صحافة دولية

FP: الجزائر بحاجة لحرب تحرير جديدة وهذه المرة من حكامها

بحلول عام 2019 كانت الجزائر تعاني من عجز في الميزانية وبات احتياطها من العملة الأجنبية يتراجع- جيتي

نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا لللكاتب فرنسيسكو سيرانو قال فيه؛ إن سنوات الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة تركت البلاد في حالة يرثى لها.

 

وتحول بوتفليقة بسبب تغيبه المتكرر عن المشهد العام ومرضه الطويل لموضوع شائعات ونكات. ولهذا عندما أعلن عن وفاته في 17 أيلول/سبتمبر 2021 عن عمر 84 عاما، بدأت معظم الوسائل الإعلامية نعيها وحديثها عن مسيرة الرئيس الراحل بالتذكير بأن الوفاة هذه المرة حقيقية. 


وأضاف أن بوتفليقة الذي حكم الجزائر 20 عاما قبل أن يجبر على التنحي عبر حركة احتجاج شعبي عام 2019 بلدا في حالة من الفوضى. مع أنه يجب عدم نسبة كل مشاكل الجزائر إليه، ولكنه كان موجودا هناك منذ البداية، عندما تحول مصير أمة استقلت حديثا وناشطة، إلى دولة عسكرية مستبدة. 

 

وبعد نصف قرن، عندما أدار الدولة، لم تكن الحكومات المتعاقبة قادرة على تحويل الثروة النفطية الجزائرية إلى ازدهار. وكان بوتفليقة طوال مسيرته السياسية نتاجا للنظام الحاكم ومصدرا لفشلها. 


ومثلت حكومة بوتفليقة البائسة، الضربة الأخيرة لما تبقى من الشرعية التي زعم النظام الجزائري الغامض أنه يملكها. ومنذ سقوط بوتفليقة من عل، قبل عامين، لم يستطع حكام البلد إنشاء مظهر الاستقرار الذي اعتمدوا عليه في العقود الماضية لتقديم صورة عن حكم قوي. 


وفي الوقت الذي خرج فيه الجيل الجزائري الجديد إلى الشوارع، متسائلا وبطريقة غير مسبوقة عن حيوية الوضع الراهن وشرعيته، اتضح شيء واحد عن مستقبل البلد: كان فشل عهد بوتفليقة هو الذي أوصلهم إلى الوضع الذي يعيشونه اليوم. 


ففي 1956 انضم بوتفليقة الشاب، لم يتجاوز عمره الـ 19 عاما، إلى جيش التحرير الوطني، وهو الذراع العسكرية لجبهة التحرير الوطني (فلان)، التي قاتلت ضد الاستعمار الفرنسي.

 

وسواء أطلق بوتفليقة رصاصة واحدة أم لم يطلق، فهذا متنازع عليه، إلا أن بدايته المبكرة مرتبطة بهواري بومدين، الذي قاد قوات جيش التحرير الوطني في الخارج، التي كانت في المغرب وتونس، ووضع بوتفليقة تحت جناحه.

 

وبعد الاستقلال عام 1962، دخلت قوات بومدين الجزائر ودعمت أحمد بن بله، أحد قادة الفلان ليصبح أول رئيس بعد الاستقلال.

 

وكانت هذه اللحظة التأسيسية لنظام غير ليبرالي، لحظة أدت لتصفية معظم الرموز التاريخية لحركة الاستقلال وإنشاء نظام الحزب الواحد بقيادة جبهة التحرير الوطني. فالأمة التي تحررت من الاستعمار دخلت مباشرة تحت حكم عسكري.

 

وكان بوتفليقة من لحظة البداية جزءا من هذا. وفي سن الـ 25 عاما أصبح بوتفليقة وزيرا للشباب في حكومة بن بله، وبعد عام أصبح وزيرا للخارجية. 

 

وفي عام 1965 وعندما كان بومدين نائبا للرئيس تحرك ضد بن بله في انقلاب عسكري اعتمد فيه على دعم بوتفليقة والمخابرات.


