أفكَار

بعد دولته المستحيلة.. ماذا قدم حلاق لإقامة النظام الإسلامي؟

كتاب ومفكرون عرب يناقشون أطروحات المفكر الفلسطيني حول الدولة الإسلامية

تجدد الجدل حول أطروحة البروفيسور الكندي الجنسية، الفلسطيني الأصل، وائل حلاق في "الدولة المستحيلة" بعد تصريحاته الأخيرة وحديثه عن جملة أفكاره ورؤاه بشأن الإسلام ونظامه التشريعي والأخلاقي، ونقده العميق للحداثة الغربية. 


تتمثل أطروحة حلاق في استحالة إقامة النظام الإسلامي عبر إطار الدولة الحديثة، لأسباب واعتبارات عديدة، يعود بعضها إلى طبيعة النظام الإسلامي، وآلية وطريقة تطبيقه، وبعضها الآخر إلى طبيعة الدولة كمنتج حداثي له لاهوته الخاص، والتي أحدثت ردود فعل متباينة بين مؤيد لها، ومشيد بها، وبين ناقد ومعارض لها بشدة. 

عُرف حلاق في مؤلفاته العديدة، بالدفاع عن النظام الإسلامي، بجوهره الأخلاقي الأصيل، وبنقده الشديد والقاسي للحداثة الغربية، لافتقارها للبعد الأخلاقي، لكن السؤال الجوهري الذي يرد على أطروحة حلاق القاضية باستحالة إقامة النظام من خلال نموذج الدولة الحديثة: ما هو التصور القابل للتطبيق الذي قدمه لإقامة النظام الإسلامي في الواقع الراهن.. أم أن أطروحته تقف عند نقد الموجود، ولا تبحر باتحاه تقديم تصورات ممكنة وبديلة بهذا الاتجاه؟ 

إجابة عن السؤال السابق قال الباحث والمترجم الفلسطيني، شريف محمد جابر: "لا أعتقد أن وائل حلاق قدّم أو سيقدّم تصوّرا قابلا للتطبيق لإقامة النظام الإسلامي أو "الحكم الإسلامي"، لأنّ منطلقاته مختلفة تماما عن منطلقات أي مسلم، أو منطلقات الناشطين في الحركات الإسلامية، فهو يسعى إلى إصلاح الحداثة انطلاقا من الاستفادة من قيم الشريعة وأخلاقياتها التي عاشتها الأمة الإسلامية لقرون طويلة". 

 

                       شريف محمد جابر.. مترجم فلسطيني

وأضاف: "ويستند بشكل أساسي إلى نقد مقولة "التقدم" التي تتغول على الحيز الأخلاقي فتجعل الأحدث هو الأفضل مطلقا في العلم والأخلاق وكل شيء، ويريد أن يقول للعالم ببساطة إذا أردنا إصلاح عالمنا من مأزقه الأخلاقي فهذا يحتاج منا أن نستفيد من منظومة الشريعة المختلفة والتي حملت في طياتها تفوقا على الحداثة في جوانب أخلاقية كثيرة". 

وتابع حديثه لـ"عربي21": "إلى جانب أن حلاق يفتقد إلى البعد الرسالي والأخروي الذي يتعامل مع إقامة الشريعة باعتبارها تكليفا إلهيا، وإذا أضفنا إلى كل ذلك أنه يستخدم أدوات أكاديمية وأن نقده للحداثة هو نقد أخلاقي فلسفي ندرك أنه أبعد ما يكون عن بناء رؤية تطبيقية معاصرة لكيفية إقامة الشريعة في عصرنا الحالي". 

وتعليقا على ما يقال من أن حلاق في حديثه عن النظام الإسلامي بتجلياته التاريخية يقدم تصورا مثاليا، يكاد أن يخلو من الخلل والانحرافات، رأى جابر أنه "بالفعل يركز على الجوانب الإيجابية للتطبيق التاريخي للشريعة، وإن ذكر بعض الانحرافات في هذا التطبيق، ولكن لأن غايته ـ التي يصرح بها ـ ليست تجديدية، بمعنى العودة إلى الأصول الشرعية وإلى التطبيق الراشد، بل هي استلهام التطبيق التاريخي للشريعة بهدف إصلاح الحداثة".

