قضايا وآراء

محاولات إسرائيلية يائسة لاستعادة قدرة الردع بمواجهة الفلسطينيين

1300x600
سعت إسرائيل دائماً إلى تكريس ما تصفه بقدرة الردع بمواجهة الفلسطينيين والعرب بشكل عام، ضمن العقيدة القتالية التي صاغها مؤسسها ديفيد بن غوريون. لكن إثر تآكل تلك القدرة خلال العقود الماضية، خاصة في السياق الفلسطيني بشكل تدريجي ومتواصل، ثم متسارع في العام الجاري مع هبّة القدس ومعركة سيفها، وأخيراً وليس آخراً ملحمة جلبوع التي جسدها أبطال نفق الحرية.. سعت إسرائيل بشكل متوتر ومهووس إلى استعادة قدرة ردعها عبر قتل تسعة مواطنين فلسطينيين خلال أسبوع واحد وعقاب جماعي لأبطال النفق، كما الأسرى في السجون بشكل عام بموازاة مزيد من الاقتحامات للمسجد الأقصى، ومشاريع استيطانية تهويدية في القدس والضفة الغربية، وحتى مسيرة بائسة ويائسة للمستوطنين في مدينة كفر قاسم، رمز المقاومة والصمود في الأراضي المحتلة عام 1948.

تضمنت عقيدة بن غوريون القتالية ثلاثة مرتكزات أساسية: قدرة الردع بمعنى تخويف الأعداء، وإنزال الهزيمة النفسية بهم ومنعهم من مجرد التفكير في تحدّي إسرائيل أو مواجهتها، ثم الحرب السريعة الخاطفة كون الدولة العبرية الصغيرة لا تتحمل الحروب الطويلة، على أن تجري في أراضي الأعداء لا في عمقها البشري والجغرافي الضيق والمحدود أيضاً في الأراضي المحتلة عام 1948.
تضمنت عقيدة بن غوريون القتالية ثلاثة مرتكزات أساسية: قدرة الردع بمعنى تخويف الأعداء، وإنزال الهزيمة النفسية بهم ومنعهم من مجرد التفكير في تحدّي إسرائيل أو مواجهتها، ثم الحرب السريعة الخاطفة كون الدولة العبرية الصغيرة لا تتحمل الحروب الطويلة، على أن تجري في أراضي الأعداء

نسف انتقال المقاومة الفلسطينية إلى الداخل عبر الانتفاضة الأولى 1987 والانتفاضات والمعارك المتتالية التي تلتها تلك العقيدة من أساسها، فقد تآكلت قدرة الردع وباتت حرب الاستنزاف اليومية متواصلة، تحديداً في القدس والضفة الغربية بعد الانسحاب من غزة، ثم وصلت إلى الأراضي والبلدات والتجمعات الاستيطانية الإسرائيلية، أي العمق الأمني الصهيوني بأبعاده وتجلياته المختلفة.

تسارعت وتيرة تآكل قدرة الردع الإسرائيلية خلال السنة الجارية مع هبّة القدس ثم معركة سيفها، وأخيراً وليس آخراً نجاح أبطال نفق الحرية بتحرير أنفسهم ولو لأيام في ملحمة بطولية لا يمكن طمسها أو تجاوز دلالاتها وتداعياتها، تحديداً في ما يتعلق بصراع الإرادات، وعدم خشية الفلسطينيين من تحدي ومواجهة المشروع الصهيوني، والثقة التامة في إمكانية بل حتمية الانتصار عليه.

بناء عليه، سعت إسرائيل طوال الوقت لاستعادة قدرة الردع من جديد. وبعد العجز عن تهجير أهالي حيي الشيخ جراح وسلوان تحسباً لهبّات مماثلة، والفشل في فرض إرادتها على غزة في مرحلة ما بعد معركة سيف القدس، ورغم النجاح في إعادة اعتقال أبطال نفق الحرية، إلا أن ذلك لم ينل من الروح المعنوية للأسرى ولا للشارع الفلسطيني بشكل عام.
تسارعت وتيرة تآكل قدرة الردع الإسرائيلية خلال السنة الجارية مع هبّة القدس ثم معركة سيفها، وأخيراً وليس آخراً نجاح أبطال نفق الحرية بتحرير أنفسهم ولو لأيام في ملحمة بطولية لا يمكن طمسها أو تجاوز دلالاتها وتداعياتها، تحديداً في ما يتعلق بصراع الإرادات، وعدم خشية الفلسطينيين من تحدي ومواجهة المشروع الصهيوني


