قضايا وآراء

هل ألغت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم الشرائع السابقة؟ (1-2)

1300x600

هذا البحث امتداد لمقاليَّ السابقين "هل يدخل غير المسلمين الجنة".

وقد ناقش المقالان السابقان غير المسلمين عموماً، بينما يخصص هذان المقالان الحديث عن أهل الكتاب الذين أنزلت عليهم كتب قبل القرآن.

وربَّ سائل يسأل: ما الفائدة من مناقشة مثل هذه المسائل الغيبية؟

هذا السؤال قد يكون وجيهاً حين لا تكون هناك وجهة نظر أخرى سائدة وطاغية وإقصائية، تريد أن تحكم على كل غير المسلمين بالهلاك الأبدي دون تحقق من ميزان العدل والرحمة والعلم الإلهي.

الحديث في مثل هذه المسائل لا يتعلق بالآخرة وحسب، فذلك شأن الله تعالى:

"إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍۢ شَهِيدٌ".

بل يتعلق بما تحمله نفوسنا من تصورات تصوغ شخصياتنا في الحياة، فالبشر تتشكل شخصياتهم حسب تصوراتهم الداخلية عن الإله، فإذا اعتقد الإنسان أن الإله رحيم ظهر أثر ذلك في صبغ شخصيته بالرحمة، وإن اعتقد أن الإله متحيز صار الإنسان عنصرياً متحيزاً، فإذا حققنا فهماً يوسِّع رحمة الله تعالى في خلقه فإن هذا الفهم سيفيض على نفوسنا رحمانيةً وسلاماً في الحياة والعلاقات مع الناس.

* * *

لا يسعى هذا المقال إلى تقديم حكم قاطع في المسألة، ولكنه يقترح إطاراً تفسيرياً يجمع بين كثير من الإشارات في القرآن التي لا يبدو أنها أخذت حظاً وافراً من سبر أغوارها في التفسير الشائع، ويحرر محاولة الجمع بينها من التناقض والترقيع، ويراعي هذا الإطار المقترح المقاصد الكبرى للدين من العدل والرحمة والحكمة.

يقتضي المنهج العلمي تشكيل إطار تفسيري لفهم مسألةٍ ما، ويُختبر هذا الإطار بمدى قدرته على تقديم تفسير متناسق يخلو من التناقضات، فإذا فشل هذا الإطار في الجمع بين الشواهد بطريقة متناسقة، فإن مقتضى العلم مراجعة الإطار وتعديله أو استبداله، لذلك يمكن أن تُواجَه كثير من الأدلة التي سأقدمها بتفسيرات أخرى تحملها على وجهٍ آخر. لكنَّ المعيار ليس الرد على كل تفسير مفردٍ بتفسير آخر، إنما بالإطار الكليِّ، وأن يكون التفسير أكثر تناسقاً وتلاؤماً وأبعد عن التناقض.

* * *

يقول المفهوم الشائع بين المسلمين إن شريعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ألغت ما سبقها من الشرائع، وإن كلَّ من لا يتبع الرسول محمداً بعد رسالته فهو كافر لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين!

قبل فحص هذا المفهوم في ضوء أدلة القرآن الكريم، فإنه لا بدَّ من التحذير من أنَّ البحث في هذه المسألة لا يقصد منه مطلقاً تعطيل واجب الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وتعريف العالمين بالقرآن وتبيان مبادئه ومعانيه العظيمة والسعي إلى نشر هذا الدين في كلِّ أرجاء الأرض، فالقرآن هو الحق المبين الذي لا يدانيه أي كتاب في سموِّه وتعاليه على القدرة البشرية، ومناعتِه من أيِّ تحريف وخطأ، وشريعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هي النور التام والرحمة للعالمين، فيها العدل والسلام والخير لكلِّ الناس، وعلى المؤمنين بها واجب تبليغها إلى الناس كافةً.

* * *

لا يقصد هذا البحث من يتعمَّد عدم الإيمان بالشريعة المحمدية جحوداً واستكباراً وإيثاراً لملذات الدنيا، كأن يعرف أحد يقيناً أن محمداً رسول أوحي إليه وأن القرآن كلمة الله، ثم يُعرض بعد هذه المعرفة استكباراً أو إيثاراً للهوى على الحق، إذ إن مقتضى معرفة الحق الإيمان به، فالحقُّ ليس رفاهيةً في حياة الإنسان ليقرر أن يصدِّق به أو يكذِّب به بعد أن عرفه، وفي سورة البقرة تقريع ووعيد لبني إسرائيل لأنهم رفضوا الإيمان بالقرآن ورسالة محمد بعد معرفة الحق:

"وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)".