وواصل: "فلذلك لا أظنه مهتما كثيرا بإصلاح خطوط الانحراف عن الشريعة في التاريخ الإسلامي كالاستبداد والتغلب واغتصاب حق الأمة في اختيار من يحكمها، وتبني التوريث وإطلاق يد الأمراء في المال العام، فهو صاحب قراءة تاريخية، والشريعة عنده هي شيء مطابق للممارسة المجتمعية التاريخية لها، وهذا بسبب الأدوات الأكاديمية التي يستخدمها، وتحديدا الأنثروبولوجية". 

وتابع: "فهو يدرس التجربة الإنسانية التاريخية لنظام ما قبل حداثي بحسب تصوره اسمه "الشريعة"، وليس معنيا في أن يحكم على التجارب وتقييمها بقدر ما يتناولها باعتبارها مصدرا لمعرفة الشريعة، ولهذا أغفل تلك الانحرافات الخطيرة التي حدثت، مع وجود جانب وجيه في قراءته هذه، وهو أن كل تلك الانحرافات لم تقض على الشريعة قضاء جذريا كما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك حين حلت الدولة الحديثة المفروضة استعماريا مكان الشريعة، وبقيت ثوابت الشريعة تفرض معاييرها على المجتمعات". 

ولفت جابر الانتباه إلى أن "حلاق اهتم كثيرا بإبراز تلك الثوابت ومقارنتها مع دولة الحداثة وثوابتها المختلفة، أي أنه وبكلمات أخرى هو مهتم بالمقارنة بين فلسفتين مختلفتين أو قل عالمين مختلفين من القيم والمعايير والأخلاقيات". 

بدوره رأى الباحث الموريتاني، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر، الدكتور محمد المختار الشنقيطي أن "كثيرا من قراء وائل حلاق في العالم العربي يسيئون فهمه، إما لعدم اطلاعهم على مجمل إنتاجه الفكري، أو لعدم إدراكهم لأسلوبه الملتوي في تناول قضايا الإسلام في العصر الحديث" وفق تعبيره. 

 

                محمد المختار الشنقيطي.. أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فغاية وائل حلاق ليست التسويق لنظام حكم إسلامي، أو التمكين للتشريع الإسلامي إلى واقع، بل العكس تماما، غاية حلاق هي تثبيط المسلمين عن بذل أي جهد لاستلهام أحكام الإسلام السياسية والقانونية في العصر الحديث، وقد نجح في ذلك مع بعض الشباب ضعيفي المعرفة والاطلاع". 

وتابع: "وكتاب (الدولة المستحيلة) لحلاق ليس عملا علميا في نظري، بل هو بيان سياسي أيديولوجي، ناقض فيه حلاق كثيرا من تراثه البحثي السابق، لغايات تتعلق بحرب الأفكار ضد القوى السياسية الإسلامية، فضلا عن أن كتاب (الدولة المستحيلة) هو "أكثر الكتب عناء وأقلها غَناء" من بين كتب حلاق، إذا كان لنا أن نستعير عبارة الشيخ محمد عبد الله دراز التي وصف بها كتاب (جمع الجوامع) للسبكي، مقارنا له مع كتب أصول الفقه الأخرى".

وأبدى الشنقيطي أسفه على ما وصفه بـ"مستوى السذاجة التي يتلقى بها بعض الشباب والباحثين المسلمين اليوم خطاب وائل حلاق، وطرائقه الملتوية في تمرير موقفه الأيديولوجي والديني المتحيز ضد رسالة الإسلام، وسعيه الحثيث إلى بث روح التيئيس والتبخيس في وجه كل سعي إسلامي ـ نظري أو عملي ـ لاستلهام قيم الإسلام السياسية أو مبادئه التشريعية في الزمن المعاصر". 

وتابع: "وعلى عكس هذا التسليم الساذج دون أي حاسة نقدية، نجد مثقفين مسلمين في الأكاديميات الغربية ـ وقلة من الباحثين العرب ـ قد كشفوا زيف الظاهرة "الحلاقية" وتناقضاتها، وتحيزاتها الظاهرة والمضمرة" على حد وصفه. 

