قضايا وآراء

هل تدق طبول الحرب في أوكرانيا؟

1300x600
استطاعت روسيا أن توقف العالم كله على رؤوس أصابعه، وأن تجعل بايدن في حالة قلق وارتباك، وذلك بسبب وقوعه بين التردد في التدخل المباشر في الحرب المحتملة، ورغبته الجامحة في حماية أوكرانيا، وبين التوقعات السلبية لهذا التدخل، وهو ما دفع الولايات المتحدة وبريطانيا لتزويد الأولى بالأسلحة اللازمة لمواجهة القوات الروسية. لكنني أتصور أن الولايات المتحدة وأوربا قد تتدخلان بالقصف عن بعد من خلال السفن الحربية أو بطائرات B-52 والإسناد عن قرب في أعلى مستوى ممكن، في حال محاولة روسيا احتلال العاصمة كييف أو احتلال كامل التراب الأوكراني، أو إذا شكل الغزو الروسي تهديدا حقيقيا لدول الناتو بأية صورة من الصور.

بين تصريحات بوتين وتحركات قواته العسكرية تناقض كبير، يجعل التخمين بالحرب أو عدمها مسألة محيرة للجميع، رؤساء وسياسيين ومراقبين على حد سواء؛ فربما لو سأل أحد مستشاري بوتين رئيسه -سرا- عما سيكون في القادم من الأيام؛ فربما سيقول له: لا أعرف إلى أين أنا ذاهب، ما رأيك أنت؟

لقد صار أمر الحرب أقرب إلى الأحجية؛ فإذا استمعت إلى بوتين، قلت: لا حرب في الأفق القريب، وربما البعيد، فإذا نظرت إلى التحركات العسكرية والمناورات وحشد القوات على الحدود الأوكرانية، قلت: ثمة حرب مؤكدة، وربما يمكننا أن نقول بأن بوتين يناور ويلعب لعبة العض على الأصابع التي أوقفت العالم كله على رجل واحدة في انتظار قراره، وهو يصب في مصلحة روسيا معنويا حتى الآن، فقد استطاعت أن تهدد العالم بقوتها التي جعلت بايدن يصرح بأنه لن يرسل قواته إلى أوكرانيا مخافة نشوب حرب عالمية ثالثة.
بين تصريحات بوتين وتحركات قواته العسكرية تناقض كبير، يجعل التخمين بالحرب أو عدمها مسألة محيرة للجميع رؤساء وسياسيين ومراقبين على حد سواء

إن التخمين بنشوب حرب هو ذاته التخمين بعدم نشوبها من حيث مسوغات كل من التخمينين؛ فكلا التوقعين يتكئ على مبررات وحيثيات كافية للإقناع بأي من وجهتي النظر، بيد أن وقوع حرب يعني مغامرة كبرى غير محسوبة من قبل روسيا؛ ذلك أن ما يحضر لها الغرب من عقوبات سيكون قادرا على تدميرها اقتصاديا لسنوات طويلة، لكن الغريب في الأمر أن روسيا لم تزل تحشد قواتها وتحضر لحرب، مما جعل الرئيس الأمريكي يطلب من الرعايا الأمريكان مغادرة أوكرانيا على وجه السرعة، وحذت بعض دول أوربا حذوه، حتى إن بايدن صرح بأنه لن يرسل طائرات لنقل الأمريكيين من أوكرانيا كما جرت العادة في كل بؤر الصراع التي يوجد فيها أمريكيون، آخذين بعين الاعتبار تصريحه بأن الحرب باتت وشيكة..

في اللحظة التي تشترط فيها روسيا عدم قبول عضوية كييف في حلف شمال الأطلسي، وهو المطلب الوحيد الذي تشترطه روسيا لإنهاء حالة التوتر؛ يرفض الغرب هذا الطلب، من باب أهمية أوكرانيا كموقع استراتيجي خاص بالنسبة للناتو.. فكم ثمن انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي؟

إن إصرار روسيا على شرطها وإصرار الغرب على رفض هذا الشرط، يثير أسئلة مهمة حول أهمية أوكرانيا بالنسبة للطرفين؛ فعدم رضوخ الغرب لمطالب روسيا يعني أن أوكرانيا تشكل أهمية خاصة لكلا الطرفين؛ فروسيا تريد أن تحيّد كييف من خلال تعهدات دولية غير قابلة للمساس بها مستقبلا، أو أن تضمها إلى معسكرها عن طريق غزوها ثم تغيير نظامها الذي اقترب كثيرا من الغرب وبات قاب مسافة قصيرة من الناتو، بما يضمن لها السلامة من جهة حدودها الغربية.
روسيا تريد أن تحيّد كييف من خلال تعهدات دولية غير قابلة للمساس بها مستقبلا، أو أن تضمها إلى معسكرها عن طريق غزوها ثم تغيير نظامها الذي اقترب كثيرا من الغرب وبات قاب مسافة قصيرة من الناتو، بما يضمن لها السلامة من جهة حدودها الغربية

