كتاب عربي 21

العربية ما بين الاستعارة والإعارة

1300x600

جميع اللغات الحية تؤثر في غيرها وتتأثر بها، ولا يعيب لغة ما أن تستعير مفردات من لغة أخرى وتخضعها إلى قواعد تصريفها، وبالمقابل فإن اللغات تتقوقع عندما لا يكون للناطقين بها منتوج ثقافي حضاري، أو قدرة أو رغبة في التفاعل مع محيطهم الجغرافي، ومن بين اللغات المحكية في عالم اليوم هناك نحو ثلاثة آلاف لغة مهددة بالاندثار في غضون ثلاثين أو خمسين سنة من الآن.

وجاء على اللغة العربية حين من الدهر ظلت فيه متقوقعة في محيط جغرافي شديد الضيق، ثم جاء الإسلام وصارت العربية لغة القرآن، وشيئا فشيئا نشأت امبراطورية إسلامية من بلاد السند شرقا إلى تخوم المحيط الأطلسي غربا، ودخلت شعوب أعجمية كثيرة في دين الله أفواجا وتبنت اللسان العربي أفواجا، وصارت العربية لغة العلوم النقلية كالفقه والتشريع والتفسير والكلام، والعلوم الطبيعية كالطب والفلك والكيمياء، وبهذا أثَّرت العربية في لغات شعوب تلك الإمبراطورية وأسهمت في إثرائها.

ثم تقلصت تلك الإمبراطورية، ولكن بعد أن تركت بصمات واضحة في اللغات الهندو ـ و، ويضم "معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية" نحو ثمانية عشر ألف كلمة ذات أصل عربي، وفي مجال علوم البحار والملاحة هناك نحو أربعمائة كلمة إسبانية جذرها عربي، وهناك نحو مائتين وثمانين كلمة عربية الأصل في اللغة الفرنسية المعاصرة، وأربعمائة ونيف مفردة عربية في اللغة الرومانية.

بل إن إنجلترا والتي هي جزيرة معزولة حتى عن أوروبا لم تنج من "الغزو" العلمي العربي الإسلامي، وأخذت من العربية مئات الكلمات خاصة تلك المتعلقة بالعلوم وأساسيات الحياة؛ أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قبطان / كيمياء / العنبر / الكحول / قالب / الجبر / صك أو شيك / خوارزمية / قهوة / قلوي / قطن / شفـــرة / إكسير / صفر/ سُكر/ زعفران / كحل.

ثم دارت على العرب الدوائر فصاروا، وهمُ الذين شادوا واحدة من أكبر وأقوى الامبراطوريات في العالم، جزءا من امبراطوريات بريطانيا وتركيا وفرنسا، وعوضا عن بذل معارفهم وعلومهم للشعوب الأخرى صاروا يستوردونها ومعها المفردات والمصطلحات الخاصة بها، بدرجة أن صارت هناك معارضة قوية لتعريب المناهج الدراسية في غالبية الدول العربية بحجة افتقار العربية للمصطلحات والعبارات الدقيقة اللازمة للتعبير عن دقائق العلوم الطبيعية، بينما كانت العربية هي "أصل" معظم تلك العلوم، عندما كانت ذات حمولة معرفية ضخمة وحيوية ونفّاذة.

 

إذا كان من المؤكد ان آلاف الكلمات العربية اندثرت حتى من القواميس خلال وعبر قرون الانحطاط الثقافي والمعرفي، وأن اللغة العربية ومنذ فجرها ظلت تستعير وتعير المفردات للغات الأخرى، فلا عذر للناطقين بها لاستعارة مفردات لغة الحديث اليومي من ألسنة الغير.

 



حتى تركيا التي كانت جزءا من النسيج الإسلامي وتبنت لغتها الحرف العربي لقرون عددا ولم تكن ذات شأن حضاري وثقافي خاص بها، تمددت في الفضاء العربي حينا من الدهر وورث العرب منها مفردات ما زالت متداولة في وجود نظائرها في اللغة العربية: شنطة (حقيبة) / أسطى (الحرفي الماهر) أبله (معلمة) / كوبري (جسر) كرباج (سوط)، وما زالت "جي" التركية لـ "النسبة" مستخدمة في كثير من الدول العربية (سفرجي / بلطجي/ قهوجي).
 
ولا يضير لغة أن تستعير مفردات من لغات أخرى حية فقد نهضت البشرية على تبادل المنافع والمعارف، وأقوى ما يميز الكائن البشري عن الكائنات الحية الأخرى، ليس كونه "ناطقا"، بل هو استعداده وقدرته على التفاعل والتواصل مع بني جنسه، ولا يعيب العرب والعربية في شيء أن يتبنّوا مفردات مثل تلفزيون وسينما وجاكيت واتيكيت وكرواسان وصالون وفيلم وسينما، ولكن البأس كل البأس هو أن يقول العربي ميرسي بدلا من شكرا وكاش بدلا من نقدا وموديل بدلا من طراز وكورس بدلا من دورة وبوليس بدلا من شرطة وبرافو بدلا من أحسنت، ويتبادل التحية بهاي وباي.

الجائحة التي تتعرض لها اللغة العربية بدخول أجسام غريبة في تركيباتها، منشؤها مركب نقص بعض أشباه المتعلمين الميالين إلى حشو وتطعيم الكلام بمفردات إنجليزية أو فرنسية عند تبادل الحديث الشفاهي في مواضيع ظلت مطروقة عبر القرون، لأنها تتعلق بأبسط أمور الحياة اليومية، وإذا كان من المؤكد ان آلاف الكلمات العربية اندثرت حتى من القواميس خلال وعبر قرون الانحطاط الثقافي والمعرفي، وأن اللغة العربية ومنذ فجرها ظلت تستعير وتعير المفردات للغات الأخرى، فلا عذر للناطقين بها لاستعارة مفردات لغة الحديث اليومي من ألسنة الغير.

وكما هي أداة الاتصال والتواصل الأكثر أهمية بين الناس، فاللغة هي أيضا ماعون ووعاء هوية الناطقين بها، ولا يوجد لأي لغة سادن وحارس مركزي، ولا ينبغي حسبان مجمع اللغة العربية حارسا أوحد للعربية، وياما طرح المجمع مئات الكلمات تعريبا لكلمات شائعة مستوردة من لغات أخرى دون أن تجد الذيوع (ومثال على هذا أن المجمع أسمى السينما دار الخيالة ولم تفارق التسمية أضابير المجمع)، أعني أن الحفاظ على معمار وبنيان وهيكل اللغة العربية مسؤولية جماعية، وكل عربي يغرف من معين لغات أخرى كتابة أو شفاهة في ثنايا الحديث بالعربية، يساهم من حيث يدري أو لا يدري في تلغيم لغة أهله، ويكون بهذا خارجا من "مِلَّة" قومه اللغوية وخائنا لها.