كتاب عربي 21

مستقبل زوال إسرائيل

1300x600
دبّ الذعر مؤخراً في أوساط القوى الاستعمارية الأوروبية ومعها المستعمرات الاستيطانية البيضاء من إمكانية زوال إسرائيل، مستعمرة المستوطنين اليهود الأوروبيين. وقد أدّى تطور المقاومة المسلحة وغير المسلحة الفلسطينية واللبنانية، وتنامي حركة التضامن الدولي في الدول الغربية، والإجماع بين مجموعات حقوق الإنسان الغربية حول الطبيعة العنصرية لإسرائيل، والتوسع الكبير في وسائل الإعلام البديلة التي تكشف الجرائم الإسرائيلية، إلى إحداث هذا الذعر، وإن بنسب تأثير متفاوتة.

وفي مواجهة مثل هذه التهديدات لديمومة إسرائيل، أعلنت هذا الأسبوع المملكة المتحدة، المهندس الرئيس لإنشاء المستعمرة- الاستيطانية اليهودية منذ الحرب العالمية الأولى، على لسان الملكة البريطانية، بأنها ستمنع مؤسساتها العامة من الانخراط في نشاطات مثل مقاطعة الدولة اليهودية، أو دولة "الفصل العنصري"، كما وُصِفت المستعمرة- الاستيطانية في سلسلة من التقارير التي أصدرتها مجموعات حقوق الإنسان المساندة للغرب وإسرائيل تاريخياً، بما في ذلك مرصد حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) ومنظمة العفو الدولية، على مدار العامين الماضيين. أما في ألمانيا، الدولة الأوروبية الأكثر عداءً للفلسطينيين (وهناك العديد من الدول الأوروبية التي تتنافس على هذا اللقب)، فقد قامت مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية المملوكة للدولة مؤخراً بعملية تطهير بين موظفيها العرب بسبب مزاعم انتقاد إسرائيل، وحظرت هذا الأسبوع تظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين في يوم "النكبة"، بينما حظرت فرنسا المسيرات التي تنتقد الجرائم والاجتياحات الإسرائيلية.

أدى الذعر الذي أصاب القوى الاستعمارية والإمبريالية، لا سيما ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ومستعمرة المستوطنين البيض في الولايات المتحدة، إلى الدفع بتجريم انتقاد إسرائيل، ضاربة بعرض الحائط حرية التعبير في هذه البلدان التي تطرح نفسها على أنها "ليبرالية-ديمقراطية". وتستند جهود التجريم إلى تبني هذه الدول لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة" لعام 2016 لمعاداة السامية على أنها تشمل "استهداف دولة إسرائيل" أو الكشف عن طبيعتها "العنصرية". و"التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة" هو منظمة حكومية دولية يبلغ عدد أعضائها 34 دولة أوروبية بشكل حصري، بما فيها مستعمرات المستوطنين البيض حول العالم وإسرائيل.

لكن القوى الأوروبية البيضاء ليست وحدها التي تشعر بهذا الذعر، بل انضم إليها القادة الأوروبيون للمستعمرة-الاستيطانية اليهودية أنفسهم. فقد أعرب الجنرال الإسرائيلي ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك (واسم عائلته الأوروبي الحقيقي "بروغ" وهو ابن لمستعمرين ليتوانيين) عن قلقه مؤخراً من أن إسرائيل قد لا تبلغ سن الثمانين. كما أن رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو (واسم عائلته الأوروبي ميليكوفسكي وهو ابن لمستعمرين بولنديين) كان قد أعرب قبل خمس سنوات عن خشيته من أن إسرائيل قد لا تبلغ سن المائة عام. يستمد نتنياهو وباراك توقعاتهما الرهيبة من تاريخ زوال مملكة إسرائيل، التي كانت قائمة في فلسطين في العصور القديمة والتي لم يمتد عمرها لأكثر من ثمانية عقود فقط.
هل يمكن أن تكون المقاومة الفلسطينية واللبنانية بتسلحهما المتزايد وتطورهما العسكري هما مَن يهدد مستقبل إسرائيل بالفعل؟ ليس هذا هو السبب الذي يريد باراك ونتنياهو لنا أن نعتبره المسبب لاحتمال زوال إسرائيل خلال السنوات الست أو الـ26 المقبلة، بل يرجعان السبب لخرافات خيالية حول الزعم بتكرار التاريخ لنفسه

