قضايا وآراء

السوشيال ميديا وغياب الذوق عند الموت

1300x600

هناك ظاهرة ملحوظة على السوشيال ميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي، هي ظاهرة مخيفة، بدأت تزداد يوما بعد يوم، تتعلق بسلوكنا مع الوفاة، لم تكن موجودة بهذا الحجم، وبهذه الفجاجة، فما أن يتم الإعلان عن خبر وفاة سياسي أو معارض، أو شخص ما، تختلف ديانته عن ديانة غالبية الناس، حتى يترك الناس حالة الوفاة، وينطلقون يبحثون عما يثير الجدل بعيدا عن الموضوع الرئيس وهو الموت ومصيبته. 

ولعل النموذج الأشهر والأقرب حاليا، هو ما حدث بعد وفاة الإعلامية شيرين أبو عاقلة، فما أن أعلن خبر وفاتها، حتى جرى على ألسنة الناس الدعاء لها بالرحمة بعفوية، وعمهم الحزن الشديد عليها، وكان اتجاه الحديث والكلام مفعما بالحزن والقهر، على وفاة صحفية على يد الاحتلال الصهيوني بشكل مستفز وسافر، لا ندري فجأة من سحب الناس والنقاش لمساحة لم يفكر فيها أحد، فوجئنا بمن يبحث ويعسعس حول ديانة المتوفاة، لينبه المترحمين والمحزونين بأن انتبهوا لقد وقعتم في المحظور، وترحمتم عليها، إنها غير مسلمة، وهنا تحول الخط العام للنقاش والكلام، بدلا من الحديث عن الراحلة، وعن بشاعة الجريمة، وجريمة القاتل، تحول النقاش للميت، وديانته، ولمن يتعاطفون معها، ومن يترحمون. 

لا أريد الحديث عن الترحم، وهل يجوز أم لا؟ فهي قضية ثار فيها النقاش على مدار الأسبوع الماضي، وكتبت فيها مقالا نشرته هنا بعنوان: شيرين أبو عاقلة بين الشهادة والترحم، فهي في النهاية قضية خلافية، سيظل هناك من يترحم، وهناك من لا يترحم، ولكل وجهة، لكن هناك ملاحظة خطيرة تجعلنا نقف أمام ظاهرة غريبة ستتكرر، لأنها تنم عن مشكلة في الحكمة والذوق في التعامل مع مثل هذه القضايا، وبخاصة قضية الموت.

لقد سمى القرآن الكريم الموت مصيبة في أكثر من آية، سواء بالتلميح إليه، أو بالتصريح، فكثيرا ما كان بالتلميح بمفردة: مصيبة، سواء كانت المصيبة هنا موتا أو ابتلاء بمال أو غيره، ونص على أن الموت مصيبة بالتصريح في قوله تعالى: (فأصابتكم مصيبة الموت) المائدة: 106، ومن يقف على حال المصريين في الموت، وبخاصة في القرى والريف، وفي كثير من المدن، سيجد الموت في ثقافة المصريين مصيبة، ومصيبة كبرى، ربما كان أكثر من الدول العربية الأخرى، فيموت الميت، ويظل الحزن مخيما لفترة طويلة، ثم يخرج أهله في أول خميس لزيارة قبره، والإتيان بمقرئ للقرآن، ثم بعد مرور أربعين يوما أيضا يجلس الأهل والأقارب للأربعين، ثم في المناسبات الدينية، وكل سنة، هناك ما يسمى بالسنوية، وهي أمور بين العلماء عدم جواز معظمها.

ما الذي حدث للناس، فجعلهم لا يقدرون للموت جلاله، ولا هول مصيبته على الناس، فأصبح هناك لا مبالاة أو استخفاف بآلام الناس وحالتهم، وعدم تقدير لمصابهم وألمهم النفسي، لما يرونه من تعليقات وتعقيبات، أذكر بعض نماذج لتدل على هذا الغياب المخيف للذوق، وهو سلوك يحثنا عليه ديننا، توفيت والدة أحد الأصدقاء فكتب على الفيس بوك خبر وفاتها، فكتبت أعزي فيها، ليدخل أحد المعلقين ويريد أن يناقشني في رأيي في قضية الغناء!! 

وكتب آخر خبر وفاة أبيه، فكتبت معزيا كعادتي: البقاء لله، وعظم الله أجركم، فكتب أحدهم معقبا: تترحمون على الكفار ولا تترحمون على المسلمين، كل هذه التعلقيات على صفحة من مات أبوه أو أمه، وهو يقرأ وقد أصبح عند الناس شهوة تحويل الموت والمصيبة، لمناسبة للمناكفة، والتشفي، وتخليص ثارات قديمة بلا أدنى درجة من التعقل.

