مقالات مختارة

ذكرى اقتحام الكابيتول وأنبياء الرأسمالية الزائفون

1300x600

توقف معلقون أمريكيون كثر عند ذكرى مرور سنة على اقتحام مبنى الكابيتول، في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، يوم 6 كانون الثاني (يناير) السنة الماضية؛ وكان طبيعياً أن تتراوح الوقفات تلك بين رأي ليبرالي وآخر محافظ وثالث على يمين الطرفَين، مع ندرة (ليست البتة مفاجئة) للرأي الرابع الذي يتوغل عميقاً في دلالات الواقعة التي تتجاوز حدودها السياقية، أي الاعتراض على فوز جو بايدن وخسارة دونالد ترامب.

 

في ظنّ هذه السطور، كانت قراءات ذلك الفريق الذي اعتاد مديح موقع الولايات المتحدة الكوني في أدوار مثل "شرطيّ العالم الحرّ" و"حارس الديمقراطية" و"القوّة الأعظم" للنظام الرأسمالي؛ ولكنه اعتاد، في الآن ذاته، على هجاء هذا الطور أو ذاك من أطوار القصور عن أداء تلك الواجبات، خاصة في ميدان توطيد الإيديولوجيا المحافظة وما يقترن بها أو ينبثق عنها من عقائد في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة.


نموذج هذه السطور على تلك الفئة هو المعلّق والمذيع والكاتب السياسي والعضو الأسبق في مجلس النواب الأمريكي جو سكاربرو، الذي وقّع حتى الساعة أربعة مؤلفات في مديح و/ أو هجاء التيارات المحافظة في التاريخ الأمريكي الحديث والمعاصر؛ لعلّ أكثرها إلحاحاً على البال كتابه الأوّل، بسبب من الطول الماراثوني لعنوانه بادئ ذي بدء: "لم تحترق روما في يوم واحد: الصفقة الحقيقية حول كيفية قيام ساسة وبيروقراطيين وبرابرة آخرين في واشنطن بدفع أمريكا إلى الإفلاس" 2005. كتابه الثاني، 2009، جاء تحت عنوان "أفضل أمل أخير: إحياء النزعة المحافظة ووعد أمريكا"؛ والثالث صدر في سنة 2013 ولم يغادر مزيج المديح/ الهجاء المعتاد: "الدرب الصائب: من آيك [دوايت آيزنهاور] إلى ريغان وكيف تملّك الجمهوريون السياسة ذات يوم"؛ والكتاب الأخير ذهب إلى خلاصات "انتصار" أمريكا خلال مطالع الحرب الباردة، على يد هاري ترومان و"خطة مارشال" التي أنقذت أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.


القصد من هذا العرض لعناوين مؤلفات الرجل، وهو هنا يؤخذ بصفته النموذج على فريق طويل عريض إلى جانب أصالته عن نفسه، هو وضع القارئ في الخلفية السياسية والتاريخية والفكرية لإطلالته، قبل أيام في الـ"واشنطن بوست" على ذكرى السنة الأولى لاقتحام مبنى الكابيتول؛ والتي حملت العنوان غير البعيد البتة عن الإثارة المسبقة: "الأنبياء الزائفون الذين أوحوا بعنف 6 يناير" لأنهم في يقينه أجدر بالتأمّل من المشاغبين مقتحمي المبنى أنفسهم.

 

لائحة الأنبياء الزائفين أولئك تبدأ من بيل غراهام، الواعظ الإنجيلي المعمداني الذي تسيّد أربعينيات القرن الماضي، في أمريكا والكون المسيحي بأسره، وعُدّ "الزعيم المسيحي الأكثر تأثيراً على امتداد القرن العشرين"؛ وكيف كانت حملاته الصليبية تستغفل عقل جدّة سكاربرو، فتتبرّع له بقسط عزيز من معوناتها الاجتماعية القليلة خلال عقود الركود القاسية. ختام اللائحة، أو محرّكها الأبرز، ليس المشاغب الأوّل ترامب نفسه هنا أيضاً، بل أمثال الملياردير روبرت مردوخ، إمبراطور وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة، مالك "فوكس نيوز" و"وول ستريت جورنال" وعشرات المنابر الصحافية ودور النشر المحلية والعالمية في بريطانيا وأمريكا وأستراليا.


والمشاغبون "الذين ضربوا رجال الشرطة بأعلام أمريكية يتوجب أن يتلقوا أحكام سجن طويلة" يكتب سكاربورو، ولكنّ "الدرس الأكثر أهمية من وراء ذلك اليوم المأساوي يمكن أن يأتي من تفكيك كيفية نجاح ثلّة الأثرياء (البلوتوقراط) وصبيان الاحتكارات في نشر حملات الدعاية التي دفعت أولئك الرعاع المتعطشين للدماء إلى سلالم الكابيتول". وللمرء أن يدهش هنا، كثيراً في الواقع، إزاء تساؤل يبدو بريئاً تماماً، أو حتى ساذجاً، ولكنه يصدر عمّن كان بها خبيراً وعارفاً، بل مشاركاً على هذا النحو السلبي أو ذاك الإيجابي؛ إذْ هل يعقل أن تتملك الحيرة رجلاً مثل سكاربورو حيال معرفة "الكيفية" أو إحصاء الكيفيات الكثيرة التي يمكن أن تُنسب إلى جمهرة الأنبياء الزائفين، أو إلى أيّ منهم على حدة؟