ولكن، بما أن إسرائيل لا تزال القوة العسكرية الأكثر رعباً في الشرق الأوسط، ونجحت في إنشاء نظام فلسطيني عميل، ممثل بالسلطة الفلسطينية، منذ عام 1993، لمساعدتها في سحق الفلسطينيين الذين يقاومون استيطانها، كما أخضعت إسرائيل معظم جيرانها من خلال إبرام اتفاقيات "سلام" معهم، وحصلت على اعتراف أمريكي بشرعية احتلالها واستعمارها غير الشرعيين للقدس وهضبة الجولان من إدارة دونالد ترامب، فمن أين تأتي إذن هذه الهواجس بشأن زوالها في المستقبل القريب؟ هل يمكن أن تكون المقاومة الفلسطينية واللبنانية بتسلحهما المتزايد وتطورهما العسكري هما مَن يهدد مستقبل إسرائيل بالفعل؟

ليس هذا هو السبب الذي يريد باراك ونتنياهو لنا أن نعتبره المسبب لاحتمال زوال إسرائيل خلال السنوات الست أو الـ26 المقبلة، بل يرجعان السبب لخرافات خيالية حول الزعم بتكرار التاريخ لنفسه. فقد أعرب باراك عن مخاوفه من أن "لعنة العقد الثامن" ستحل بإسرائيل الحالية. وحقيقة أن إسرائيل الحديثة قد سميت على اسم مملكة إسرائيل القديمة هي أحد أسباب المقارنة بين مصير المملكة العبرانية القديمة والمستعمرة الاستيطانية اليهودية الحالية.

في الواقع، إن اختيار اسم دولة إسرائيل الحديثة قد جاء بعد نقاش في 12 أيار/ مايو 1948 بين المستعمرين اليهود، قبل أيام فقط من إعلان المستعمرة- الاستيطانية. وبينما سبقت المناقشة حول تسمية الدولة قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، لم يتم اتخاذ أي قرار في هذا الشأن على الرغم من المقترحات العديدة التي قدمت، والتي تضمنت اسم "يهودا" و"صهيون" و"يشورون" و"عيبِر". وقد تم قبول اسم "إسرائيل" في نيسان/ أبريل، وتم اعتماده رسمياً في 12 أيار/ مايو من قبل لجنة ضمت ديفيد ريمز (والأخير جاء من بيلاروسيا للاستيطان في فلسطين عام 1913 عن عمر يناهز 27 عاماً).

يُقال إن اختيار اسم الدولة قد اقترحه أولاً المستوطن الأوكراني أهارون شيمشيلفيتز، سمى نفسه لاحقاً "ريؤفيني" (1886-1972)، شقيق يتسحاق بن تسفي (رئيس دولة إسرائيل الثاني)، الذي وصل من أوكرانيا للاستيطان في فلسطين عام 1910. وقد كان اختيار اسم الدولة "إسرائيل"، حيث تشير كلمة "إسرائيل" (وهو الاسم الذي أطلق على النبي يعقوب التوراتي بعد صراعه مع ملاك الله وتعني "الذي صارع الله") إلى الشعب اليهودي، الذي يعتبر من نسل يعقوب ولذلك سمي بـ"بني إسرائيل"، اختياراً متعمداً. فقد رفض نحّاتو الاسم تسميتها "أرض إسرائيل" لأن ذلك سيكون مربكاً، حيث أن الدولة في تلك الحقبة كانت ستقام فقط على جزء مما يسمى "أرض إسرائيل" وليس عليها كلها. وستسهل هذه التسمية السياسة الصهيونية المتبعة في التشهير بكل من سيعارض "دولة الشعب اليهودي" عبر اتهامه بمعاداة السامية في العقود القادمة.

