صحافة دولية

نيويوركر: تعرّف إلى اللحظة المصيرية في حياة كولن باول

توفي باول قبل أيام متأثرا بمضاعفات فيروس كورونا- جيتي

نشرت صحيفة "نيويوركر "مقالا للصحفي دكستر فيلكينز، قال فيه إن هناك مفارقة رهيبة في حياة كولن باول، الذي توفي يوم الاثنين، وهي أن أهم لحظة في حياته المهنية لم تأت عندما قاد القوات تحت النار في فيتنام، أو عندما أدار الطرد الناجح للجيش العراقي من الكويت عام 1991، أو عندما أصبح أول مستشار للأمن القومي ووزير خارجية أمريكي من أصل أفريقي.

 

وتاليا ترجمة المقال:
جاءت تلك اللحظة على منصة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في عام 2003، عندما طرح باول، الذي كان حينها وزير الخارجية، قضية غزو العراق، بناء على استنتاج مفاده أن صدام حسين كان يمتلك أسلحة نووية، وبيولوجية، وأسلحة كيماوية، وبالتالي كان لا بد من الإطاحة به بالقوة. الصورة الدائمة من تلك اللحظة هي عندما وقف باول يحمل قنينة صغيرة فيها مسحوق أبيض، والذي كان يمثل ما كان من المفترض أن يكون مسحوق الجمرة الخبيثة الذي يملكه صدام، ورهن سمعته المحترمة ومصداقية الحكومة الأمريكية، وأخبر العالم أنه ليس لدى أمريكا خيار سوى الذهاب إلى الحرب. وقال باول لمجلس الأمن: "زملائي، كل بيان أدلي به اليوم تدعمه مصادر ومصادر قوية.. ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات تستند إلى معلومات استخبارية قوية".


بالطبع، عندما اكتشفت البلاد بشكل مؤلم خلال الأشهر العديدة التالية، لم تكن الأسلحة الخارقة التي يُزعم أن صدام كان يملكها أكثر واقعية من سراب الصحراء، واتضح أن "المعلومات الاستخبارية القوية" التي قدمها باول في ذلك اليوم كانت في الغالب تخمينا وافتراضا، بناء على التقارير المعاد تدويرها من المنشقين العراقيين، الذين لديهم دوافع خاصة بهم.

 

تبين أن أسلحة الدمار الشامل لم تكن موجودة هناك، ولكن كان هناك 165 ألف جندي أمريكي، وأدى الاحتلال الكارثي للعراق الذي أعقب ذلك إلى نهاية مخزية للحظة فريدة من الهيمنة الأمريكية والهيبة العالمية، والتي كان باول فعل الكثير لتحقيق ذلك.


كانت المأساة شخصية أيضا؛ حيث يمكن القول إن باول كان أشهر جندي في أمريكا، والذي بدا وكأنه تعلم درسه الرئيسي من النجاة في فيتنام والمساعدة في إعادة بناء جيش أمريكا المحطم، وهو تجنب احتلال بلد أجنبي بأي ثمن، والذهاب إلى الحرب فقط عندما يكون ذلك أمرا لا مفر منه تماما. واعتبرت عقيدة باول، كما أصبحت تعرف، أنه عندما تفرض الحرب على أمريكا، لن تفعل ذلك إلا بقوة عسكرية ساحقة كافية لتدمير العدو، وإنهاء العمليات القتالية بسرعة: لا تكرار لحرب فيتنام.

 

اقرأ أيضا: ذي إنترسيبت: يجب ألا ننسى دور كولن باول في تدمير العراق

 

لخص باول نظرته العسكرية للعالم في بداية حرب الخليج، في عام 1991، عندما وصف ما كان يخطط لفعله بجيش صدام في الكويت: "أولا سنقطعه [بقطع خطوط الإمداد]، ثم نقوم بقتله"، وهو ما فعله. إنها مفارقة قاسية في مسيرة باول المهنية، أنه وظف المصداقية التي جناها  لعودة أمريكا الخاطئة إلى العراق بعد ذلك بعشر سنوات.


ماذا حدث في ذلك اليوم في الأمم المتحدة؟ لم يتحدث باول عن ذلك كثيرا، لكن صديقه والمقرب منه  لورانس ويلكرسون فعل ذلك.