وظل بوتفليقة وزيرا للخارجية مدة 16 عاما، وحتى عام 1979. وعمل في هذه الفترة على تعزيز مكانة الجزائر كزعيمة لحركة دول عدم الانحياز.

 

وتحولت الجزائر في فترة الستينيات والسبعينيات إلى مركز للثوريين ومقاتلي الحرية من كل أنحاء، العالم وقدمت نفسها كدعامة في عملية الكفاح ضد الاستعمار.

 

وفي الحقيقة كان هناك نظام ديكتاتوري حكمه رجال انتظر معظمهم في الخارج بعيدا عن الحرب، وتخلوا عن أي التزام للتشاركية السياسية، واستولوا على السلطة بعد عودتهم. 


وبعد وفاة بومدين في 1978، كان بوتفليقة مرشحا لخلافته، لكن الجيش قرر تعيين مرشح آخر، هو العقيد شاذلي بن جديد. وبحلول عام 1981 تم تجاوز بوتفليقة في الترفيعات، واتهم باختلاس ملايين الدولارات في أثناء عمله كوزير للخارجية.

 

وتجنبا لأي تداعيات، غادر الجزائر وأقام عدة سنوات في المنفى بالإمارات العربية المتحدة وفرنسا وسويسرا. 

 

اقرأ أيضا: السجن سنتين مع النفاذ لشقيق الرئيس الراحل بوتفليقة

وعند عودته للجزائر مرة ثانية، كان نظام الحزب الواحد في حالة تصدع بسبب الأزمة الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية في نهاية الثمانينيات.

 

وردا على الوضع، سمح الجنرالات في الحكم بقية الأحزاب للتنافس ضد فلان، ولخلق مظهر من مظاهر التعددية السياسية. وفي الحقيقة ظلوا يتحكمون بخيوط اللعبة.

 

لكن الإسلاميين نظموا أنفسهم تحت قيادة جبهة الإنقاذ الإسلامي "فيس" في محاولة منهم للوصول إلى السلطة. وبعد نتائج جيدة في الانتخابات المحلية عام 1990 بدا من الواضح أن الجبهة ستفوز في الانتخابات البرلمانية عام 1991، ولهذا قرر الجنرالات خوفا من حصول هذا السيناريو إلغاء الانتخابات، مما أدخل البلاد في دوامة حرب بين الدولة والجماعات المسلحة المتشددة. وخلال عقد من الحرب الأهلية قتل ما بين 150.000- 200.000 جزائري، واختفى الآلاف في سجون الدولة. 

 

ومع خفوت الحرب، بدأ الجنرالات بالبحث عن رئيس لديه القدرة على استعادة الشرعية من حرب التحرير الوطنية، ومقبول من الفصائل الأخرى داخل النظام الحاكم.

 

ووجدوا هذا الرئيس في بوتفليقة. وانتخب عام 1999 بعدما انسحب المرشحون المنافسون وسط اتهامات بالتزوير الانتخابي. وكانت حيلة معروفة مارستها "السلطة" منذ الاستقلال- وهي مجموعة غامضة من الجنرالات في الجيش ورؤساء المخابرات والساسة الذين شاخوا، وانتخبوا كل رئيس للجزائر. وفي دولة مركزية سمحوا للجيش بتعزيز حكمه.


 لكن بوتفليقة كان يهدف لأمر آخر وقال: "لا أريد أن أكون ثلاثة أرباع رئيس" قبل أن يؤمن المنصب. وكرئيس مدح بوتفليقة لعقده اتفاق وقف إطلاق النار بين الجيش وجماعات التمرد، وأصدر عفوا عاما عمن شاركوا فيها. وفي الحقيقة كان يحاول فرض فقدان عام للذاكرة على ضحايا الحرب الأهلية.

 

وفي 1999 عندما سألته أم واحد من الألاف الذين اختفوا على يد قوات الأمن في أثناء الحرب الأهلية عن مصيرهم، كان رده: "المفقودون ليسوا في جيبي".

