كتب

شرق آسيا نموذجا للخروج من الجمود السياسي ونبذ الإرهاب

يرى محمد جابر الأنصاري أن طرح المفهوم "المدني" للدولة خيار أنسب من المفهوم "العلماني"

الكتاب: "الملاكمون هل كانوا مسلمين؟ نظرة بحثية في ظاهرة إرهاب غير مسلمة"
المؤلف: محمد جابر الأنصاري
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021


الإرهاب، والديمقراطية، والثقافة، عناوين رئيسية يناقش من خلالها أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، الباحث والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، إشكاليات كثيرة تعيشها مجتمعاتنا العربية ويبحث في احتمالات تفكيكها وتجاوزها، عبر مجموعة من المقالات كتبها في فترات مختلفة وجمعها في كتابه هذا موضوع العرض موزعة على أربعة فصول.

يبدأ الأنصاري الفصل الأول بتقديم رؤية للإرهاب خارج نطاق المواجهة بين الإسلام والغرب تحت عنوان "من الصين إلى أمريكا نظرات في الإرهاب وتأملات في الظاهرة الصينية" معتبرا أن نهج الدراسات المقارنة مع التجارب الشرقية الآسيوية يمكن أن يلقي إضاءات على أبعاد عدة في التأزم العربي الراهن، كتعثر مشروعات الوحدة العربية مقارنة بما حدث للصين في مئة عام من التجزئة، إضافة إلى ظاهرة الإرهاب العامة التي عانت منها المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، وقد تساعد في تصحيح عدد من الانطباعات الخاطئة، لدى الدوائر الغربية بالذات، من ربط الإرهاب بالطبيعة العربية وبالإسلام، كما يمكن أن يساهم في تنوير السلطات العربية ذاتها بأن الجمود السياسي الذي أصرت عليه السلطات الآسيوية التقليدية في بلدانها حينذاك، كان من أهم المبررات التي استغلتها منظمات الإرهابيين هناك لتبرير أعمالها غير المبررة، وأعطت من ناحية أخرى ذريعة للقوى الأجنبية الطامعة للتدخل والاحتلال بحجة عجز السلطات المحلية عن حماية أرواح الأجانب ومصالح تلك الدول من اعتداءات أولئك الإرهابيين، بحسب ما يقول الأنصاري.

بذور الإرهاب

قبل نحو مئة سنة شهدت "مملكة السماء الوسطى"، كما سماها أهلها وهي الصين التي نعرفها اليوم، عنفا وإرهابا كبيرين، وهي التي تستند إلى حضارة إنسانية عريقة كانت منهلا لجوارها الآسيوي وخاصة اليابان وفيتنام وكوريا، كما كان لها مع الحضارتين الإسلامية والهندية علاقات عميقة وتفاعلا كبيرا. غير أن هذه الدولة العظيمة أصابها الجمود في قرونها المتأخرة، وتراجعت أمام الغرب الزاحف بحضارته واستعماره معا. فاقتربت من بحارها الأساطيل الأوروبية، وخاض الإنجليز ضدها في مينائها الحيوي هونغ كونغ "حرب الأفيون" سنة 1839، فارضين تجارة المخدرات على شعبها. 

يقول الأنصاري: "كان واضحا أن العقل الصيني في تلك اللحظة التاريخية لم يميز بين الغرب كحضارة والغرب كاستعمار،.. حيث تهاوت ثقة الصين بنفسها، فهبت عناصر من شعبها بانفعال وجهالة لرد التحدي الغربي معتمدة على تنظيماتها الخاصة التي انتهت إلى عنف دموي ضد الآخر ولم تجلب في النهاية سوى الاحتلال الأجنبي إلى قلب العاصمة الصينية. ومن أبرز تلك التنظيمات كان تنظيم "الملاكمون" الذين تظاهروا بممارسة نشاط رياضي لكنهم في الحقيقة اختاروه لأنه الأقرب إلى التدريبات العسكرية، ومع حصولهم على السلاح انقضوا على كل أجنبي أو مبشر مسيحي أو حتى صيني اعتنق المسيحية وصلت إليه أيديهم على الأرض الصينية". 