والغرب يريد أن يحكم الخناق على روسيا من جهة أوكرانيا ويضع خنجرا في خاصرتها، ولا يلائمه أن يتخلى عن حليف مهم في موقع جغرافي ساخن. فانضمام كييف إلى حلف الناتو يعني أن تقيم الولايات المتحدة قواعد لها في أوكرانيا وتنشر صواريخها التي تشكل تهديدا استراتيجيا لروسيا، وهو ما سيفقدها عنصر التوازن العسكري والأمان المستقبلي، خصوصا حين نتذكر أن أوكرانيا كانت إقليما مهما جدا في الاتحاد السوفييتي قبل البروسترويكا، وربما كان يوازي موسكو في الأهمية أو يزيد، وخصوصا في التكنولوجيا الحربية.

في الأثناء نلاحظ نشاطا دبلوماسيا تشترك فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومحاولات خجولة من تركيا في محاولة لرأب الصدع ومنع نشوب الحرب. فمن جهة يواجه بوتين تهديدات الغرب ومحاولاته لاحتواء الموقف، وتبريد الحدود بماء المصالح والمكاسب التي ربما تدفعه للتراجع عن إجراءاته التي يتخذها على حدود أوكرانيا، ومن جهة أخرى يجد إلى جانبه مستشارين كلاسيكيين من بقايا الحزب الشيوعي الروسي يتميزون بالعناد والتشدد، وهم من يدق طبول الحرب أكثر مما يفعل بوتين ذاته الواقع بين حكمة وزير خارجيته سيرجي لافروف وبين تشدد مستشاريه.

لقد استطاع هؤلاء المتشددون إقناع بوتين طوال الوقت بأن الغرب عدو وبأن على روسيا أن تحصن نفسها من الدول المحيطة بها، ومن أهم تلك الدول أوكرانيا التي تُعدّ بالنسبة للروس عقبة كأداء؛ لأن احتمال انضمامها لحلف الناتو يعني أن روسيا باتت مهددة، لا سيما أن حدودا شاسعة تقع بين البلدين، وهو مما يدفع روسيا لمطالبة الغرب بعدم ضم أوكرانيا للحلف شرطا للتوقف عن غزوها، وهو ما لم توافق عليه الولايات المتحدة ولا أوروبا.
قيام الحرب أمر ممكن، ولا نستطيع أن نجزم به، لكن يمكن أن نرجحه بنسبة 60 في المئة، إذا وقفنا على شخصية بوتين قليلا، فهو مهووس بالتلميح وبترك الباب مواربا، إضافة إلى أنه معروف بأن تصريحاته لا تؤشر عليه وعلى حقيقة تفكيره، ولا يمكن أن نتصور أن كل هذه التحركات العسكرية والحشد على الحدود مجرد تسلية أو حتى مجرد لعب على أعصاب القادة الغربيين.

وحسبما أشارت بعض المصادر فقد تعرف بوتين على هؤلاء المستشارين حين كان يعمل في وكالة المخابرات الروسية "كيه جي بي"، وهم متهمون من قبل أجهزة المخابرات الغربية بوقوفهم وراء عمليات الاغتيال والتجسس الإلكتروني والتأثير على الرأي العام المحلي والخارجي، إضافة إلى وقوفهم وراء الحرب الوحشية في سوريا، بالإضافة إلى وقوفها إلى جانب إيران، وما كان لذلك من تأثير على عزل روسيا عن محيطها الأوروبي وعن الولايات المتحدة.

إن قيام الحرب أمر ممكن، ولا نستطيع أن نجزم به، لكن يمكن أن نرجحه بنسبة 60 في المئة، إذا وقفنا على شخصية بوتين قليلا، فهو مهووس بالتلميح وبترك الباب مواربا، إضافة إلى أنه معروف بأن تصريحاته لا تؤشر عليه وعلى حقيقة تفكيره، ولا يمكن أن نتصور أن كل هذه التحركات العسكرية والحشد على الحدود مجرد تسلية أو حتى مجرد لعب على أعصاب القادة الغربيين. فربما نصحو غدا أو بعد غد على صوت المدافع وأزيز الطائرات..

رغم بلوغ بوتين السبعين من العمر إلا أنه لم يزل يفكر بمنطق الشباب المتوقد نشاطا وحركة، ويستطيع أن يحير من حوله بما يخطط له ويفكر فيه، وهو ما يحدث اليوم تماما.. بوتين الشاب المفترض في مواجهة بايدن العجوز والقارة العجوز في آن معا..

الترقب سيد الموقف، والاحتمالات تحير الحكماء والخبراء.. فماذا بعد؟!