وأردف: "ومن هؤلاء الدكتور محمد فاضل والدكتور أنفر إيمون الأستاذان بجامعة تورونتو، والدكتور محمد أكرم الندوي من جامعة أكسفورد، والأستاذ أسامة الأعظمي من جامعة برينستون، وفي العالم العربي الدكتور أبو يعرب المرزوقي من تونس، والشيخ إبراهيم السكران من السعودية" متمنيا على من يرغب بقراءة تراث حلاق الاطلاع عليه بعيون مفتوحة، أو أن يطلعوا ـ على الأقل ـ على نقد هؤلاء الباحثين النابهين لحلاق، وكشفهم لزيف الظاهرة الحلاقية".

بدوره قال الباحث الأردني، أستاذ اللغة العربية بجامعة طرابزون في تركيا، معتز أبو قاسم: "يرى حلاق أن استعادة المصادر الأخلاقية الإسلامية تمثل مشروعا حداثيا بقدر الحداثة نفسها، فهو يرى بعد أن دَرَس الحضارة الإسلامية في شقها التشريعي غالبا أن الشريعة، والتي تمثل موجِّهات ومرشدات السلوك والتفكير والتقييم قد أنشأت في سلوك المسلم "أصلا أخلاقيا راسخا" خاليا من أمراض الحداثة التي ستغزو العالم الإسلامي مع بداية عصر الاستعمار".

 



وردا على سؤال "عربي21" حول البديل الذي قدمه حلاق لإقامة النظام الإسلامي، أوضح أبو قاسم: "البديل الذي يمكن أن يكون قد قدمه حلاق، هو حديث عن المعيار الذي يريد حلاق أن يستعيده المسلمون وهو المعيار الأخلاقي، فالجواب عن البديل هو حديث عن المعيار الأخلاقي كآلية ومبدأ استطاعت أن تنجزه للإنسان في خاصة إنسانيته ما لم تنجزه الحداثة له".

وتابع: "ذلك لأن الحداثة تتضمن مبدأً خطيرا جدا هو "التقدم"، ولقد تبلور هذا المفهوم من كونه آلية تجيب عن أسئلتنا وتعالج النقص فينا، وتملأ فراغات الفضول العلمي المسؤول إلى مبدأ مقدس هو "ثيولوجيا التقدم"، لقد استقل التقدم وأصبح يبرر وجوده بنفسه ولم يلجأ إلى أسئلة ولا مشاكل وضعف ليعالجه، فهو قيمة تسير بفعل مسوغاتها الذاتية، فالتقدم هو القيمة وهو الظاهرة وهو السبب وهو النتيجة، وهو الذي يجب أن تجمع عليه البشرية". 

وأردف أبو قاسم: "وهنا يتبدى لحلاق الفرق العميق بين حياة يُسيرها مبدأ أخلاقي وحياة يسيرها التقدم، فبينما أفضت أخلاقيات المسلمين إلى صناعة ذوات تقية تزكوية كنموذج يقصده الناس بقدر طاقتهم، أفضى التقدم إلى تهديد الكوكب بمن عليه من إنسان وحيوان ونبات وأصبح مستقبل الأجيال القادمة قاتما، لا يمكن التكهن بصلاحه، فقد استهلك "إنسان التقدم" ـ وما زال ـ كل ما يمكن أن يصبح موارد للاستغلال".

ولفت في ختام حديثه إلى أن "حلاق يعترف بأن الشريعة الإسلامية انطوت على تعددية وعشوائية وانتهاكات شابتها على طول تاريخها، ولكن هذه الخروقات كان يتم دائما رصدها وتدوينها كحالة خارج السياق، وحالة انحراف عن البنية النموذجية ذات البعد الأخلاقي، وتقرير حلاق لإيجابية الحكم الإسلامي هو انعكاس لوقائع مرصودة ونمط عيش كان محسوسا، وما زال محسوسا في جوانب كثيرة من حياة المسلمين".