 

مما يعني أن الحرب الأهلية وما رافقها من عنف غاشم يجب أن تنسى، وتم إخفاء المقابر الجماعية التي كانت تظهر بين الفترة والأخرى للتأكد من نسيان العقد الأسود. بل وتم تذكير الجزائريين في ظل بوتفليقة أ،ن الحرب الأهلية الخطيرة هي طريق للفوضى.

 

وترافق التعتيم على الذاكرة برفع سخي لرواتب رجال الأمن وبقية عمال الخدمة المدنية وزيادة الدعم على المواد الأساسية من السكر والقمح والحليب. وكل هذا كان كافيا لتثبيط عزيمة الجزائريين عن المشاركة في تظاهرات الربيع العربي عام 2011. 


وفي العقدين اللذين أعقبا الاستقلال، تبنت الحكومة نظاما اقتصاديا تتحكم فيه الدولة، مرفقا بخطة خمسية وشركات كبرى تابعة للدولة.

 

ورغم خصخصة بعض الشركات في التسعينيات، إلا أن الحكومة لم تخفض أبدا من دورها. ومنحت السيطرة على الاقتصاد النظام فرصة التحكم بالموارد الاقتصادية.

 

وفي بلد يعتمد على النفط، حيث تشكل موارده نسبة 60% من الميزانية الحكومية و90% من موارد التصدير، فقد تم الاعتماد على البنوك المملوكة من الدولة لتغذية المحسوبية. فخلال 20 عاما من حكمه، قام بوتفليقة بتقوية مجموعات المصالح "الأوليغارش"، وأصبحوا أثرياء نتيجة حصولهم على عقود الدولة، مما يعني جلب المال إلى النظام الحاكم ومنحه القدرة على بناء قاعدة دعم خاصة به. وأدت المحسوبية الاقتصادية إلى إضعاف سيطرة الجيش على السلطة، لكنها تسببت في الوقت نفسه باستشراء الفساد؛ فالحصول على ثروة الجزائر من الطاقة الهيدروكربونية بات معتمدا على الولاء للنظام. 


وبعد تعرضه لجلطة دماغية عام 2013، تدهورت صحته وتحول بوتفليقة إلى الرئيس الغائب؛ بسبب سفراته العلاجية الطويلة في الخارج. وبدا ضعيفا في المناسبات النادرة التي ظهر فيها.


وكانت سنوات بوتفليقة هي سنوات الثروة الهائلة للجزائر، لكن ليس للجزائريين. ففي عام 1999 عندما وصل بوتفليقة إلى الحكم كان سعر البرميل 13%، ولكن الأسعار واصلت الارتفاع بعد ذلك بسنوات حتى وصلت 147 دولارا للبرميل عام 2008.

 

وكان من المفترض أن يتم استخدام مليارات ومليارات الدولارات لبناء البنى التحتية وتحسينها. ولكنك لو تجولت في البلاد اليوم، فستتساءل عن هذه الأموال أين ذهبت. وبحلول عام 2014 حيث انهارت أسعار النفط، لم تجر أية إصلاحات في الجزائر، وظل الاقتصاد معتمدا على تصدير الطاقة الهيدروكربونية واستيراد كل شيء.

 

اقرأ أيضا: "الاقتصاد الموازي" معضلة فشلت حكومات الجزائر بإيجاد حل لها

 صحيح أن النظام قام ببناء طرق سريعة وتجمعات سكنية، لكن الكثير بذر وضاع بسبب الفساد وسوء إدارة الجيش وطبقة أصحاب المصالح التي فرختها سنوات بوتفليقة. وبحلول عام 2019 كانت الجزائر تعاني من عجز في الميزانية، وبات احتياطها من العملة الأجنبية يتراجع. شعر معظم الجزائريين بالحيرة من الوضع ومن يحكم البلاد في الحقيقة. 

