مقالات مختارة

طبق الحرب والسلام

1300x600

يكفي أن يذكر اسم «رز جولاف» أو أرز الولوف في غرب أفريقيا حتى يستعر الجدل حول أصل وفصل الطبق الأشهر لدى بلدان هذه المنطقة ووصفات تحضيره. تلمع العيون وتبدأ الحماسة في الحديث وتظهر حالة تشبه الافتتان. طبق يفرق ويجمع شعوب السنغال وجامبيا وغانا والكاميرون ونيجيريا وسيراليون وليبيريا وموريتانيا، كل طرف يعتقد اعتقادا راسخا أن طريقته في تحضير هذا الطبق هي الأشهى والألذ، مثلما نتشبث بأكلات أمهاتنا. السنغال تستحضر حقوقها التاريخية وتؤكد أن الأرز المعتمد لهذه الأكلة هو من النوع القصير أو المكسور ويضاف إليه القليل من التمر الهندي أو الليمون الأخضر، في حين يفضل أهل نيجيريا استخدام الأرز الطويل أما في غانا فالأرز البسمات المعطر هو الأنسب، وهكذا دواليك.

لونه غالبا يكون أحمر «مخطوف» لأن الطماطم عنصر أساسي فيه، يضاف إليها البصل والثوم والفليفلة والعديد من التوابل كالجنزبيل والكاري والزعتر، مع الدجاج أو اللحوم أو الأسماك، وبعض الخضراوات مثل البازلاء والجزر وأحيانا الباذنجان والكاسافا بحسب البلد وبحسب الوصفة المتداولة داخل العائلة، فهو ينتمي لثقافة شفهية تتعدد نسخها وتحتمل التنويعات والتأويلات. طبق يشبه البايلا الإسبانية والريزوتو الإيطالي أو بالأحرى البرياني الهندي، وذلك نظرا لـتأثيرات المهاجرين الهنود على القارة السوداء فيما يتعلق بفنون الطبخ، ويسمى أيضا أرز «بينا شيت» أي القِدر الواحد، لأنه على الأغلب يطهى في وعاء واحد، لكن هذا أيضا يختلف وفقا للبلد.

أعشق الأكلات التي تجعلنا نسافر بعيدا في الزمان والمكان، ورز الجولاف أو الولوف من هذه النوعية، إذ يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ دول غرب أفريقيا في فترة ما قبل الاستعمار وما بعدها. يروى كيف تفرقت القبائل والشعوب بين الدول وكيف ترسمت الحدود وما كان دور المستكشفين البرتغاليين في أوائل القرن الخامس عشر، إلى ما غير ذلك، فأرز الولوف يحمل اسم مجموعة عرقية تشتت قبائلها بين عدة بلدان.


الولوف شعب ينحدر من إمبراطورية منسية، تفتقر إلى أثر مكتوب يقتفي تطورها التاريخي، قامت ما بين عامي 1350 و1549، في غرب أفريقيا، وسيطرت على مناطق كثيرة في السنغال وجامبيا، وكانت موالية لإمبراطورية مالي. في ذلك الوقت كانت المساحة الممتدة من جامبيا إلى ليبيريا تسمى بساحل الأرز أو الحبوب حيث كانت تنتشر فيها زراعات الأرز والدُخن على ضفاف نهر السنغال.

وبالتالي من الطبيعي أن يكون الأرز عنصرا رئيسيا في الغذاء، وبسبب حركة التجارة ذاع صيت أرز الولوف، كما انتشرت لهجتهم إلى الآن حتى بين من لم ينتموا إلى هذه العرقية في الأصل. ثم تأتي حكاية الطماطم، العنصر الأساسي الثاني المتفق عليه في تحضير الطبق، وهي لم تكن معروفة في غرب أفريقيا قبل الاستعمار البرتغالي والتبادل التجاري مع كولومبيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ إذ تعتبر من ثمار العالم الجديد ونشأت بدايةً في أمريكا الجنوبية. ونظرا للنشاط الذي عرفه نهر السنغال ودوره في حركة التبادل التجاري، فمن المنطقي أن يتم مزج الطماطم المستوردة بالأرز المحلي لينتج عنهما أرز الولوف الشهير. وتذكر بعض المصادر أن النسخة المعدلة الحالية من الطبق الذي يقدم في السنغال مع السمك لم تعرف قبل القرن التاسع عشر، وكانت من إبداعات سيدة تنتمي لمدينة سان لويس الساحلية.

وفي سبعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر كان تشتت قبائل الولوف بين الدول على النحو الحالي على يد الاستعمار الفرنسي الذي أوجد دولة السنغال الموحدة على أنقاض إمبراطورية قديمة، وهو أمر سائد في القارة الأفريقية حيث نجد القبائل والعرقيات القديمة وقد توزعت بين البلدان، وتظل هناك عادات وموروثات ثقافية عابرة للحدود تذكرنا بوقائع التاريخ من وقت لآخر. ينطبق ذلك على أكلة أرز الولوف التي تشعل حربا ملحمية عرمرمية دون إراقة دماء ودون منتصر أو خاسر، وفي الوقت ذاته تجمع عددا من الشعوب حول الرغبة في الاستمتاع بوجبة طيبة. لذا أطلق عليها البعض مجازا «طبق الحرب والسلام».

ومنذ العام 2015 صار لطبق أرز الولوف يوم عالمي للاحتفال به يوافق الثاني والعشرين من أغسطس، كما انتشر خارج أفريقيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة وأصبح يقدم في مطاعم لندن وواشنطن وتورنتو، وصار هناك حديث عن طرحه من خلال بعض متاجر السوبر ماركت كي تزداد شعبيته كما حدث مع أطباق أخرى حول العالم. وهنا يأتي دور التجارة والتجار مجددا، فغالبا يرجع ذلك لوجود عدد كبير من رجال الأعمال الذين ينتمون لقبيلة الولوف في جميع أنحاء أفريقيا وفي أوروبا وأمريكا، فالولوف لهم سمعة في التجارة الدولية، وأفريقيا تحظى باهتمام عالمي كبير لأسباب تتعلق بالاقتصاد والطاقة والنفوذ.. كل ذلك يلخصه طبق نلتهمه في دقائق.

(الشروق المصرية)