قضايا وآراء

السياسة الإرترية وجدلية الثنائيات الدينية والثقافية والإقليمية

1300x600
إنّ الكيان الإرتري وشخصيته الوطنية تشكّلت عبر ثلاث مراحل: مرحلة النضالات السياسية، ومرحلة الثورة، ومرحلة الدولة. وفي المراحل كلها هناك عوامل ثابتة تتحكم وتوجه السلوك السياسي فيها، وهذه العوامل هي الثنائيات: الإسلام والمسيحية، التغرنية والعربية، المرتفعات والمنخفضات، وأمور أخرى متفرعة من الثنائيات.

عندما دخلت المجموعات الإرترية في عهد الاستعمار الإيطالي في إطار دولة واحدة ذات حدود معروفة، واستتب السلم الاجتماعي الداخلي فيها بتوقف تهديدات غارات النهب القادمة من إثيوبيا وغيرها، بدأ في تلك المرحلة الوعي بالذات الإرترية وتطوّر إلى تحديد ملامح الهوية الإرترية، وإن لم يفصح عنها في ظل الاستعمار الإيطالي بسبب غياب الحريات العامة. وبعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، تحولت إدارة إرتريا إلى بريطانيا عام 1941، وقد اهتمت الإدارة البريطانية بتعميق تلك الثنائيات وأوجدت لها أدبيات سياسية بغرض إنهاء الكيان الإرتري وتنفيذ مشروعها المعد سلفا لتجزئة إرتريا بين السودان وإثيوبيا، بما يلائم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة دون الإكتراث لمطالب السكان في تقرير المصير.

وقد التقطت إثيوبيا تقاطع هذه الاستراتيجية مع أطماعها في إرتريا. ونشطت في الداخل الإرتري مستخدمة نفس الأدوات وخاصة البعد الديني والثقافي للتأثير فيه، واستطاعت أن تحقق اختراقات لصالح مشروعها في إرتريا وخاصة في القيادات المسيحية الدينية والسياسية.

ونتيجة لذلك تشكّل في إرتريا مساران سياسيان على طرفي النقيض لرؤيتهما لمصير إرتريا؛ اتجاه يدعو للاستقلال الفوري بقيادة الرابطة الإسلامية واتجاه آخر يدعو للانضمام إلى إثيوبيا بقيادة حزب الوحدة. وفي الوقت نفسه تعذر وصول الحلفاء واللجنة السياسية للأمم المتحدة إلى اتفاق حول مصير إرتريا بخلاف الصومال وليبيا. وكحل وسط تقدمت الولايات المتحدة بمشروع ربط إرتريا بإثيوبيا بنظام فيدرالي كان يرجح مصلحة إثيوبيا أكثر من إرتريا، لكون الأولى حليفة للغرب في المنطقة. والوطنيون الإرتريون قبلوا بالنظام الفيدرالي كأمر واقع، وعملوا ما يمكن فعله في إطاره، واستطاعوا أن يثبتوا أن الكيان الإرتري كيان مغاير للكيان الإثيوبي.

وبالنظر بعمق للعوامل التي كانت تسببت في تلك الانقسامات في المجتمع الإرتري في تلك الفترة، وهي نفس العوامل الدينية والإقليمية والثقافية، وفشل الإرتريين في استيعاب تبايناتهم وتوجيهها لخدمة الصالح العام، وتدخل إثيوبيا في إرتريا مباشرة عبرها. ومثله استطاعت إثيوبيا أن تجذب تعاطفا من القوى الدولية لإدعاءاتها في إرتريا، وبدأت إثيوبيا مستفيدة من الأجواء تدريجيا تلغي مقومات النظام الفيدرالي ولاحقا في عام 1962م تم إنهاؤه كليا وجعل إرتريا الإقليم الرابع عشر لإثيوبيا.

ووصلت النضالات السياسية في إرتريا إلى طريق مسدود، وبدأت الأوضاع في إرتريا تتجه نحو التماسك وضاقت فيها مساحة التباينات، وتهيأت الأجواء للانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح والتي أعلن عنها عام 1960م لمواجهة الاستعمار الإثيوبي في إرتريا.

