قضايا وآراء

الروبل/ الدولار.. قطع الغاز الروسي وبوادر دبلوماسيات جديدة

1300x600
من يعاقب من في الحرب الروسية- الأوكرانية وتبعاتها المتصاعدة يوما بعد يوم؟ فقد هدد ونفذ الرئيس الأمريكي جو بايدن بسلاحه الفتاك، العقوبات الاقتصادية على روسيا من كل حدب وصوب، ولكن أشدها وطأة حتى اللحظة برأي الكثيرين هي نوعية العقوبات التي ضربت قطاعات الطاقة الأحفورية.

من هنا كنا نسأل عند إقرار مثل هذه العقوبات: ما تداعياتها الآنية والمستقبلية على كل المشهد الاقتصادي من جهة، وعلى العلاقات الدولية والدبلوماسية من جهة أخرى، خاصة أن الجميع يدرك أن روسيا- فلاديمير بوتين لن تقف مكتوفة الأيدي؟ وهذا ما جرى بالفعل يوم أصدر سيد الكرملين قرارا بظاهره سيادي روسي، وبمفاعيله رد دبلوماسي اقتصادي قاس على الدول التي اعتبرها غير صديقة.

بدا بوتين مهددا ومتوعدا بوقف إمدادات الغاز إن لم يتم دفع أثمانه بالروبل الروسي. استغرب الكثيرون قدرة الرئيس الروسي على المضي بقرار كهذا، إلا أن الواقع يؤكد أننا أصبحنا على مشارف التحولات الكبيرة بفعل الحرب الروسية- الأوكرانية التي أودت بالاقتصاد العالمي إلى مصاف غير محمودة، بفعل هشاشة الصمود أمام مؤشرات تراجع النمو من جهة، والتضخم العالمي الذي يضرب بلا هوادة، وبفعل أسعار الطاقة التي ضربت فواتير العالم دولا وأفرادا وهزت سلاسل التوريد وصولا وتكاليف، وزلزلت أسعار الغذاء العالمي بمشتقاته الحيوية حبوبا وقمحا وخبزا، حتى غدونا نسمع أحاديث المجاعة تطل براسها في القرن الواحد والعشرين.
الحرب الروسية- الأوكرانية التي أودت بالاقتصاد العالمي إلى مصاف غير محمودة، بفعل هشاشة الصمود أمام مؤشرات تراجع النمو من جهة، والتضخم العالمي الذي يضرب بلا هوادة، وبفعل أسعار الطاقة التي ضربت فواتير العالم دولا وأفرادا وهزت سلاسل التوريد وصولا وتكاليف، وزلزلت أسعار الغذاء العالمي بمشتقاته الحيوية حبوبا وقمحا وخبزا

ولا أدل من كلام أمين عام الأمم المتحدة السيد غوتيرش الذي قال؛ إن الدول الفقيرة تواجه أضرارا اقتصادية بفعل أزمات متزامنة للغذاء والطاقة والتمويل، جراء الغزو الروسي لأوكرانيا. وذكر خلال عرض تقرير لفريق معني بالأزمات: الحرب تشعل فتيل أزمة ثلاثية الأبعاد تشمل الغذاء والطاقة والتمويل، وهو ما يضر الأشخاص والدول والاقتصادات الأكثر ضعفا في العالم.

وأوضح الأمين العام للأمم المتحدة أن العالم يواجه حاليا عاصفة كاملة تهدد اقتصاديات العديد من الدول النامية، مشيرا إلى أن ما يصل إلى 1.7 مليار شخص -ثلثهم يعيشون في فقر- تعرضوا بشكل قوي لاضطرابات الغذاء والطاقة والتمويل، ما تسبب في زيادة الفقر والجوع. وأشار إلى أن 36 دولة تعتمد على روسيا وأوكرانيا في أكثر من نصف وارداتها من القمح، ما يشمل بعض أفقر البلدان وأكثرها ضعفا في العالم، كل ذلك قبل قطع إمدادات الغاز فعليا.

ببساطة، هذه التحولات الاقتصادية والسياسية وربما الجيو- سياسية تبلورت في دبلوماسية الإصرار الروسي على المضي قدما وقطع الغاز عن بلغاريا وبولندا، وتاليا رسالة واضحة لكل الأوروبيين، وفي مقدمتهم ألمانيا بأن روسيا جدية في قرارها، فهي في زمن إما الموت أو الحياة، حيث الحرب المالية والاقتصادية الشعواء التي تتعرض لها، وتاليا بالنسبة لها "الروبل مفتاح الحل" بعد تجميد المدخرات والاحتياطيات الروسية في بنوك أوروبا وأمريكا.
هذه التحولات الاقتصادية والسياسية وربما الجيو- سياسية تبلورت في دبلوماسية الإصرار الروسي على المضي قدما وقطع الغاز عن بلغاريا وبولندا، وتاليا رسالة واضحة لكل الأوروبيين وفي مقدمتهم ألمانيا، بأن روسيا جدية في قرارها، فهي في زمن إما الموت أو الحياة، حيث الحرب المالية والاقتصادية الشعواء التي تتعرض لها

ويدرك الروسي أنه ليس لدى أوروبا الكثير من الخيارات بالنظر لشح سوق الغاز العالمية، حتى قبل تصاعد الأزمة. وتعتمد أوروبا على خطوط الأنابيب للحصول على أغلب إمدادات الغاز، وليس في وسع الدول المنتجة الأوروبية أو في شمال أفريقيا التي لها اتصال بتلك الشبكة إضافة المزيد للإنتاج.

