كتاب عربي 21

القوة الخضراء أو الوهم الجميل

1300x600
الحرب في أوكرانيا تحولت من حرب خاطفة إلى حرب طويلة واستنزافية للعالم، والتهامس المتردد الفزع في شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير (هل يهاجم بوتين؟) صار صور لاجئين وصور بيوت مهدمة على رؤوس ساكنيها. لقد وجد الناس هناك أنفسهم في العراء وتحت سماء من قنابل، واشتعلت بورصات الطاقة والغذاء، وتنادى العالم إلى كارثة كونية تقريبا، وظهر العرب فيها في صف الخاسرين يبيعون ولاءهم لطرفي الحرب ويمولونها بالقوة البشرية أو لحم المدافع.

سقطت أطروحة سياسية تقول بأن مستقبل العرب والمسلمين سيبنى على أنقاض الدول الكبرى المتحاربة. أحد مروجي هذه الأطروحة هو أستاذنا أبو يعرب المرزوقي؛ الذي ما انفك يروج منذ سنوات لأطروحة استراتيجية عن القوة الخضراء الإسلامية (الأمة الإسلامية) ودورها العظيم في التصدي، عبر تحالف محتمل وممكن وضروري مع القوة الأمريكية (والمسيحية) والدب الروسي والتنين الصيني مجتمعين (الكفار)، وفرض هذه الأمة نفسها في المنطقة الفاصلة (بين أوروبا وآسيا) فاعلا تاريخيا يعيد بناء نفسه ويفرض موقعه ودوره ويستعيد مجده الغابر، ليحكم في القرون القادمة. وقد وجدت أن أطروحة أستاذنا مفرطة في التفاؤل، وفي لحظة الحرب المستعرة وضياع العرب بين طرفيها أجد أنها أقرب إلى ترويج وهْم.
وجدت أن أطروحة أستاذنا مفرطة في التفاؤل، وفي لحظة الحرب المستعرة وضياع العرب بين طرفيها أجد أنها أقرب إلى ترويج وهْم

اذهب أنت وربك فقاتلا

عندما انهار الاتحاد السوفييتي تقدم حلف الناتو بخطى لص محترف وجبان نحو حدود روسيا، وحرض على محاصرتها في مربعها الخاص، واستغل النزعات الاستقلالية للدويلات التي كانت بعض مجالها الجغرافي مقابل وعود كثيرة بالمساعدة والدعم عند حدوث الخطر. وقد حدث الخطر المتوقع في أكثر من بلد ودافع الروس عن مجالهم الحيوي وفرضوا قواعد اللعب في المنطقة، وفي كل مرة كان الأمريكيون يتخلفون ويتركون هذه الشعوب لمصيرها. وآخر المواعيد التي أخلفها المحرض هي أوكرانيا 2022.

تحت أنظار الأمريكيين (أهل الكتاب) حلفاء القوة الخضراء (الأمة الإسلامية) خرج الروس (الكفار) من مناطقهم وتجاوزوا خطوطا حمراء سطرها الأمريكيون على خريطة العالم، فإذا هم في سوريا يفرضون قواعد الاشتباك، وفي ليبيا يشاركون في الحرب الأهلية، وفي أفريقيا ينظمون الانقلابات في مساحة جغرافيا لم يصلوا إليها حتى في زمن السوفييت. وقد تم لهم ذلك بمساعدة مباشرة من قوى يصنفها أستاذنا في القوة الخضراء.

الصورة الوحيدة التي طاوعتني لمقارنة هذا السلوك الجبان هي صورة بني إسرائيل يقولون لموسى وهو يحرضهم على دخول أرض كنعان "اذهب أنت وربك فقاتلا.." فإن فيها قوما جبارين. جالوت الروسي يفرض لعبته ولا داود في المشهد. يمكننا استعادة تحليلات قديمة من زمن الدولة القومية، النزعة القومية الروسية في مواجهة جبن رأس المال الذي يكتفي بجمع أسلاب الشعوب المهزومة، مقابل وعود بالمساعدة باسم إعادة الإعمار في بلاد القوة الخضراء نفسها التي تظهر بلا حول ولا قوة، وهي تنتظر كـ"عصافير زغب الحواصل" أن ترزقها القوة الأمريكية بالغذاء المعلب. وإني لأذهب في بعض الأحيان إلى القول بأن هناك تقاسم أدوار مبرمجا (خربوا لنبني ما خربتم، فالقوم لديهم نفط يمكن الاستفادة منه بعد).
توجد مساحة جغرافيا إسلامية نعم، ويوجد على هذه الرقعة مليار ونيف من المسلمين بالاسم، لكن هل هم قوة واحدة أو قابلة للتوحيد الفعلي والعمل المشترك في أفق نهضة تاريخية يروج لها أستاذنا، ويراها مصيرا تاريخيا حتميا قادما؟