ونمت الثورة الإرترية نموا مطردا في المجالات العسكرية والسياسية والتنظيمية والجماهيرية، وصارت من القوى المؤثرة في منطقة القرن الأفريقي، إلا أنّ الثورة الإرترية نفسها تعرضت لانشقاق إلى فصيلين رئيسيين (جبهة التحرير الإرترية والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا) مرة أخرى في الساحة الإرترية. وأصبح التباين هو السائد، وتمظهرت نفس الأمراض القديمة من المشاكل الإقليمية والدينية والثقافية، على الأقل في تفكير وسلوك القيادات المسيطرة في الطرفين. وتطور الأمر إلى حرب شاملة بين الفصيلين، ووصل إلى الاستعانة بقوى أجنبية من إقليم التيغراي الإثيوبي وتصفية جبهة التحرير الإرترية وإخراجها من الساحة عام 1981م. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا القوى المسيطرة في الساحة الإرترية، وقادت الكفاح المسلح بكفاءة عالية إلى أن تحقق استقلال إرتريا.

غير أنّ قيادات الجبهة الشعبية المسيطرة على زمام الأمور في إرتريا منذ الاستقلال لم تنفك من عقد تلك الأمراض التاريخية الدينية والإقليمية والثقافية، بل أصبحت الموجهة لسلوكها السياسي وفي سياقات حكمها للبلد خلال ثلاثة عقود الماضية، ويتضح ذلك من سلسلة الإجراءات التي قامت وما زالت تقوم بها. وبالمقابل فإن تلك المشاكل لم تكن متوقفة على القيادة الحاكمة في أسمرا، بل حتى القيادات المعارضة للنظام تعاني منها مثل النظام سواء بسواء. إذا ما الحل للخروج من هذا المأزق؟

كيف الخروج من هذا المأزق؟

إنّ تلك التباينات في حد ذاتها ليست بمشكلة وهي أمور طبيعية، لكن تتحول إلى شر عندما تستغل لأغراض سياسية من قبل الفاعلين السياسيين دون الاكتراث للسلم الاجتماعي بمفهومه الواسع والمصلحة العامة المتوخاة من العملية السياسية. وإنّ الحل يكمن في ترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية بين كافة أبناء الشعب الإرتري، وأن يكون مبدأ المساواة بينهم على أساس الحقوق والواجبات، وإنتاج أدبيات سياسية تكرّس لذلك، وعدم ترك تلك التباينات لاستغلالها في الصراع السياسي، وذلك بإرجاعها إلى الفعاليات المدنية (على سبيل التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين إلى رجالات الدين وأهل الفكر والمؤسسات والجمعيات المدنية ذات الصلة بالموضوع).

ومن الناحية الاجتماعية يمكن تفعيل التداخل الاجتماعي بين مختلف المناطق، على سبيل المثال لا الحصر بين قبائل الحماسين المسيحية وامتداداتها الاجتماعية المسلمة في المنخفضات والعكس، وتقوية أواصر القربى بين القبائل التي يعتنق أفرادها الديانتين المسيحية والإسلام كقبائل البلين والمنسع. وما يساعد في ذلك التسامح السائد عبر التاريخ على مستوى المجمتعين المسلم والمسيحي، إذا استثينا تلك الاستقطابات السياسية من القوى الخارجية والفاعلين السياسيين الإرتريين.

وأخيرا لا بدّ من إنتاج أدبيات اجتماعية تدعم وتقوي التعايش السلمي، وأدبيات سياسية لترشيد العملية السياسية وتوجيه تلك التباينات لخدمة الصالح العام لا المصالح الجزئية. أقول ذلك لأنّ الأدبيات السياسية الإرترية التي نعتمد عليها إلى اليوم هي أدبيات غير إرترية، من إنتاج رجالات الاستعمار، وهي تركز على تكريس التباين في المجتمع الإرتري (مسلمين مسيحيين، مرتفعات منخفضات، وثقافتيهما ومسائل أخرى). هذه الأدبيات لها تأثير مباشر وغير مباشر في سلوكنا وممارسة العملية السياسية، وفي أغلب الأوقات تصبح هي الإطار الموجه لتحركاتنا.