أما شحنات الغاز الطبيعي المسال من موردين آخرين أبعد، فهي عادة محجوزة بعقود طويلة الأمد، علما أن الولايات المتحدة، التي انتقدت أوروبا من قبل لاعتمادها على روسيا، عرضت المزيد من الغاز الطبيعي المسال على الدول الأوروبية، لكن إمداداتها غير كافية. وكذلك يجمع الكثير من الخبراء على أنه حتى لو تمكنت أوروبا من الحصول على المزيد من الغاز الطبيعي المسال، فليس لديها منشآت كافية لتحويله مجددا إلى غاز، علما أن ألمانيا تعتزم بناء مثل تلك المنصات، لكنها لا تملك أيا منها في الوقت الراهن.

وعليه، فإن تحولات سوق الطاقة الأوروبي بالمعنى التقني تحتاج إلى وقت لا يقل عن ثلاث سنوات كمرحلة أولية، وربما أكثر من خمس سنوات، لبلورة حل مستدام يحتاج ربما إلى حروب في مناطق أخرى لوضعه موضع التنفيذ.

أمام هذا المشهد الجديد بكل ما فيه، غدت المعادلة الدبلوماسية الدولية الجديدة تقول: العقوبات بالعقوبات وتجميد الاحتياطيات بوقف الإمدادات، والخراب في البنية الاقتصادية الروسية لن تسلم منه أوروبا والعالم. وعليه، باتت الأسئلة المقلقة كثيرة؛ ومنها عن جبهة الميدان التي طالت وأصبحت على مراحل بعد أن ظن الجميع أن روسيا ماضية في انتصار ساحق، ومن ثم متى تضع الحرب أوزارها في لعبة أمريكا للقتال حتى آخر أوكراني؟
أمام هذا المشهد الجديد بكل ما فيه، غدت المعادلة الدبلوماسية الدولية الجديدة تقول: العقوبات بالعقوبات وتجميد الاحتياطيات بوقف الإمدادات، والخراب في البنية الاقتصادية الروسية لن تسلم منه أوروبا والعالم
ثم ماذا عن الاقتصاديات الأوروبية وكيفية تعويض نقص الإمدادات الطاقوية من غاز وبترول؟ علما أن الحديث عن التعويض عمليا هو غاز روسي من جهة مختلفة (ألمانيا – بولندا) بدل العكس!! ثم هل تملك الدولة الروسية عبر فرض الدفع بالروبل القدرة والتحدي على مجابهة الدولار الذي له وحده، ولعقود القدرة والتحكم في أسعار الطاقة وأساليب دفعها واحتياطاتها؟

وللتذكير، أمريكا أسقطت أنظمة في العالم لمجرد التفكير في لعبة العملات الوطنية بعيدا عن تحكم الدولار كعملة في سلة دفع المواد الأولية وعلى رأسها البترول والغاز!

ثم هل تمتلك دول بعينها العيش بلا إمدادات الطاقة الروسية، حيث السلاح الاستراتيجي الفعال؟ وذلك برغم ما قاله دومينيك راب، نائب رئيس الوزراء البريطاني، من أن قرار روسيا وقف إمدادات الغاز إلى بولندا يضعها في موقع المنبوذ اقتصاديا، وما قالته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين؛ من أن إعلان شركة غازبروم الروسية التوقف من جانب واحد عن تسليم الغاز لبعض العملاء في أوروبا، هو محاولة أخرى من جانب روسيا لاستخدام الغاز أداة للابتزاز، وتاليا قد تشكل دبلوماسية الابتزاز نوعا جديدا من العلاقات الدولية القادمة على أكثر من صعيد؛ من بحر الصين إلى بحر العرب، مرورا بشرق المتوسط العائم على الغاز.

إن المسألة تغدو معقدة، فالكل يمتلك الكثير من الأوراق على طاولة الحرب والمفاوضات في آن، التي كلما طالت ستستنفد روسيا في الميدان والعالم برمته؛ في زيادة وجعه الاقتصادي المتراكم منذ زمن كوفيد- 19. ولعل الأزمة تخلق بوابة جديدة لأنواع جديدة من الدبلوماسيات، ليس أقلها ما قيل عن دبلوماسية الابتزاز.