضلة بين المواد ورفض الروحي الذي يحرر الطبيعة نفسها من التفاضل لأنها هي بدورها تعمل بالتساخر الذي لا ينطبق عليه التقابل بين مادة وروح.

والعلة هي أن الفلاسفة يحتقرون المادة ويعتبرونها مصدر كل الشرور بخلاف ما يراها عليه القرآن لأنها ليست مقصورة على الامتداد بالمعنى الديكارتي بل هي عين المدد من حيث الطاقة الحيوية والمدة من حيث البقاء الوجودي. فالمدد يعني ينبوع الحياة أو ما انتقل من الطبيعة الجامدة برمز التراب إلى الطبيعة الحية برمز النفخ أو الروح. والمدة تعني ديمومة المدد الذي هو عين البقاء في الوجود.

والثانية تجعل شهادة الجوارح عين ما يرمز إليه الملكان اللذان يصحبان كل إنسان لتسجيل سلوكه حسناته وسيئاته. ولذلك فجل الجوارح مضاعفة منها ما يمثل اليمين ومنها ما يمثل اليسار.

وهو ما جعلني أعتبر ذلك إشارة رمزية إلى معنى الملكين المحيطين بكل إنسان شاهدين على أفعاله ومسجلين لها حسنات وسيئات مرسومة في البدن فيكون هو الكتاب الذي يحمله الإنسان بيمنه أو بيساره بحسب كشف الحساب يوم الحساب.

الإسلام أكثر الأديان تجاوزا لهذا التأثير الفلسفي المحقر من المادة والجسم بحيث يعتبر موقف الفلاسفة أشبه بما يرمز إليه موقف إبليس من المفاضلة بين المواد ورفض الروحي الذي يحرر الطبيعة نفسها من التفاضل لأنها هي بدورها تعمل بالتساخر الذي لا ينطبق عليه التقابل بين مادة وروح.
لذلك فلا بد من قراءة كلمة الرَوْح بفتح الراء وجزم الواو لأنها تعني الروح الذي ينفخ وليس جزءا عضويا بل فعل التنفس الدال على الحياة وهو ما يساعد على فهم معنى قيس عيسى على آدم في الكلام على لغز بداية الحياة وتميزها في الإنسان تميزا يجعله جديرا بتجهيزه للاستخلاف وجعل ذلك مشروط بإثبات أهليته له.

فتكون حياة الإنسان في عالم الشهادة هي الامتحان الذي تختبر فيه جدارة الإنسان بالاستخلاف وطبعا فرهان إبليس لن يكون هو الرابح ومن ثم فالرؤية القرآنية التي تعتبر أمة الإسلام شاهدة على العالمين يعني أن البشرية كلها ستؤمن بالإسلام. وبذلك تتحقق الغاية كما كانت في البداية لأن آدم تلقى كلمات وعفا عنه ربه.

والعبرة في هذه المحاولة لا تتعلق بموقف من الإيمان والكفران بل بمضمون بنية القرآن العميقة من حيث تناسقه ووحدة استراتيجية الوصل بين عناصر المعادلة الوجودية التي هي عين كيان الإنسان سواء كان مؤمنا بالإسلام أو كافرا به لأنها تتعلق بشروط علاقة كيانه العضوي والروحي بذاته وبمحيطيه الطبيعي والتاريخي في علاقة بما يضفي عليه المعنى لعدم اكتفائه بذاته وحاجته للجواب عن سؤالي القدرة التوجيهية لديه:

لماذا يوجد شيء بدل لا شيء ما يعني أن الوجود ممكن وليس واجبا. وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يكن الإنسان له القدرة على التحرر من مجرى الطبيعة ليتعالى عليها ويختار تعليل وجودها لأنه يعتبرها غير مكتفية بذاتها وذلك هو ثمرة التوجيه الذي هو جوهر حرية الإرادة في القضاء أو الحكم بالوجود والعدم.

والثاني لماذا ما يوجد يكون على كيفه المعين وليس على غيره ما يعني أن كيف الموجود ممكن وليس واجبا. وما كان ذلك يكون كذلك لو لم يكن الإنسان له القدرة على التحرر من كيف الأشياء الظاهر ليتعالى عليه ويختار تعليل كيف وجودها بقوانين هي ثمرة التوجيه الذي هو جوهر نظام العقل في الأمر أو الحكم بالكيف المناسب للوظيفة.

ومن ثم فلا يمكن الخروج من مأزق التوجيه من دون اعتبار الإنسان مستقلا عن الضرورة الطبيعية بما يتعالى عليها من قدرة خلقية هي هي حرية الإرادة ووظيفتها وقدرة معرفية هي كرامة العقل ووظيفته: وتلك هي مقومات فرديته التي تجعله يأتي ربه فردا فيجازى على أفعاله ومدى أهليته للاستخلاف خلال استعماره في الأرض: وذلك هو معنى الرئاسة بالطبع بمقتصى الاستخلاف في التعريف الخلدوني للإنسان تعريفه المستوحى من القرآن.

وكل فعل إنساني وخاصة إذا كان مبنيا على محاولة للاستدلال في فهم الموجود أو استشراف يعد للمنشود يمكن أن يبنى على غير حرية الإرادة ورجاحة العقل في محاولة فهم كيانه وكيان محيطه. وكل بحث في الخيار بين الممكنات من هذين النوعين يقتضي أن يكون مبنيا على مشروع شرطه وحدانية القضاء للإيجاد والأمر للتكييف، وهو ما يجعل الجواب عن السؤالين غنيا عن إثبات وجود الرب وبحاجة إلى إثبات الوحدانية أو نفي الشرك المبني على دليل التمانع في النظام. فتكون البداية في النظر والعقد أداتين للعمل والشرع هي عين النهاية أي التسليم بالوحدانية.