ما يتجاهله سكاربورو، عن سابق قصد وتصميم، هو أنّ الأنبياء الزائفين الذين يمعن في هجائهم هم أنفسهم أنبياء النظام الرأسمالي المعاصر، وتحديداً في أمريكا حيث مركزه الكوني الأكبر والأقوى
ألا يعترف، في مقاله الجديد هذا، أنّ الواعظ غراهام الذي استغلّ إنجيل يسوع المسيح ليستغفل العقول، هو قدوة المعاصرين من الأنبياء الزائفين أصحاب المليارات؛ ممّن استغفلوا عقول الرعاع بأفكار مثل تآمر مكتب التحقيقات الفدرالي على "الوطنيين" الشرفاء، أو أنّ "الدولة العميقة" لفّقت واقعة اقتحام الكابيتول لتجرّد المواطنين الشرفاء أنفسهم من حقوقهم الدستورية؟


لا غرابة، في نهاية المطاف، لأنّ سكاربورو ينزّه النظام الأمريكي، على اصعدة مؤسساته كافة، من "هستيريا" الشغب التي يزرعها الأنبياء الزائفون في النفوس، وكأنّ الزارع ليس ابن المؤسسة والنظام، أو ليس أحد أعمدته الكبرى في ميادين المال والأعمال؛ أو، استطراداً، كأنّ هذه الميادين تحديداً ليست ركائز النظام وضامنة سطوته، بل وجوده أيضاً. فهو يأخذ على المشاغبين أنهم يكرهون الولايات المتحدة ويستهدفون أبطال الجيش ويحقّرون أجهزة الاستخبارات وينكرون النظام الانتخابي الديمقراطي، ممّا يجعل فلاديمير بوتين "يتورّد زهواً" أمام بذور الحقد على أمريكا التي تُزرع في أرض الكابيتول! المرء يخال، إذا انتهج حسن النيّة ثانية واحدة، أنّ سكاربورو يتحدث عن أمريكي مشاغب لا علاقة له بأمريكا، ولم يولد فيها، ولم يعتنق مبادئها، ولم يرفع علمها، ولم يستلهم أنبياءها الزائفين إياهم…


وما يتجاهله سكاربورو، عن سابق قصد وتصميم، هو أنّ الأنبياء الزائفين الذين يمعن في هجائهم هم أنفسهم أنبياء النظام الرأسمالي المعاصر، وتحديداً في أمريكا حيث مركزها الكوني الأكبر والأقوى، وما شهده الكابيتول ليس أكثر من حلقة واحدة اختتمت رئاسة ترامب من دون أن تختتم طبعته الشخصية من النظام الرأسمالي؛ ولم تسجّل أنها الحلقة الأخيرة، فما خفي في مستقبل النظام ومركزه الأمريكي قد يكون أدهى بكثير من واقعة اقتحام رمز الديمقراطية الأمريكية، وقد يبلغ هذه المرّة شأو تقويض المزيد من الأعمدة التي يتباكى عليها سكاربورو.

 

الجذور الأخرى لما شهده مبنى الكابيتول، أو بالأحرى ما سجّله أصلاً فوز ترامب بالرئاسة، ليس أقلّ من تلك "الإيديولوجيا الشائهة التي تستند إليها أصولية اقتصاد السوق" كما يعبّر الاقتصادي الآسيوي البارز هنري ليو؛ الذي لا يكتفي بالحديث عن أنظمة اقتصاد "سوبر ـ رأسمالية" و"سوبر ـ إمبريالية" بل يرصد انحطاط هذه الأنظمة إلى "إمبريالية مالية" عملاقة أخذت تأكل نفسها في غمرة اندفاعها إلى التهام الآخرين.


وخلال الأزمة التي عصفت بالاقتصاد اليوناني، سنة 2010، اتضح أنّ مجموعة "غولدمان ساكس" الممثلة لنفر من أنبياء الزيف إذا اقتفى المرء منطق سكاربورو، تواطأت مع عدد من بيوتات المال الكبرى في أمريكا وصنعت تلك الأزمة؛ وعلى نقيض المبدأ الشهير "دعه يمرّ، دعه يعمل" بوصفه أحد أكثر أقانيم اقتصاد السوق قدسية وعراقة، كانت المجموعة تعتمد مبدأ النقيض: "لا تدعه يعمل، إلا إذا مرّ من هنا" أي من تعاملات الزبائن مع مصارف المجموعة.

 

وذات يوم غير بعيد جمع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما رهطاً من كبار مدراء المصارف الأمريكية (وبينهم، بالطبع، ملاّك "غولدمان ساكس" و"جي بي مورغان") وناشدهم أن يقبلوا بما ينوي القيام به من إصلاحات لمعالجة تأزّم المصارف الأمريكية؛ فأطلق عبارته الشهيرة التي ألمحت إلى صدام بيوتات المال والشارع العريض: "لا يوجد خطّ فاصل بين وول ستريت وماين ستريت. إما أن ننهض أو نسقط، كأمّة واحدة".


الأمر الذي دحضه تاريخ أمريكا اللاحق، بدليل أنّ أمثال سكاربورو يتحدثون اليوم عن أمّتين: واحدة تقتحم الكابيتول، وأخرى تتعبّد للحلم الأمريكي!