 

 

"من بؤس الإدراك التاريخي إلى بؤس الانفعال بالواقع.. نتمنى سقوط الغرب فإذا به يجدد نفسه.. نهجو العولمة لكنها تنتشر لصالح من يملك أسرارها العلمية.. يؤكد لنا خبراؤنا العسكريون أن بغداد يستحيل أن تسقط أمام الغزو الأمريكي فإذا بنا أمام النبأ الحزين بعد أقل من ثلاثة أسابيع..".

 

 



استطاع هؤلاء "الملاكمون" حشد ما يقارب نصف المليون مقاتل في زحفهم نحو بكين، وانضمت إليهم قطعان من الجيش الإمبراطوري، ونالوا التشجيع المبطن من العديد من مسؤولي الدولة الصينية، وعلى الرغم من أن حركتهم أصلا كانت تتعاطف مع الفلاحين والفقراء وتسعى إلى اسقاط النظام الإمبراطوري ومقاومة امتيازات الأجانب وإبعادهم، إلا أن الحركة وقعت في مرحلة المواجهة الأخيرة تحت هيمنة العناصر الرجعية من الحرس القديم في النظام الامبراطوري، الأمر الذي أدى استخدامها وقودا في صراعات السلطة والمحاولات المخففة لمقاومة النفوذ الأجنبي بأساليب تؤدي إلى عكس المنتظر منها، ما دفع حكام المقاطعات خاصة في الجنوب الصيني المتطور إلى مكافحة "إرهاب" الملاكمين. 

يؤكد الأنصاري إن أطماع الدول الغربية كانت قائمة بدون شك منذ أمد لكن "إرهاب" الملاكمين وعجز السلطة المركزية التقليدية عن ضبط الأوضاع أعطى المبرر لتلك الدول لاحتلال بكين، وفي الوقت نفسه فإنه لا يمكن تبرئة هذه الدول من بذر بذور الإرهاب في التربة الصينية. 

ويشير إلى أن الصين لم تخرج من حالة الانهيار والضياع التي سيطرت عليها نحو وحدتها القومية وبناء نفسها من جديد إلا بالاعتراف الذاتي بعجزها وتخلفها والانفتاح على علوم العصر وأفكاره وتجاربه في التنظيم والتحديث والتعامل المدروس مع العالم كله. ويرى الأنصاري أن ما حدث للصين خلال مئة عام من مهانة وتجزئة ثم نهوض وانطلاق فيه الكثير من العزاء للعرب في هذه اللحظة العصيبة من حياتهم، فمن جهة تثبت هذه الأحداث أن الإرهاب لا جنسية ولا دين له، وهو ناتج عن اختلال في التكيف مع حركة التاريخ وعجز العقل السياسي للأمة عن العمل، ومن جهة أخرى فهو يعطي إشارة للعرب بإمكانية تخطي حالة الضياع شرط الأخذ بأسباب النهوض.

الدولة المدنية

في فصل آخر من الكتاب يبحث الأنصاري في احتمالات التقريب أو المواجهة بين المحافظين والمجددين في العالم العربي. يشير ابتداء في مقالة تحت عنوان "في ميزان الإسلام لا يطغى دين على دولة" إلى أن الموقف الفكري الخاطىء الذي وقفته أيديولوجيات الخمسينات من الإسلام بالفصل التام بينه وبين الحياة وحصره في أضيق نطاق، قد دفع التيارات الفكرية الدينية المحدثة إلى اتخاذ موقف أشد خطأ بتأكيدها المغالي على الشمولية في الإسلام، بما يجعل منه نظاما شموليا وفكرا شموليا هو براء منه. 

يقول: "ليس في الإسلام شمولية اعتباطية لا تفرق بين مظهر وجوهر وبين شهادة وغيب وبين دنيا وآخرة... عندما وضع النبي صحيفة المدينة التي تمثل أول دستور في الإسلام لم يزايد عليه أحد بالقول "القرآن دستورنا" .. كان تمييزه واضحا عليه السلام بين المجتمع الديني والمجتمع السياسي، وذكر في الصحيفة عناصر من غير المسلمين اعتبرهم أمة مع المسلمين بالمعنى السياسي والتضامني وليس الديني.. إن صحيفة المدينة وثيقة نبوية هامة تتعرض للتعتيم والإغفال لدى أوساط كثيرة لأنها تضمنت بوضوح هذا التمييز الحاسم بين الديني والسياسي في الإسلام على يد نبيه الكريم في أول تجاربه السياسية".