القوة الإسلامية غثاء كغثاء السيل، أو الكثرة وقلة البركة كما في المثل التونسي. توجد مساحة جغرافيا إسلامية نعم، ويوجد على هذه الرقعة مليار ونيف من المسلمين بالاسم، لكن هل هم قوة واحدة أو قابلة للتوحيد الفعلي والعمل المشترك في أفق نهضة تاريخية يروج لها أستاذنا، ويراها مصيرا تاريخيا حتميا قادما؟

هذه القوة الموهومة مقسمة منذ قرون مذهبيا، وخلافها المذهبي كان سببا في حروب داخلية مدمرة، ولم يظهر أي مؤشر في السنوات الخمسين الأخيرة على أي تقارب مذهبي بين شقيها، بل هو شرخ يزداد اتساعا (الثورة الإيرانية الشيعية في العمق عمقت الشرخ ولم تردمه، ويكفي أن ننظر إلى ما يجري في العراق منذ ربع قرن).

وفي الحرب الروسية الأمريكية الدائرة منذ قرن (باردة كانت أو ساخنة) كان شقا الأمة الإسلامية منقسمين بين العدوين الدوليين، ويخوضان لصالحهما حروبا بالوكالة. كان الجهاد الأفغاني والشيشاني لاحقا يجري بتمويل بشري ومالي عربي، وكانت الحرب على إرهاب طالبان تجري بنفس التمويل طبقا للخطة الأمريكية، وقد جرى الصلح بين طالبان والأمريكان بتمويل عربي مسلم أيضا. وما الحرب في سوريا وليبيا أو النيجر ومالي إلا تفصيل إضافي ضمن نفس خطة الحرب بالوكالة.
في الحرب الروسية الأمريكية الدائرة منذ قرن (باردة كانت أو ساخنة) كان شقا الأمة الإسلامية منقسمين بين العدوين الدوليين، ويخوضان لصالحهما حروبا بالوكالة

شيعة ضد سنّة أو سنّة ضد شيعة، خلاف أعمق من أن تذوبه القراءة الفلسفية المتفائلة. وعقلاء الأمة المفترضون يساهمون في توسيع الفجوة بالفتاوى. ومن أفشل مؤسسات هذه الأمة هيئة التقريب من المذاهب التي تراقب دون أن تنبس ببنت شفة عن تغلغل التشيع في بلدان مثل تونس، وغياب أي تسنن في المجال الشيعي. هذا الخلاف التاريخي غير القابل للتجسير جعل نصف الأمة مع روسيا ضد نصف الأمة الآخر مع الأمريكيين، بل ويستدعى فيه حديث التحالف مع أهل الكتاب ضد الكفار (في أجواء فتوحات إسلامية ظافرة).

حديث الأمة الإسلامية العائدة (في الإجمالي/ الماكرو) يتغاضى عن الخلافات الفكرية والسياسية في كل قُطر من أقطار هذه الأمة (في الإفرادي/ الميكرو). إن زلة لسان حمادي الجبالي بالخلافة السادسة أدت إلى إسقاطه وحكومته وحزبه.

نحتاج هنا إلى حديث طويل عن أثر عمليات التحديث الفكري والسياسي (لا يتسع لها المجال)، ولكن تحديث القرن العشرين بأكمله وربما منذ عصر النهضة (القرن 19) ترك أثرا عميقا في تفكيك الشعور بالانتماء الموحد لأمة الإسلام. ولا يمكن للفلسفة المتفائلة أن تبشر بعد وبجملة جميلة أن الانتماء للإسلام ما يزال عنصرا مشتركا في هوية الأفراد، وبالتالي فإن تصنفيهم كعناصر قوة بشرية متوافقة ضمن فعل تاريخي هو مجاز رومانسي (ذات يوم قال بورقيبة إن باريس أقرب إليه من مكة وعلى ذلك بنى سياساته).

لنتذكر فقط أن هذا التفكيك جرى بقوة "الأخ المسيحي الطيب". إن لحظات التعاطف الحسي (الغريزي) مع فريق عربي أو مسلم يخوض نزالا كرويا ضد فريق "من الكفار" والذي يؤول كعلامة على روح الأمة الواحدة؛ لا يجب أن يحجب عنا أنه لا شيء يجمع في البلد الواحد بين مناضل إسلامي وآخر يساري (بل هما عدوان يقتتلان منذ نصف قرن) أو بين مصري وتونسي (نظامان يقتتلان على فرص التشغيل في ليبيا). إن حربا صامتة عمرها سبعين عاما حول الصحراء الغربية فرقت أقطار المغرب العربي فرقة لا يمكن جبرها، والأنظمة التي تقود هذه الحرب وتعيش منها ليست في وارد السقوط والاندثار، رغم كل الحديث عن التوافق المذهبي المالكي وهو حديث يثير الشفقة (ما معنى الوحدة المذهبية عند يساري يجد في الإسلام سببا لتخلف الشعوب؟).
الوهم الثاني في وارد الدحض هو التبشير ببناء تحالف استراتيجي مع القوة الأمريكية (ومع بعض الغرب دون فرنسا الكاثوليكية) لخوض حرب أممية معها ضد الروس والصين، مجتمعين أو متفرقين. إن أقصى ما يمكن إنجازه هو توظيف القوة البشرية والمالية العربية و/ أو الإسلامية (القوة الخضراء الافتراضية) لتمويل حرب لصالح الشركات الأمريكية

