قضايا وآراء

لماذا تركتم فارسة الحقيقة وحيدة؟

1300x600
لا يمكن تناول صدمة اغتيال شيرين أبو عاقلة دفعة واحدة، في الوهلة الأولى لا نصدق أن صوتها الذي يسكن فيه شجن البلاد وحزنها، وغصات أمهات الشهداء، وزوجات الأسرى، وصرخات أبناء الشهداء، وهم يلقون نظرة الوداع على قبور آبائهم الشهداء وأمهاتهم؛ قد رحل عن عالمنا..

لا تستوعب الأذن أن حشرجات صوتها التي تختصر شموخ فارسة فلسطينية قد طعنها الجميع في الظهر، واستمرت في معاركها وحيدة مشهرة مايكروفونها كسيفٍ أخير.. صوت شيرين أبو عاقلة الذي يحكي كل شيء في بصمته وفي طلعاته ونزلاته وغصاته عند نقل أخبار البيوت المهدمة وأخبار الشهداء والأسرى، والتي كانت تتعالى على وجعها الفلسطيني بشموخ وكبرياء الفارسة الوحيدة في حرب مع وحش لا يشبع من الدم والألم والفجائع والمعاناة لضحاياه.

لا تتقبل العين التي كانت تغرف من صدق كلمات شيرين ولغة جسدها الثائرة التي تقول عن عزائمها وعن إصرارها؛ رحيل شيرين. في الانتفاضات والهبات المتتالية كانت تحرجنا الهالات السوداء حول عيونها؛ هي التي سهرت على البلاد ولنقل أحزان البلاد، كانت تشد قلبها وصوتها بجموح فرس وفارسة رغم كل ما كان يعبرها من وجع وتعب ومشقة، هي المسافرة مع رياح البلاد حيث تشهر عاصفة على امتداد جغرافية تغطياتها. كم مرة خذلها جسدها المتعب وهي تحاصر حزن البلاد بكلماتها؟ وكم مرة خذلناها نحن على امتداد البلاد وخارج البلاد؟

شيرين كانت تنهض قبل شمس البلاد كي تحتضن حزن البلاد وتذيعه للعالم، وتقوله بالتفاصيل، شقت شوارع البلاد ودهاليزها وهي تحاول أن تُخجِل العالم بدموع الأطفال الفلسطينيين، ودموع أمهات الشهداء والأسرى.. شيرين الفارسة التي جعلت الهم العام سابقا على ذاتها وأمانها الشخصي، وتعاملت مع حصتها من الانتماء للوطن بمسؤولية قبيلة من الفرسان والفارسات.. كيف يمكن أن نقنع حواسنا دفعة واحدة أنها هي التي كانت تنفذ للبصائر بصدقها وصدق صوتها قد رحلت؟

وكيف نخبر الشوارع التي عبرتها وهي ترفع صوت تلك الشوارع كي يدوي في العالم بأنها رحلت؟ كيف يتلقى العقل تلك الصدمة المتوحشة التي تقول بأن آلام الفلسطينيين لا تعرف النهايات ولن تعرف النهايات، ما دام هذا الوحش الذي يعيش على دمائهم في تحالف دائم مع وحش السلطة المتغطرسة؟

لا تستطيع الأيادي التي عجزت عن احتضان الحيرة في صوت شيرين وملايين الأسئلة في تغطياتها عن ظلم ووحشية العالم الذي يدلل وحش الصهيونية أن تلوح تلويحة وداع أخيرة لشيرين أبو عاقلة، وقلوبنا لا تستطيع أن تلوح تلويحة وداع أخيرة وهي تتخيل آخر لحظاتها على أرض مخيم جنين شهيدة، وهي التي سعت قبل شمس البلاد إلى مكان الاشتباك كي تسابق سطوع الشمس بخيوط الحقيقة الني تنشرها عبر صوتها.

هل رحلت شيرين دفعة واحدة، بتسريحة شعرها البسيطة السريعة، وهي التي لا تلقي بالاً لمستحضرات التجميل، هل رحلت شيرين بابتسامتها الخجولة وكأنها كلما ابتسمت قدمت اعتذاراً من آلام البلاد على قدرتها على الابتسام؟

هل رحلت شيرين دفعة واحدة؟ ورحلت معها شمس الأبكار الساطعة؟ يحزن كل سور من أسوار البلاد اليوم لأنه لم يصد الطلقات التي اخترقت رأس شيرين المدجج بوجع البلاد وهمها وحزنها.. تحزن القلوب التي لم تستطع أن تشكل ساتراً يحمي شمس حقيقتنا الساطعة الواضحة من رصاصة احتلال جائرة.

لماذا تركنا فارسة الحقيقة لوحدها في الميدان؟ لماذا ينقاد جزءٌ كبير لحبل سلطة مشدود للاحتلال يغازلها ويطيل في عمر فسادها واعتياشها على الاحتلال، في الوقت الذي تُترك فارسة الحقيقة تحت مرمى الاحتلال في قارعة المخيم وغيرها من أهلنا هناك؟ من أسكت الحقيقة فينا؟ من كان كاتم صوت الحقيقة الأول؟ من أباح دماءنا التي سفكت على امتداد البلاد؟

الموت يختار الفارسات والفرسان، لكن فارسة الحقيقة لا يغيبها موتٌ ولا احتلال متوحش. سوف تنطق باسم شيرين شوارع البلاد، سوف ينعاها الصديق والعدو، الأحرار والأنذال، المتواطئون مع الاحتلال، ربما ستطلق السلطة المتواطئة مع الاحتلال اسمها على شارع أو حي كي تواري عورة تواطئها الفاضح في إطالة عمر الاحتلال، لكن كما رأت شيرين البلاد حرّة، ستكون حاضرة في كل أحياء وشوارع البلاد، وسوف تظل ذكراها تطارد كل من خذلها وهي في ساحات المواجهة الأخيرة، وتردد: لماذا تركتم فارسة الحقيقة وحيدة؟