كتاب عربي 21

نكبة النقب

1300x600
(1)
"لولا الجلد الأسود والشفاه الغليظة ما عرفت أنك من أبناء هذه الأرض العزيزة".. هكذا قال "فيلا كوتي" لأحد كبار المسؤولين في النظام العسكري الذي كان يحكم نيجيريا بولاء استعماري إنجليزي.

فيلا كوتي حالة موسيقية وإنسانية وسياسية مذهلة وصادمة وعظيمة، لكنه ليس موضوع هذا المقال، عبارته الخارقة هي موضوعنا، فهي تصلح للتوجيه العام ضد طبقة الحكام والمسؤولين وأغلبية النخب العربية في أزمنة سيلان الهوية وفقدان المناعة الوطنية.

(2)
هذا المقال بالذات لا يصح فيه التعميم المنهجي، أو التناول الثقافي الهادئ والاستشهاد بمقاطع رصينة من الأدب والتاريخ وكتب الفلسفة، لأنه مقال مباشر مباشرة الشتيمة، والشتيمة التي أوافق عليها وتتلاءم مع أخلاقي يجب توجيهها للمقصود بها في وجهه في مواقف تتطلب ذلك الغضب. هذه المباشرة غير المتوارية هي التي تجعل الشتيمة قوية وأخلاقية وشجاعة ولا تنزلق إلى سلوك آخر مشين.
مستوى الانحطاط والتدني والاستلاب النفسي والسياسي وصل إلى قاع قذرة يصعب على النفس السوية تحملها، أو التعامل معها بتفهم موضوعي وحلم رزين وهدوء نفسي

وبرغم أنني احترفت شتيمة الأنظمة العربية والمرتبطين بها طوال العقود الماضية، إلا أنني اليوم أوجه شتيمتي المباشرة إلى وزراء خارجية الدول الأربع التي شاركت فيما سمي "قمة النقب"، لأن مستوى الانحطاط والتدني والاستلاب النفسي والسياسي وصل إلى قاع قذرة يصعب على النفس السوية تحملها، أو التعامل معها بتفهم موضوعي وحلم رزين وهدوء نفسي..

(3)
قدم الحكام العرب بعد انهيار الدولة العثمانية وتبلور النظام الدولي الحديث؛ نموذجا في العمالة والتبعية والنطاعة لم تصل إليه بقايا القبائل المنقرضة من الهنود الحمر، ولا فلول المطاردين من السكان الأصليين في أستراليا وأمريكا اللاتينية.

ففي حين كان فلاح مثل إيميليانو زاباتا يحارب المستعمرين في المكسيك بيده وأساليبه البسيطة، كانت الممالك والدول العربية الحديثة تنام مع جواسيس العدو (إنجليز وفرنسيين) وتخضع لكل التعليمات من أجل مساعدة العملاء في تأسيس دول هشة يحكمونها. لهذا صار من المألوف أن نصافح العدو ونطيع أوامره ونعمل في خدمته، وإذا أغضبنا في شيء لا نتصرف إلا كما يتصرف الخادم مع سيده: بكاء، أو شكوى، أو "قمصة" انتظارا للتراضي وليس كبداية لاتخاذ موقف كريم!

مراجعة تاريخ العرب الحديث يضعنا أمام مشاهد مخجلة يتفاخر بها الجميع: مصطفى كامل سافر إلى فرنسا ووضع القضية في عهدة جولييت آدم، محمد فريد يحارب الإنجليز في أوروبا بمساعدة عزيزة دي روشيبرون، سعد زغلول يشكل وفدا لطلب الاستقلال من الإنجليز كمكافأة على وفاء مصر بدعم بريطانيا في حربها، لورد كرومر يأمر والكل يطيع ويصافح مبتسما ويقبل التعيين والإقالة ويكتب المذكرات الفخورة بالنوم مع العدو.
تاريخ طويل من تمرير التعاون مع الأعداء بوصفهم أصحاب القرار وأصحاب الأمر وأصحاب الدول، صحيح أن هناك استثناء لفترات المقاومة، وهناك جماعات حملت السلاح ضد الأعداء، لكن هذا ظل سلوكا يرفضه من القلب (أو في العلن فقط) كل مسؤول نشأ كمملوك صالح للاستعمال بمعرفة الاستعمار المهيمن

تاريخ طويل من تمرير التعاون مع الأعداء بوصفهم أصحاب القرار وأصحاب الأمر وأصحاب الدول، صحيح أن هناك استثناء لفترات المقاومة، وهناك جماعات حملت السلاح ضد الأعداء، لكن هذا ظل سلوكا يرفضه من القلب (أو في العلن فقط) كل مسؤول نشأ كمملوك صالح للاستعمال بمعرفة الاستعمار المهيمن. وبالمناسبة، فإن كلمة نطاعة الواردة في بداية هذه الفقرة تعني إعادة استخدام طعام تم قضمه من قبل.