ولكن ما يظل غريباً وغير مفهوم هو أنه في ذهن قادة إسرائيل، فإن اسم الدولة بحد ذاته هو المتسبب بتقويضها في المستقبل القريب. فلا باراك ولا نتنياهو يعتقدان أن ما اقترفته إسرائيل الحديثة منذ عام 1948 هو ما سيتسبب بتقويضها في المستقبل، ولا أن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية هما اللتان تتهددانها، بل هي خرافة التشابه الذي يقيمونه مع التاريخ القديم، والذي يخشون أنه سيقود إلى نهاية المستعمرة- الاستيطانية اليهودية ويؤدي إلى زوالها.
نهايتها ستكون نتيجة حتمية لتكرار ذات الممارسات الاستعمارية التي مأسستها إسرائيل منذ عام 1948، والتي دعت إليها الأيديولوجيا الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ونتيجة المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي نشأت على مدى العقود لمحاربتها. فمن المؤكد أن سبب زوال إسرائيل في المستقبل لن يكون بسبب تكرار تاريخي ما، أو بناءً على اختيار اسمها، أو أي هراء من هذا القبيل

ولكن إذا كان التاريخ دليلنا، فإن مستقبل إسرائيل في السنوات الست أو الـ26 المقبلة لن يختلف بالتأكيد عن ماضيها. فستستمر إسرائيل في استعمار أراضي الفلسطينيين وقتلهم وتهجيرهم واضطهادهم لتجرؤهم على الدفاع عن أراضيهم وحياتهم ضد النهب الاستعماري الصهيوني، كما ستواصل إسرائيل قمع كافة أشكال المقاومة الفلسطينية. وسوف تستمر في تبرير كل جرائمها الاستعمارية من خلال استدعاء المحرقة اليهودية كمبرر، وستواصل وصم وتشويه سمعة كل من ينتقدون أعمال النهب الصهيوني على أنهم "معادون للسامية". وستستمر إسرائيل أيضاً في تعزيز الرعاية الإمبريالية الأمريكية، وإنشاء تحالفات إمبريالية إقليمية، والاعتداء على جيرانها، بما في ذلك لبنان وسوريا، وحتى إيران البعيدة، وستستمر في الادعاء بأن عدوانها الجائر ليس أكثر من "حقها في الدفاع عن نفسها". في المقابل، فإن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية عازمتان على مواصلة جهودهما لوقف العدوان الاستعماري الإسرائيلي، ومن المرجح أن تصبحا أقوى وأفضل تجهيزاً مما هما عليه اليوم.

إذا كان كل هذا هو ما سيقوض إسرائيل ويزيلها عن الوجود، وهي بمجملها أسباب وجيهة للاعتقاد بأنها ستتمكن من تقويض إسرائيل (بل ينبغي أن تقوم بذلك)، فالأمر ليس أن إسرائيل كانت ستبقى على قيد الحياة بناءً على سجلها السابق، لكن نوعاً جديداً من الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل مؤخراً ومن المحتمل أن ترتكبها في السنوات القليلة المقبلة هي ما ستؤدي إلى تقويض بنيانها في نهاية المطاف وإنهاء هذه الحقبة الاستعمارية المروعة في تاريخ الفلسطينيين والعرب؛ بل إن نهايتها ستكون نتيجة حتمية لتكرار ذات الممارسات الاستعمارية التي مأسستها إسرائيل منذ عام 1948، والتي دعت إليها الأيديولوجيا الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ونتيجة المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي نشأت على مدى العقود لمحاربتها. فمن المؤكد أن سبب زوال إسرائيل في المستقبل لن يكون بسبب تكرار تاريخي ما، أو بناءً على اختيار اسمها، أو أي هراء من هذا القبيل.