 

 

في الحديث عن الديمقراطية يشدد الأنصاري على أن أي شعب من الشعوب الساعين إليها لا يمكنه الوصول إليها بقفزة سحرية، فهي ابتداء تحتاج مناخا خاصا يمكن لها فيه أن تنمو وتتطور، ولا يمكن من أجل تحققها في مجتمع ما الاعتماد على دعم القوى الخارجية لها لأن هذا الخارج متأرجح في مواقفه وبحسب ما تقتضي مصالحه التي قد تتعارض أحيانا مع وجودها.

 

 



يرى الأنصاري أن طرح المفهوم"المدني" للدولة خيار أنسب من المفهوم "العلماني" الذي لا يمكن الدعوة إليه في مجتمع غالبيته من المسلمين، فهو مقتبس من تجارب أخرى ذات ثقافات وحضارات مغايرة، ولا بد من دراسته وتفكيكه ونقده من دون الدعوة إليه تحديدا. وفي هذا السياق يلفت الأنصاري إلى التجربة اليابانية و"ما انطوت عليه من تعايش حقيقي وطبيعي بين الثوابت العميقة وبين مستلزمات التقدم الحضاري والعلم.. لقد كان رجل النهضة الياباني "سلفيا" بالمقاييس اليابانية في ما يجب أن يبقى محافظا عليه، وفي الوقت ذاته "تقدميا" وحداثويا" في ما لا مفر من استيعابه من لوازم التقدم ونظمه".

أمر آخر مكّن اليابانيين من المواءمة بين تقدميتهم وسلفيتهم هو عدم خلطهم بين النظر إلى الغرب كقوة استعمارية والنظر إليه كقوة حضارية متقدمة، وهو خلط طغى على رؤية العرب والمسلمين إلى هذا الغرب، بحسب الأنصاري.

واحدة من معيقات النهوض أيضا النظرة الرومانسية التي ينظر بها العرب إلى تاريخهم، والتي يجد الأنصاري فيها تزييفا للوعي التاريخي لدى الجماعة فضلا عن أنها تؤدي بشكل كارثي إلى الخلل في تعاملها مع واقع العالم ووقائعه. يقول: "من بؤس الإدراك التاريخي إلى بؤس الانفعال بالواقع.. نتمنى سقوط الغرب فإذا به يجدد نفسه.. نهجو العولمة لكنها تنتشر لصالح من يملك أسرارها العلمية.. يؤكد لنا خبراؤنا العسكريون أن بغداد يستحيل أن تسقط أمام الغزو الأمريكي فإذا بنا أمام النبأ الحزين بعد أقل من ثلاثة أسابيع..".

في الحديث عن الديمقراطية يشدد الأنصاري على أن أي شعب من الشعوب الساعين إليها لا يمكنه الوصول إليها بقفزة سحرية، فهي ابتداء تحتاج مناخا خاصا يمكن لها فيه أن تنمو وتتطور، ولا يمكن من أجل تحققها في مجتمع ما الاعتماد على دعم القوى الخارجية لها لأن هذا الخارج متأرجح في مواقفه وبحسب ما تقتضي مصالحه التي قد تتعارض أحيانا مع وجودها. لافتا في الوقت نفسه إلى أن النظام الديمقراطي بحد ذاته ليس مثاليا لكن كل حكم آخر بديل يشمل من السوءات أكثر مما تشمله الديمقراطية، لذلك فإن المحافظة على فاعليتها تستدعي اليقظة والعمل الدؤوب على تجنب سلبياتها والتمسك بمكتسباتها.

من وجهة نظر الأنصاري فإن مجتمعات العالم الثالث، بحسب تعبيره، التي تريد الديمقراطية عليها أن توفر عددا من الشروط اللازمة لتبنيها مثل التنمية الاقتصادية، وقوى مجتمع مدني ناضجة، وتقوية الدولة الحاضنة للنظام الديمقراطي، وهو في هذا السياق يرى أن ظهور "قائد تاريخي" حريص على تنمية الديمقراطية يعد سببا من أسباب نجاحها.