 

ولأن النخبة انشغلت في خلافاتها الداخلية، فلم تكن قادرة على التوافق حول شخصية تخلف الرئيس المريض. ولهذا حاولوا إجبار الرئيس بوتفليقة على الترشح مرة خامسة وفرضه على الجزائريين للحفاظ على الوضع كما هو. وخرج الملايين من الشباب الجزائري إلى الشوارع، فهم خلافا لآبائهم، لم يعيشوا الحرب الأهلية، ولهذا كانوا محصنين من فكرة أن النظام المستبد هو المانع الوحيد للفوضى. 


ورغم أن الهدف الرئيس للحراك كان رفض ترشيح بوتفليقة لمرة خامسة، إلا أنه توسع لحركة غير حزبية وعبر عن رفضه للنخبة العسكرية التي تحكم البلاد منذ الاستقلال. ومن أجل الحفاظ على مكاسبها، قررت السلطة التضحية بجزء منها حتى تبقى. وفي نيسان/إبريل 2019 قرر رئيس هيئة الأركان الجنرال قايد أحمد صالح، الذي عينه بوتفليقة منذ عدة سنوات، عزل الرئيس. وظهرت صورة على التلفاز الحكومي لبوتفليقة الضعيف وهو يسلم استقالته لرئيس مجلس الدستور، وكان يرتدي الزي التقليدي، الجلابة، وبدا مثل شخص أجبر على ترك فراشه في منتصف الليل.


وبعد خروج بوتفليقة من الصورة، واصل الحراك تظاهراته أسبوعيا، حيث أيقن ناشطوه أن المسألة ليس شخصا واحدا، بل يجب إصلاح النظام كله، وليس رئيسا ينتخب من وراء الأبواب.

 

واستمر المأزق السياسي لعدة أشهر، حتى فرض الجنرالات انتخابات رئاسية نهاية 2019. ورغم المشاركة الضعيفة، إلا انها أدت لانتخاب رمز آخر من النظام ليؤدي دور الرئيس، عبد المجيد تبون، 74 عاما، الذي كان وزيرا ورئيس وزراء في عهد بوتفليقة. 

 

ومنذ عام 2019 رفض معظم الجزائريين المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والستفتاء، ورفضوا منح النظام الشرعية. ولعدم قدرته على فرض شخص مدني ليكون واجهة للحكم من وراء الستار، وجد الجيش لعبة أخرى، هي تحميل قوى خارجية مسؤولية مؤامرة لزعزعة استقرار البلد.

 

وحمل المغرب مسؤولية الحرائق التي اندلعت في مناطق القبائل، وقتل فيه عدد من الأشخاص هذا الصيف. وزادت عمليات اعتقال الصحفيين والناشطين والمحتجين.

 

ورغم تراجع التظاهرات بسبب كوفيد-19 عام 2019، إلا أن هناك مظاهر عن حنق شعبي وعودة إلى الشوارع ورد قوي من الدولة. وبعدما قضى الجزائريون الصيف وهم يقننون من استخدام المياه، تساءلوا عن دولة لديها أكبر احتياطي من الهيدروكربون في العالم، ومع ذلك عاجزة عن توفير المياه في صنابير البيوت. وأدى خفض فيمة الدينار الجزائري إلى زيادة التضخم وارتفاع أسعار الحياة اليومية. وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية من العملة الصعبة من 120 مليار دولار عام 2016 إلى 42 مليار دولار في 2021.

 

ونظرا لانشغال النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة في الجزائر في خلافاتها، فإنها لم تسمح للبلد استثمار مصادر الثروة التي يمتلكها، ولا موقعه المهم في شمال أفريقيا وعلى البحر المتوسط. وربما كانت هذه المأساة الكبرى في فترة بوتفليقة والنظام الذي جسده: عمل القليل مع وجود الكثير. وقد حرم الجنرالات والجواسيس والحكام العجزة مثل بوتفليقة، الجزائر لوقت طويل من التقدم.

 

للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)