هذه التنبؤات الإسرائيلية المزلزلة هي بالطبع جزء من استراتيجية خبيثة من جانب باراك ونتنياهو، حيث تم تصميمها لإثارة الذعر بين المستعمرين اليهود في إسرائيل وخنق أي معارضة محلية هزيلة في البلاد، وبالتالي دفع المستعمرين اليهود للاصطفاف وراء دولتهم. وقد تم تصميم هذه التوقعات كذلك لإثارة الذعر بين مؤيدي إسرائيل وحلفائها في أوروبا ومستعمراتها الاستيطانية البيضاء، من أجل توفير المزيد من الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي والغطاء السياسي، حيث أن تبني هذه الدول لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة" للا سامية هو جزء من هذه الاستراتيجية.

لكن الخوف من الكشف المستمر لجرائم إسرائيل على المستوى العالمي قد تسبب في ذعر حقيقي مؤخراً (وليس مجرد تظاهر بالذعر) في القيادة الإسرائيلية إلى حد اغتيال (أو على نحو أكثر دقة إعدام) الصحفية الفلسطينية الأبرز، شيرين أبو عاقلة (والتي تشرفت بلقائها في عام 2002 في منزل إدوارد سعيد)، مراسلة الجزيرة الأكثر مهنية وتميزاً في فلسطين، أثناء تغطيتها أحد الاقتحامات الإسرائيلية الإجرامية العديدة لمخيم جنين للاجئين.

لقد كان رد فعل القوى الاستعمارية الأوروبية والولايات المتحدة الإمبريالية كما هو الحال دائماً، هو الاصطفاف الموحد لحماية إسرائيل. فقد أعربت الولايات المتحدة عن "حزنها"، بينما لم يبد الاتحاد الأوروبي أي "حزن" على "المأساة"، وأظهر كلاهما تحفظاً حازماً في عدم توجيه اللوم إلى القتلة الإسرائيليين. أما كون أبو عاقلة مواطنة أمريكية فلن يكون مصدر قلق للأمريكيين، شأنها في ذلك شأن المسن الفلسطيني- الأمريكي الذي تعرض للضرب ومات على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي في كانون الثاني/ يناير الماضي.
لا تتعلق المسألة هنا بنفاق ردود الفعل الأمريكية والأوروبية على الوضع في أوكرانيا مقابل ردود فعلها على الجرائم الاستعمارية في فلسطين فحسب، بل تتعلق بالتزامها المستمر بالحفاظ على المستعمرة الاستيطانية اليهودية في المستقبل المنظور، وهو المستقبل الذي يتهدده الفلسطينيون والمقاومة اللبنانية والتضامن الدولي، ويعرضونه للخطر

لا تتعلق المسألة هنا بنفاق ردود الفعل الأمريكية والأوروبية على الوضع في أوكرانيا مقابل ردود فعلها على الجرائم الاستعمارية في فلسطين فحسب، بل تتعلق بالتزامها المستمر بالحفاظ على المستعمرة الاستيطانية اليهودية في المستقبل المنظور، وهو المستقبل الذي يتهدده الفلسطينيون والمقاومة اللبنانية والتضامن الدولي، ويعرضونه للخطر. ففي ظل هذه الأخطار الحقيقية والمتخيلة، تبقى الأولوية الغربية والإسرائيلية متمثلة في تعزيز الجهود المبذولة لحماية مستقبل إسرائيل كمستعمرة- استيطانية يهودية.

في الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة، قد لا تكون التنبؤات بزوال إسرائيل في المستقبل القريب مبالغاً فيها بشكل كبير، على الرغم من أن التزام أوروبا والولايات المتحدة غير المجدي بتفادي مثل هذا المصير يبقى مبالغاً فيه بكل تأكيد.