مما يتضح من هذه الآيات أن القوم المقصودين فيها عرفوا القرآن يقيناً، بل إنهم كانوا يستفتحون به، أي أنهم ينتظرون نزوله، ثم كان دافع كفرهم البغي والحسد، أنهم لا يريدون أن ينعم الله على غيرهم من الأمم، ثم ادَّعوا أنهم يؤمنون فقط بما أنزل إليهم، أي العصبية القومية بديلاً عن التجرد للحق. والحق بطبيعته يؤخذ كله ولا يفرَّق بين أجزائه لاعتبارات الهوى القومي والشخصي.

هذه الآيات تبيِّن أن معرفة الحق ملزمة باتباعه، ومن جهة أخرى تبين هذه الآيات أنَّ هناك عللاً لإدانة من يسميهم القرآن كافرين من أهل الكتاب، وأنه يجب اصطحاب هذه العلل قبل إنزال هذه الآيات على أقوام آخرين، فليس كل من لم يؤمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تتحقق فيه الشروط المحددة التي استحق بها بنو إسرائيل في هذه الآيات الغضب والكفر والعذاب المهين، من معرفة الحق ثم التكذيب به بغياً وحسداً، وهو ما لا يقول به كل عاقل يتأمل طبيعة الأمم والأفراد.

* * *

وإنَّ من الأخطاء المنهجية الشائعة في التعامل مع القرآن في مثل هذه المسائل تحديداً أن كثيراً من المسلمين يأخذون بهذه الآيات ثم يسقطها على كل الجماعات البشرية المعاصرة، مع أن المنهج العلميَّ الصحيح هو فهم الشروط والحيثيات التي يحدِّدها القرآن، ثم البحث في واقع الجماعات البشرية بتجرّدٍ، فإذا تشابهت العلات والحيثيات فيها تشابه الحكم.

مثلاً فليس من الصواب أن نأخذ مسيحياً أو يهودياً يعيش اليوم بيننا ثم نقول إنه كافر لأنه كفر بما أنزل على محمدٍ بغياً وحسداً بعدما عرف الحق، إنما الصواب أن نفحص أولاً واقعه ونفهم حقيقة دوافعه بعدم الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن دافع ذلك البغي والحسد والإنكار والجحود بعد المعرفة، لم يصح أن نلحق به نفس حكم الذين تتحدث عنهم هذه الآيات.

* * *

إذاً من هي الفئة التي يعالجها المقال؟

يعالج هذا المقال الأفراد من الأمم الأخرى في زماننا وكلِّ زمان، الذين آمنوا بأصل الإيمان، وعملوا الصالحات في حياتهم لكنهم لم يتبعوا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عدم اتباع هذه الشريعة منطلقاً من بغي وجحود واستكبار، بل لأنهم لم يعرفوا هذه الشريعة حقَّ المعرفة، وربما سمعوا بها ولكنه لم يكن سماعاً كافياً "لتحريك النظر فيها"، حسب تعبير محمد رشيد رضا.

وربما آمن فريق منهم إجمالاً أن محمداً رسول الله وأن القرآن منزّل من عند الله، لكن لم يخطر ببالهم أنهم ملزمون باتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم تحديداً، إنما لكلّ أمة شرعها ومنهجها. وهذا هو الموقف الطبيعي من أي إنسان، فنحن مثلاً نسمع بحكيم الصين لاو تسو وربما آمنا بحكمته، لكن هذا الإيمان لا يولِّد فينا اعتقاداً أننا ملزمون بأن نكون من أمته وأن نتبع تعاليمه دون تعاليم غيره من الأمم وأننا إن لم نفعل ذلك فسيكون مصيرنا بعد الموت الهلاك الأبديَّ، بل إنَّه لم يخطر ببال أكثرنا أن يقرأ الإنجيل فضولاً، مع أن عيسى عليه السلام بعث في بلادنا، فلماذا ننتظر من الأمم الأخرى أن يخطر ببالهم أن يقرؤوا القرآن فضولاً! لا بد من الاحتكام إلى معيار إنسانيٍّ عامٍّ غير متحيز.

وهذا الموقف يختلف عن موقف الإنكار والجحود والاستكبار الذي يركز عليه القرآن في سياق تهديده للذين لا يؤمنون بالحق.

