كتاب عربي 21

استشهاد عمار مفلح.. ما قالته الحادثة وما غرق فيه الناس!

تعرض عمار سابقا لاعتداءات من الاحتلال قبل قتله أخيرا من المسافة صفر- تويتر
الجمعة الماضية، في الثاني من كانون الأوّل/ ديسمبر، استشهد في طريق حوّارة جنوبيّ نابلس، الشاب عمار مفلح (22 عاماً) من قرية أوصرين قرب نابلس. لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي يصطدم فيها عمّار بالاحتلال، فقد سبق واعتقل وهو فتى صغير في العام 2014 (يعني كان عمره 14 عاماً)، مرتين كما قال معارفه، وفي واحدة من المرتين على الأقلّ، اعتدى عليه الجنود بالضروب المبرح. ما تزال الصور، منذ تلك الأيّام والمنشورة حتى اللحظة، تُظهر الدم النازف على وجهه من ضربات جنود الاحتلال.

الجمعة الماضية يعلن الاحتلال قتل شابّ فلسطيني في طريق حوّارة بدعوى محاولته طعن جنديّ إسرائيلي. تُظهر الكاميرات تالياً كذب الدعوى الإسرائيلية، فلم يكن الشاب، الذي صار شهيداً فلسطينيّاً، يفعل أكثر من محاولته مقاومة الاعتقال، يعاونه في ذلك شابان يحاولان تخليصه من الجندي، الذي استفرد به، ثم قتله بطلقات متتالية من مُسدّس. يظهر أن هذا الشاب هو عمّار، الذي سبقت له المواجهة طفلاً مع جنود الاحتلال قبل ثماني سنوات.
ماذا يقول المشهد؟ التناقض الكامل بين الفلسطيني والإسرائيلي، فلا يجد الإسرائيلي بدّاً من طمس الفلسطيني ومحوه، كما في هذا القتل الذي وثّقته لنا الكاميرات، ولمّا كان الإسرائيلي مندفعاً دائماً لمعالجة تكذيب الحقيقة الواقعية والتاريخية لدعواه الأيديولوجية عن كون فلسطين كانت دائماً خالية من البشر

ماذا يقول المشهد؟ التناقض الكامل بين الفلسطيني والإسرائيلي، فلا يجد الإسرائيلي بدّاً من طمس الفلسطيني ومحوه، كما في هذا القتل الذي وثّقته لنا الكاميرات، ولمّا كان الإسرائيلي مندفعاً دائماً لمعالجة تكذيب الحقيقة الواقعية والتاريخية لدعواه الأيديولوجية عن كون فلسطين كانت دائماً خالية من البشر بانتظاره بوصفه "صاحب الحقّ التاريخيّ فيها"، ولمعالجة ما ينجم عن هذا التكذيب من توتّر وجوديّ، بمحو الفلسطيني قتلاً، كما حصل مراراً (في هذا العام قَتل فلسطينيين في بيوتهم، وعلى الحواجز، وفي السجن، نساء ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، مسلحين وعزلاً)، فإنّه ينبغي أن لا تسقط احتمالات تتوقع سياسات أكثر توغّلاً في السعي نحو المحو، كاستعادة أنماط أكثر توحّشاً مع الحكومة الجديدة المنتظرة.

يقول المشهد كذلك، إنّ الإسرائيلي يستند إلى القوّة السافرة، التي لا يملك الفلسطيني الحدّ الأدنى منها، ولا يمكنه أصلاً أن يمتلك هذا الحدّ. الفلسطيني الأعزل، العاري من القوّة الماديّة، قاوم الاعتقال بشجاعة، والجندي لم يجعل الأمر محكوماً إلى الشجاعة فصلاً بينه وبين الفلسطيني، فاحتكم إلى القوّة المنحازة له حتماً، وقَتَل الفلسطيني بطلقات عدّة. لم يكتف بطلقة واحدة تشلّ حركته، بل أراد قتله.

يمكن والحالة هذه، الحديث عن شجاعة الفلسطيني، والجبن الطافح من الجندي الإسرائيلي، ثم الحقد، وإرادة المحو. لماذا لا يندفع هذا الإسرائيلي أكثر في سياسات المحو؛ وهو لا يلحظ خلوّ الفلسطيني من القوّة الماديّة فحسب، بل وانكشاف ظهره عربيّاً؟ فمن الذي سوف يمنع حملة تهجير للفلسطينيين في قادم الأيام؟! مثلاً دعت سفارة الإمارات في "تل أبيب" بن غفير، زعيم حزب "القوّة اليهودية"؛ الوجه الأكثر دِقّة في التعبير عن حقيقة التناقض الإسرائيلي مع الفلسطيني، لحضور احتفالات اليوم الوطني للإمارات، دون أن يُلزِمها أيُّ بروتوكول بذلك. حسناً ماذا يمكن أن يفهم بن غفير، والحالة هذه، وهو يفكر في المزيد من البطش بالفلسطينيين؟!
كيف يكاد يقتصر الموقف على جلد الشبّان الذين لم يمعنوا في السعي لتخليص رفيقهم، دون الوقوف الكافي على جوهر ما تكشفه الحادثة من حقيقة الإسرائيلي، بل وحقيقة الفلسطيني، وبالتجاوز عن شجاعة عمّار، بل وشجاعة الشابين اللذين حاولا تخليصه أوّل الأمر؟!