 

في مقابلة خلال ذروة حرب العراق، في عام 2006، أخبرني ويلكرسون، الذي كان رئيس أركان باول، أن باول كان متشككا بشدة في جهود إدارة جورج بوش الابن لدفع البلاد إلى الحرب، وأنه عندما تم اللجوء إليه لإقناع الأمم المتحدة بالغزو ، أصر على فحص الأدلة بنفسه. في الفترة التي سبقت العرض في نيويورك، اجتمع باول وويلكرسون مع اثنين من كبار مسؤولي المخابرات في البلاد في المقر الرئيسي لوكالة المخابرات المركزية -مدير الوكالة، جورج تينيت، ونائبه، جون ماكلولين- لمراجعة الأدلة على امتلاك صدام لأسلحة دمار شامل.

 

قضى الرجال الأربعة عدة أيام في مكتب تينيت، حيث كان ويلكرسون، قائد فصيلة سابق في فيتنام، ينام على أريكة المكتب. في نهاية الجلسة، خرج باول وويلكرسون واثقين بدرجة كافية من أن الحجة لصالح الحرب قوية. قال لي ويلكرسون: "كان لدينا ثلاثة أو أربعة مصادر لكل عنصر كان جوهريا في العرض [الذي قدمه باول في الأمم المتحدة]".


قال ويلكرسون إن ما علمه باول لاحقا هو أن المصادر المستقلة "الثلاثة أو الأربعة" للاستخبارات غالبا ما تبين، في كثير من الحالات، أنها مصدر واحد فقط، مصدر تم إحضاره إلى وكالات الاستخبارات الأمريكية أو أحد حلفائها عن طريق المؤتمر الوطني العراقي، المنظمة المعارضة برئاسة أحمد الجلبي، المنفى العراقي الذي نال ثقة كبار المسؤولين في إدارة بوش، وأقنعهم بضرورة تدمير نظام صدام.

 

اكتشف باول أن قصة أحد المنشقين الذين يرعاهم المؤتمر الوطني العراقي، والذي يحمل الاسم الرمزي "Curveball"، تم جعلها تبدو كأنها جاءت من مصادر متعددة. كما قال ويلكرسون: "الكثير من هذه المصادر نوعا ما مختلط ومندمج مرة أخرى في مصدر واحد، ويبدو أن هذا المصدر الفردي كان إما بتوصية من أو تم الترتيب له أو تنسيقه أو تقديمه بواسطة شخص ما في المؤتمر الوطني العراقي".


يجب أن يقال إنه من غير المعقول تحقيق مثل هذا التنسيق إلا بمساعدة كبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية، في البيت الأبيض ووكالات الاستخبارات وأماكن أخرى. أخبرني ويلكرسون أنه يشتبه في أن تينيت وماكلولين قد تلقيا تحذيرات من الحلفاء الألمان من الأخذ بالمعلومات الاستخبارية المهتزة، لكنهم استخدموها على أي حال، دون تحذير باول. نحن نعلم، في الواقع، أن تينيت كان تحت ضغط هائل من البيت الأبيض، حيث يبدو أن الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني قد اتخذوا قراراتهم بشأن غزو العراق، للتوصل إلى رواية قوية لتبرير القرار علنا.


بعبارة أخرى، تم استخدام باول. لقد قام بوش وتشيني ودونالد رامسفيلد، الذي كان آنذاك وزيرا للدفاع، وبسخرية تجنيد باول ومصداقيته الهائلة لتقديم الحجج الواهية، والخاطئة في نهاية المطاف، للحرب. كما روى باول لأحد مساعديه، وفقا لروبرت دريبر، مؤلف كتاب "لبدء الحرب: كيف أدخلت إدارة بوش أمريكا إلى العراق"، قال له تشيني: "أنت الرجل الأكثر شعبية في أمريكا، افعل شيئا بهذه الشعبية".


وهذا ما فعله باول. يوضح درابر أن باول ساورته الشكوك حول غزو العراق منذ البداية. كان يمكن لباول أن يستقيل قبل غزو آذار/ مارس 2003. لو كان قد فعل ذلك، لكان من شبه المؤكد أنه أخر الغزو، أو أحبطه بالكامل. ولكن، في القرار الأكثر مصيرية في حياته المهنية، اختار باول أن يظل كما كان يطمح دائما أن يكون: الجندي الصالح.

 

للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)