* * *

تعدُّدُ الأمم والشرائع حقيقة باقية، حتى بعد بذل أقصى جهد بشريٍّ في الدعوة والتبليغ، وقد اقتضت سنة الله تعالى في خلقه ألا يصيروا أمةً واحدةً وألا يجتمعوا على شريعةٍ واحدةٍ، كما بيَّنت ذلك بوضوح الآية 48 من سورة المائدة:

"وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".

هذه الآية تأتي في سياق الحديث عن المؤمنين واليهود والنصارى، إذ تقول الآية التي تسبقها مباشرةً (47):

"وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".

في نفس السورة قبلها بقليل في الآية (43) تتحدث عن اليهود:

"وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ".

إذاً آية تصف التوراة بأنَّ فيها حكم الله، لاحظوا في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في زمان موسى! ثم آية تأمر أهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، ثم بعدها مباشرةً آية تقول: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"!

ألا يثير هذا السياق التفكُّر!

* * *

نبقى مع نفس الآية المركزية في هذه المعالجة وهي الآية 48 من سورة المائدة، التي تصف القرآن الذي أنزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأنه مصدِّقٌ لما بين يديه ومهيمن عليه.

التصديق معروف، والهيمنة كما قيل في التفاسير أنه أمين على الكتب السابقة ويشتمل ما اشتملت عليه وزيادة، ومهما توسعنا في دلالة "التصديق والهيمنة"، فلن تبلغ بهما أن يطابقا معنى كلمة "لاغياً" لما بين يديه.

لماذا لم يصف القرآن نفسه صراحةً أنه ألغى ونسخ الكتب والشرائع السابقة! ألا يفترض لقضية بهذا القدر من المركزية أن تكون واضحةً صريحةً في القرآن وألا تترك لمظنَّة المفسرين؟!

* * *

لا يكتفي القرآن بعدم التصريح بإلغاء الكتب والشرائع السابقة وحسب، بل إنه يزكيها ويثني عليها ويعطيها شرعيةً، وهو ما يعدُّ قيمةً انفتاحيةً استيعابيةً عظيمةً في القرآن الكريم لا يشبهها أي كتاب آخر في الأزمنة القديمة في قبول الآخر والثناء عليه، ومن هذه الآيات:

- "وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ".

- "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ".

- "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً".

- "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ".

- "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ".

في الآية الأخيرة جعل الله تعالى مقصد التدافع بين الناس هو حماية دور العبادة لغير المسلمين تماماً مثل حماية المساجد! لماذا يحث الله تعالى على المحافظة على دور عبادة الأمم الأخرى إن كانت دور شرك وكفر كما يظن كثير من المسلمين؟!

* * *

هناك آية مركزية أخرى في معالجة هذه المسألة وهي الآية 62 من سورة البقرة:

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".

ونفس المعنى يتكرر في سورة المائدة الآية 69:

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".

هاتان آيتان واضحتان جداً في دلالتهما المباشرة قبل أن نشحنها بتفسيرات واستدراكات وتخصيصات!

هناك قاعدة شائعة في أصول الفقه تقول إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا استأنسنا بهذه القاعدة فإن علة نجاة الأمم في هاتين الآيتين مع أنها لم تتضمن شرط اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، هو أنه لم تبلغهم هذه الشريعة ولم تقم عليهم حجة العلم فيها، فما دامت هذه العلة قائمةً فإن الحكم يظل قائماً، وهو ما يشمل كل أحدٍ من الأمم الأخرى في أيِّ زمان اتصف بشروط الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً في حياته، ولم يكن عدم اتباعه شريعة محمد منطلقاً من كبرٍ وجحود وتكذيبٍ بالحقٍّ، فهو يحمل ذات علة الذين سبقوا الرسول محمداً زماناً، إذ لا عبرة بالزمان ما دامت العلة والحيثيات واحدةً!

هذا التفسير يبدو أكثر اتساقاً مع مثل هذه الآيات لغوياً، إذ إنها تتحدث بصيغة الاستمرار ولا تقتصر على الماضي وحسب.

* * *

تبقى أسئلة مثل كيف نوفق بين هذا الفهم وبين "إن الدين عند الله الإسلام"؟ وكيف يثني القرآن على التوراة والإنجيل وهي كتب نالها التحريف؟ وماذا نفعل بالآيات التي تذم اليهود والنصارى؟ أسئلة سأحاول الإجابة عليها في الجزء القادم..

يتبع..

 

twitter.com/aburtema