وأذكر أني يوم وفاة ابنتي حدث معي أكثر من موقف تمالكت أعصابي فيها، فبين من وجدتهم يرسلون رسائل التعزية، بعض الناس يعزيني في وفاتها، ثم يعقب، رجاء: اقبل الإضافة على الفيس بوك عندك!! وهذا أخ آخر بعد انتهاء عزاء ابنتي فوجئت به يتصل بي، ويلومني ويعاتبني، إذ إنه أرسل لي طلب صداقة على الفيس بوك منذ مدة، ولم أجبه! هذه مواقف صادمة من حيث سلوك الناس، ماذا جرى لهم، هل أصبح هوس الميديا والتواصل الاجتماعي لهذه الدرجة، وعلى حساب مشاعر الناس.

 

لقد رأينا أهل فلسطين بجميع فصائلهم لا يشغلهم موضوع الترحم من عدمه، ليس لأنهم لا يهتمون بالدين، بل لأن المصاب جلل، وهو أكبر من التفكير في هذه المسألة أو طرحها، أو جعلها موضوعا يغطي على موضوع اغتيال صحفية فلسطينية كانت تغطي أحداث اقتحام جنين.

 



ولأن الموت مصيبة، فإنه يصيب الناس بالدهشة، والتعجب، وسرعان ما يترحمون على الشخص فور سماع خبر وفاته، تلقائيا، دون أن يفكروا في ديانته، تصرف تلقائي وطبيعي، وهو ما حدث مع شيرين، ويحدث مع كثيرين غيرها، فالاسم: شيرين أبو عاقلة، فهو اسم يصلح أن يكون مسلما، كشأن كثير من أسماء مسيحيين في بلادنا العربية، ومنها مصر التي كانت لفترة ولا تزال تجد أسماء أقباط فيها مثل: رمزي، وعدلي، وعادل، ولبيب، ولطفي، ونظمي، وأسماء كثيرة، كنا نقرأها فلا نعرف هل صاحبها مسلم أم لا؟ لأننا بالأساس لا نهتم، فليس الحوار طالبا لمعرفة ديانة الشخص وقتها.

كان للموت هيبته عند المصريين، وله جلاله، فيغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، ويراعي الناس حالة أهل الميت، فكان في ريفنا المصري، يظل الجيران لمدة أربعين يوما لا يفتحون التلفاز، ولا يأكلون (الملفوف) الماحشي، ولو أن أحدا تاقت نفسه لأكله، تذهب المرأة للسوق تشتريه، ثم تحمله فوق رأسها في صينية كبيرة وتغطيه، وكأنها تشتري شيئا آخر، مراعاة لشعور الجيران والأهل، رغم أنهم لا يرتكبون محرما بل يقترفون حلالا أحله الله، ولكن حالة الموت تجعلهم يتركون هذا الحلال والمباح كرامة للميت، ورعاية لأهله.

وهو ما بدأنا نفتقده في كل حالة وفاة لها صلة بالسياسة، أو الدين، رغم أنه يمكننا تأجيل مثل هذه المعارك، أو تأجيل الحديث عن الموضوع، كما حدث مع أحد الصحابة حين رأى يهوديا سلم عليه، فرد: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال له آخر: إنه يهودي، فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟! هكذا بكل سلاسة حل الأمر وأنهاه دون طول نقاش وجدال.

لقد مر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومعه تلامذته وأصحابه، على قوم يشربون الخمر، وهم من التتار الذين أسلموا حديثا، وقد كانوا إذا أفاقوا يقتلون الناس، وإذا شربوا الخمر كفوا الناس شرهم، فمر ابن تيمية وتلامذته عليهم، فأراد أحد أتباعه أن ينهاهم عن منكر شرب الخمر، يقول ابن تيمية: فأنكرتُ عليه، وقلت له: إنما حرم اللَّه الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسَبي الذرية، وأخذ الأموال فَدَعْهم). فهو هنا وازن بين أمرين، أو بين منكرين، ولذلك قال ابن تيمية: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.

لقد رأينا أهل فلسطين بجميع فصائلهم لا يشغلهم موضوع الترحم من عدمه، ليس لأنهم لا يهتمون بالدين، بل لأن المصاب جلل، وهو أكبر من التفكير في هذه المسألة أو طرحها، أو جعلها موضوعا يغطي على موضوع اغتيال صحفية فلسطينية كانت تغطي أحداث اقتحام جنين.

ولأن عندهم موضوع، وموضوع رئيسي أهم، فلم يتفرعوا لموضوعات أخرى، حتى لو كانت مهمة في سياق آخر، لكن السياق الآن لا يقبل أن يطرح أي موضوع سوى دم هذه السيدة، وكيفية السعي لجذب الجناة من أقفيتهم للمحاكمة والمحاسبة بكل مستوياتها المشروعة.

Essamt74@hotmail.com