لا تنفكّ النظرة الفلسطينية، الواجبة إزاء هذا المشهد، عن مجمل تلك المعطيات، فهذا الشارع كان ممرّاً من جحيم لا يجرؤ مستوطنٌ على عبوره في الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ومن ثمّ، فإنّ الحال لم يتغيّر في هذا الشارع فحسب، بل في مجمل الضفّة الغربيّة، جرّاء سياسات هندسة المجتمع، والتطابق الفعلي مع سياسات "السلام الاقتصادي"، والسعي لتحييد الجماهير عن النضال، وتجريف الحركة الوطنية، وتفكيك أدوات القوّة من أيدي الفلسطينيين، بالتذرّع بالانقسام، والخصومة مع "حماس" والتي جُعِلت أولوية متقدّمة مع ما يُفترض أنه صراع وجوديّ مع الاحتلال. نعم هو صراع وجوديّ، كما تقول صراحة حادثة القتل هذه، فالإسرائيلي لا يمكنه أن يرى الفلسطيني إلا نقيضه الكامل.

هذا ما ينبغي أن يُرى من ذلك فقط؛ التناقض الكامل مع الاحتلال، ثمّ وبالعودة إلى أنفسنا بالضغط على الجرح الذاتي المتمثّل في سياسات السلطة سابقة الذكر، لا بالعودة إلى لوم الجماهير، أو المارّين بطريق حوّارة، أو الشبّان الذين كانوا في الواقعة.

لكن ماذا باتت تفعل مواقع التواصل الاجتماعي بالناس؟! كيف يكاد يقتصر الموقف على جلد الشبّان الذين لم يمعنوا في السعي لتخليص رفيقهم، دون الوقوف الكافي على جوهر ما تكشفه الحادثة من حقيقة الإسرائيلي، بل وحقيقة الفلسطيني، وبالتجاوز عن شجاعة عمّار، بل وشجاعة الشابين اللذين حاولا تخليصه أوّل الأمر؟!

لقد خلقت هذه المواقع وهماً بالفعل لمجرّد القول فيها، ومن ثمّ بات يمكنك تقييم مشهد لم تكن أبداً في واقعته، لمجرّد أنّك رأيته مصوّراً منتشراً على هذه المواقع. هذه المواقع بعد أن صارت ميداناً بدلاً من أن تكون وسيطاً، صار القول فيها هو والفعل سواء، عند كثيرين، وهو ما ينفتح على تضخم غير واع للذات، يمنح الواحد فيه نفسه الحقّ في تقييم أداء الناس في موقف لم يكن هو فيه، ولم يعان ما عاناه من كان فيه، من البغتة، والدهشة، والذهول، وضيق الوقت، وما يكون فيه من حيرة وتردّد وأسئلة في الذات لا تحسمها ثوان! فكيف يمكن لأحد أن يزعم، بلسان النقد هذا أم بلسان المقال الصريح، لنفسه شجاعة في موقف لم يكن فيه، ولم يخبر مثله من قبل، وأن يغيّب عن نفسه الأعذار الغريزية والطبيعية والفطرية والبدهية التي لا بدّ وأنّها مركّبة في كلّ إنسان، وتختلف مفاعيلها بحسب الأشخاص والظروف والأحوال؟!

يغرق ناس في هذه المواقع، في سجالات مضلّلة ظالمة تتقلّب في ذاكرة مثقوبة، يتيهون عن واجبهم الصحيح، ويغفلون عمّا ينبغي أن يُفعل فيها بتكريس التناقض مع العدوّ، ورفع الناس على كلمات رفيقة، تشفّ عن نفوس متواضعة رحيمة

هذه المواقع، وبالإضافة إلى ذلك، باتت تأكل بالتدريج من قوانا العقليّة، في مجال التذكّر تحديداً، فكثافة منشوراتها، والعدد الهائل من مستخدميها، والتقلّب اللحظي لموضوعاتها، وهيمنة لغة "الترند" عليها، تجعل مستخدميها أسرى اللحظة، فلحظة واحدة تقْلِب الوعي الكامل تجاه سكان منطقة، كالضفّة الغربية، من أبطال يقدّمون الشهداء يوميّاً حتى صاروا صورة المقاومة اليومية في فلسطين إلى جبناء يمتنعون عن تخليص رفيقهم! وفي لحظة واحدة تُنسى جرأة عديّ التميمي على حاجز شعفاط في مقابل الجنود المدجّجين المحصنين الذين لا ينبغي في ظرف كهذا أن تشلّهم المفاجأة ومع ذلك ينشلّون، لتصعد التصويرات النمطية عن سكان الضفّة الغربية.

وهكذا تُنسى صورة الشابين اللذين حاولا تخليص رفيقهما إلى تحميلهما المسؤولية، مع أنّ قاتله هو عدوّهما، الذي كان من الممكن أن يقتلهما، وقد يقتلهما يوماً، كما أنّ هذا العدوّ عاد وقتل عماراً بعد أن كان قد ضربه وأسره قبل ثماني سنوات (ليس المقصود عين الجندي، وإنما جنس العدوّ المحتلّ). ولنتخيل كيف أن السوط كان سيسقط عن الألسن الناطقة والأيادي الكاتبة، لو أن الشابين تمكّنا من تخليص رفيقهما أو استشهد معه أحدهما مثلاً!

يغرق ناس في هذه المواقع، في سجالات مضلّلة ظالمة تتقلّب في ذاكرة مثقوبة، يتيهون عن واجبهم الصحيح، ويغفلون عمّا ينبغي أن يُفعل فيها بتكريس التناقض مع العدوّ، ورفع الناس على كلمات رفيقة، تشفّ عن نفوس متواضعة رحيمة، تعرف أين وكيف تسدّد سهامها في هذا الصراع.

twitter.com/sariorabi