لنتوقف عن ترويج الوهم

مع حفظ مقام أستاذنا الجليل الذي تطاوعه اللغة ولا تسير الوقائع مع تنظيراته المتفائلة، الأمة الإسلامية وهْم مثلما أن الأمة العربية وهْم أصغر قليلا، لم تكن هذه الأمة يوما كيانا موحدا حتى قبل أن يظهر الغرب الأوروبي المسيحي ويتوحد ويهيمن على العالم. وتاريخ الحروب البينية بين مكونات جغرافيا هذه الأمة الموهومة أكثر من أن تحصى.

والوهم الثاني في وارد الدحض هو التبشير ببناء تحالف استراتيجي مع القوة الأمريكية (ومع بعض الغرب دون فرنسا الكاثوليكية) لخوض حرب أممية معها ضد الروس والصين، مجتمعين أو متفرقين. إن أقصى ما يمكن إنجازه هو توظيف القوة البشرية والمالية العربية و/ أو الإسلامية (القوة الخضراء الافتراضية) لتمويل حرب لصالح الشركات الأمريكية، على طريقة الجهاد الأفغاني، مع وجود الاحتمال الدائم لهروب الأمريكي (الجبان) أمام الدبابة الروسية كما حدث في الشيشان ويحدث في أوكرانيا (من يتذكر في هذه اللحظة مصير المقاتل خطاب بلحيته الكثة وشعره الطويل وهو يموت وحيدا مخذولا في غروزني؟).

إن أستاذنا يسند تفاؤله على النهضة الاقتصادية التركية المبهرة، نعم، ولكنه يغض الطرف على أنه نجاح تركي أولا قاده ليبراليون أتراك على مذهب أتاتورك (هادم الخلافة)، أكثر مما قاده أردوغان الإسلامي الذي يبشر بمستقبل الأمة الإسلامية. ذات يوم كانت ثروات الأمة رافدا لميزانية قصر الخلافة، وكان جنود الإيالات لحم مدافع للجيش التركي في القرم وفي البلقان. هنا ينتهي الوهم لنعود مضطرين إلى حقيقة فاجعة: الأمة وهْم لتعويض الخيبة.

وماذا بعد نقض الوهم الجميل؟ هل نرتكس إلى الإحباط المطلق؟ إني أفضل عوض الذهاب وراء الحلم بأمة متخيلة لدور متخيل عدم تجاهل العوائق الداخلية، أي العودة إلى سؤال آخر في العمق.
ماذا بعد نقض الوهم الجميل؟ هل نرتكس إلى الإحباط المطلق؟ إني أفضل عوض الذهاب وراء الحلم بأمة متخيلة لدور متخيل عدم تجاهل العوائق الداخلية، أي العودة إلى سؤال آخر في العمق


ما دامت هذه الأمة تفرز قادة من قبيل السيسي وبشار والقذافي وسعيد وابن سلمان وأشباههم، فإن فيها خللا عميقا يستدعي البحث في الروح الكامنة في هذه الشعوب. إن بعض عوارض هذا الخلل الاستعانة بوهم أن الأخ الغربي المسيحي سيساعد على بناء الديمقراطية في الأمة الإسلامية، ويعتمد عليها كند فعال وشريك حقيقي لخوض حرب كونية ضد الكفار.

الأخ المسيحي الطيب صاحب الشركات هو من صنع السيسي ضد الديمقراطية، وصنع سعيد أيضا ويصنع آخرين مثلهما كل يوم ومنذ قرن على الأقل، ولا نرى سببا ليغير خطته الناجحة لينصر هذا الغثاء العربي الإسلامي. إننا نراه يجلس مرتعش الركبتين على طاولة تفاوض مع الدب الروسي، ويكتفي بتسيير بلدان مثل تونس عبر هاتف سفيره.

لم أقدم للقارئ بديلا لتنظيرات أستاذي المتفائلة، لكني أفضل الإحباط (الواقعية المرة) على ترويج الوهم على طريقة الشيخ بسام جرار غفر الله له، فإسرائيل لم تندثر في 2022.