في هذا السياق، لا أشك لحظة في أن قيادة الاحتلال كانت تفضّل قتل الأسرى الستة للانتقام منهم ومنع تكرار المحاولات من قبل أسرى آخرين، وفي السياق رفع معنويات الشارع الصهيوني المتعطش للدم، لكنها خشيت من ردود فعل واسعة وحتى اندلاع هبّة، بل وهبّات جديدة ومعركة أخرى مع غزة، لذلك حرصت على اعتقالهم أحياء ثم محاولة إذلالهم والتنكيل بهم لكسر روحهم المعنوية.

في سياق استعادة قدرة الردع، لجأت قيادة الاحتلال كذلك إلى التنكيل بآلاف الأسرى الآخرين في السجون في ما يشبه العقاب الجماعي، للانتقام منهم أيضاً وكسر روحهم المعنوية، ومنعهم من تحدي إجراءاتها، وللنيل من الإنجازات التي حققها الأسرى بتضحيات جسام عبر العقود الماضية، ورغم التوصل إلى تفاهمات منعت إضرابهم العام والشامل عن الطعام منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي.

في السياق نفسه، أي استعادة قدرة الردع المنهارة، عمدت إسرائيل إلى قتل أكبر عدد ممكن من المواطنين الفلسطينيين، كما رأينا الأسبوع الماضي في القدس وجنين، مع حملة اعتقالات واسعة أيضاً، بذريعة القضاء على ما تصفه بالبنى التحتية للمقاومة في الضفة الغربية.

إضافة إلى ما سبق، تسارعت وبشكل مريب وتيرة اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي الشريف ورفع العلم الإسرائيلي وترديد الأناشيد والأهازيج التوراتية فيه، بحماية من شرطة الاحتلال ودعم واضح من المؤسسة السياسية الحاكمة.

الردّ الفلسطيني جاء كما العادة ملائماً وقوياً، فمشهد محاكمة أبطال نفق الحرية جسّد انتصارهم على سجّانيهم وارتفاع روحهم المعنوية واستيعابهم لما حققوه رغم إعادة اعتقالهم، ما انعكس مباشرة على الشارع الفلسطيني الداعم لهم ولقضيتهم العادلة.

كذلك بدا آلاف الأسرى مواجهة الإجراءات العقابية الجماعية بحقهم عبر برنامج تصعيدي سيصل إلى الإضراب الشامل، وبالتالي الانفجار في السجون وخارجها ما لم تتراجع قيادة الاحتلال عن ممارساتها التعسفية.

يمكن التأكيد على تآكل قدرة الردع الإسرائيلية بشكل تدريجي ومتواصل في السنوات والعقود الماضية، ثم متسارع في الأسابيع والشهور الماضية. هذا يعني طبعاً أننا على الطريق الصحيح، ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن تحقيق الانتصار ودحر الاحتلال يحتاج بالضرورة إلى مزيد من العمل والجهد الجماعي المنظم

وفي غزة لم تنجح محاولات الاحتلال في فرض رؤاه وشروطه على المقاومة في الملفات محل النقاش، بل نجحت هذه الأخيرة في إجباره على التخلي عن ربط إعادة الإعمار بمفاوضات تبادل الأسرى التي اكتسبت أهمية وزخماً مضاعفاً في ضوء ملحمة جلبوع وما قدمه أبطالها من تضحيات.

أما اقتحامات الحرم القدسي فقد زادت اليقظة ورصّ الصفوف لمواجهتها، وفي السياق تكريس وحدة الشعب الفلسطيني للتصدى لها، سواء من أبناء القدس والضفة الغربية أو من أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948.

في النهاية وباختصار، يمكن التأكيد على تآكل قدرة الردع الإسرائيلية بشكل تدريجي ومتواصل في السنوات والعقود الماضية، ثم متسارع في الأسابيع والشهور الماضية. هذا يعني طبعاً أننا على الطريق الصحيح، ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن تحقيق الانتصار ودحر الاحتلال يحتاج بالضرورة إلى مزيد من العمل والجهد الجماعي المنظم فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً أيضاً. وهنا يمثّل انتصار ورواج الرواية الفلسطينية عالمياً خطوة صغيرة، ولكن ومهمة أيضاً نحو الانتصار الاستراتيجي النهائي والحاسم والحتمي بإذن الله.