(4)
صورة وزراء الخارجية العرب يبتسمون وهم يشبكون أيديهم في ختام "نكبة النقب"، ليست إذن صورة خطوبة حديثة العهد، لكنها إعلان فاجر عن علاقة عشق قديمة ومتصلة، كما أنها تصعيد في مشاهد الإهانة الصهيونية للكرامة العربية، ورسالة لتحطيم معنويات القلة التي تتمسك برفض مشروع الاغتصاب التوسعي وعدم تطبيع وجوده وعلاقاته في المنطقة، لذلك يقول لنا الصهاينة بخبث سادي: حكامكم رهن أوامرنا.. يعملون بإخلاص في خدمتنا.. عشيقات مخلصات في السر والعلن، بلا خجل أو حسابات، يوافقوننا على أن إسرائيل ليست العدو، لكن إيران. والمهم في هذا ليس التفصيلات السياسية، لكن المهم أنهم يقبلون فرحين بالبقاء في الحظيرة التي نضعهم فيها.

(5)
تخبرنا إسرائيل أن اللقاء الذي جرى على مقربة من مفاعل ديمونة النووي (للتذكير بمن يقدر ومن يجب أن يطيع)، ليس مجرد اجتماع هامشي ويمر، لكنه بداية لسهرات أكبر تضم بقية الذين يعملون فرحين برواتبهم الجيدة من العمل المربح في الملهى الصهيوني الذي يحتل قلب الشرق الأوسط الجديد. فقد آن الأوان لدفن منظمات ماتت مثل جامعة الدول العربية وإنجاب منظمة جديدة تقودها تل أبيب، ولا داعي للكسوف والتأجيل، فها هم ممثلو العرب من الماء إلى الماء يتبادلون الأنخاب فوق قبور الشهداء، من الخليج الغادر حيث مملكة البحرين إلى المحيط (الغادر أيضا لا داعي لوصف اشد) حيث مملكة المغرب التي يدعي نظامها بأنه حارس القدس الشريف بينما يعين وزيرا للخارجية أكثر صهيونية من لابيد.
صورة وزراء الخارجية العرب يبتسمون وهم يشبكون أيديهم في ختام "نكبة النقب"، ليست إذن صورة خطوبة حديثة العهد، لكنها إعلان فاجر عن علاقة عشق قديمة ومتصلة، كما أنها تصعيد في مشاهد الإهانة الصهيونية للكرامة العربية، ورسالة لتحطيم معنويات القلة التي تتمسك برفض مشروع الاغتصاب التوسعي وعدم تطبيع وجوده وعلاقاته في المنطقة

(6)
أعترف بأن الصورة أصابتني بغصة في القلب وألم في الروح، لم تسعفني خبرتي السابقة بعرب التنازلات في حماية معنوياتي من فظاظة السقوط العلني، فأخطر الفواحش ما يجرؤ صاحبها على إعلانها دون اعتبار لأخلاق أو كرامة أو عهود، حتى لو كان عميلا أو خائنا في السر. وتبقى الأسئلة المحيرة:

ماذا علينا أن نفعل؟

ماذا علينا أن نفعل (ليس لمواجهة إسرائيل) ولكن لمواجهة الأعداء الذين صنعتهم في الداخل؟

ما مصير القضايا المركزية التي تجرفها التبعية للأعداء؟

كيف يمكننا الحديث عن تحرير فلسطين؟

كيف يمكننا الحديث عن هوية ما عربية أو إسلامية أو قُطرية في مواجهة هذه العاصفة التي تقتلع كل الهويات القديمة من جذورها، وتطرح علينا قَدَراً واحداً في شكل "اختيار لا بد منه" هو الشرق أوسطية الهلامية تحت القيادة الصهيونية؟

والأهم، كيف نقبل نفسيا وسياسيا بقيادات ومسؤولين يزعمون حماية الوطن، بينما وصل بهم الانحطاط السياسي إلى المتاجرة العلنية بلحم الوطن مع الأعداء؟!

أعتذر عن غضبي ولا أعتذر عن مقاصدي.

وكل عام وأنتم بخير.

tamahi@hotmail.com