ومن ثم فالبداية هي عين الغاية وما بينهما هي التجربة التي ترى فيها ذلك حاصلا في ما تعلمه من قوانين الطبيعة وسنن التاريخ في كيان العالم وفي كيان الإنسان. وتلك هي استراتيجية القرآن في التذكير بالدعوة إلى التدبير في تحقيق شروط قيام الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها.

حياة الإنسان في عالم الشهادة هي الامتحان الذي تختبر فيه جدارة الإنسان بالاستخلاف وطبعا فرهان إبليس لن يكون هو الرابح ومن ثم فالرؤية القرآنية التي تعتبر أمة الإسلام شاهدة على العالمين يعني أن البشرية كلها ستؤمن بالإسلام.
والرسالة الخاتمة هي للتذكير بهذه المهمة وشروط الجدارة وتلك هي وظيفة الدين الذي هو بالجوهر سياسة العالم بتربية الإنسان وحكمه من حيث هو متحرر من سلطان الطبيعة وسلطان التاريخ فيكون من ثم متمحضا لما خلق له بما له من تجهيز يجعله خليفة فيهما وليس تابعا لهما. ولا يكون متحررا منهما من دون أن يكون قد أنتج ما يحرره أي الثراث الذي هو دليل قيامه الروحي والثروة التي هي دليل قيامه العضوي. ولا تحرر له من دون أن يكون بهما رئيسا متحررا من طغيان الطبيعة وطغيان التاريخ.

وبهذا المعنى فالتصوف تحريف لوظيفة الإنسان لأنه يؤسس لوهم الاستخلاف شرط شروطه: فلا يمكن إثبات الأهلية الاستخلافية من دون الأفعال التي تثبتها والتي هي المشاركة في التساخرين التبادلي والتواصلي اللذين يمتحن فيهما تعامله مع غيره عدلال في التبادلي وصدقا في التواصلي:

وهو غير مشارك في التبادلي لأنه لا يعمل بل يعيش على الصدقات مقابل كذبة الوساطة الروحية. وفيه إعادة للكنسية إلى الإسلام فسلبيتهم السياسية تأويل محرف لمعنى القضاء والقدر بصورة تلغي جوهر سياسة الإسلام لعالم الشهادة: يصبح الحكام عندهم ظل الله في الأرض مهما كانوا طغاة وظلمة.

وهو غير مشارك في التواصلي لأن عمله المزعوم روحيا يبعده عن أهم دور هو المشاركة في سياسة الجماعة للانتساب إلى الخيرية التي شرطه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياسية الشأن العام بالافعال وليس بالأقوال فحسب.

وهذان المعياران هما ما به يمكن إصلاح إطلاق الإسم على المجاهدين منهم: فهؤلاء ليسوا متصوفة بل هم المرابطون وحماة الثغور الذين ينبغي أن نسميهم زهادا وليسوا متصوفة. فهم لا يكتفون بالجهاد  الروحي الذي هو الزهد في ما يملكون بل هم يجاهدون بكيانهم العضوي أي بحياتهم من أجل الحياة التي هي الحرية والكرامة. فلا يمكن اعتبار قائد المقاومة الليبية والجزائرية وأمثالهم كثير في تاريخ الزهاد المرابطين متصوفة من جنس الراقصين على وقع الطغاة من حكام العرب الحاليين..

 أما التصوف فاطلقه اسما على من موقفهم يمثل  تبريرا مضاعفا للعبودية لغير الله ما دام يستمد قيامه العضوي من كذبة الزهد في ما لا يملك ويدعي التمحض للعبادة والعلم الزائف لأن الكشف مستحيل قرآنيا الأن الغيب محجوب حتى الرسل وإذن فهو يستمد قيامه الروحي من غفلة من يعتقدون في الوساطة  بين المؤمن وربه بحيث يمكن للفرد أن يحقق شروط الاستخلاف في الأرض من دون التساخر التبادلي والتواصلي وسهمه فيهما باعتباره  مشاركة فرض عين في تحقيق شروط الاستعمار في الأرض.

فالعقل الراجح لا يسدده إلا التجربة التي تخدم غايات الإرادة الحرة وهو معنى الإيمان والعمل الصالح شرطا في الاستثناء من الخسر ولا يؤيده إلا التواصي بالحق طلبا للعدل في التعاوض عن الاجتهاد في التبادل والتواصي بالصبر طلبا للصدق في التفاهم عن الجهاد في التواصل. وإذن فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن يكونا مجرد أقوال حول الأخلاق بل هو أساسا أفعال خلقية هي الإيمان والعمل الصالح فرديا وهي التواصيان جماعيا.

ولولا ذلك لاكتفى الرسول بالأقوال ولما اجتهد فربى وجاهد فحكم وكلاهما أفعال هي جوهر السياسة التي مكنت من تأسيس دولة الإسلام لتحرير البشر من عبادة بعضهم البعض وطغيان دين العجل في التاريخ: الرسول هو النموذج الذي يمكن من فهم معنى الإرادة الحرة والعقل الراجح بالفعل وليس بالقول.