قضايا وآراء

جيل النكسة والوعي المفقود

1300x600
تحل الذكرى الرابعة والخمسون لأسوأ هزيمة مني بها العرب في تاريخهم الحديث، والتي يحلو للبعض تلطيفها بمسمى "النكسة"، وسواء كانت هزيمة أو نكسة، فالمحصلة واحدة، وواقع الحال يؤكد أن عواملها لا تزال موجودة؛ فالمواطن مغيب، وبعيد تماما عن دوائر صنع القرار، وما زال الجيش مسيطرا على جميع مفاصل الحياة، ودولة يونيو التي حكمت بالقهر والرعب لا تزال قائمة.

من أبرز تجليات غياب الوعي ما يعرف بـ"جيل النكسة"، وهو مصطلح يطلق في مصر على المغيبين الذين يقفون أمام التغيير، ويبررون الإخفاق، ويصفقون للمفسدين، وكأنها جينات توارثها هؤلاء عن أسلافهم الذين عايشوا تلك المحنة، وتفاعلوا مع السلطة من منطلق أبوي وصائي لم يتمكنوا من الانعتاق منه، حتى أصبح النظام لديهم مرادفا للوطن، وانكساره أو هزيمته أو زواله يعني ضياع المواطنين.

اللافت للنظر أن تزييف الوعي وقلب الحقائق الذي حدث أثناء هزيمة حزيران/ يونيو 1967 لم يقتصر على البسطاء، أو "جيل النكسة" فقط، وإنما طال شريحة واسعة من الكتاب والمثقفين؛ مثل الكاتب الكبير توفيق الحكيم، الذي حكى عن تجربته في كتاب عودة الوعي، قائلا: "كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقداً للوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم المعبود"، مشيرا إلى أحد أبرز أسباب غياب الوعي في تلك المرحلة بقوله: "سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا فيه الثورة مجرد أجهزة استقبال".
من أبرز تجليات غياب الوعي ما يعرف بـ"جيل النكسة"، وهو مصطلح يطلق في مصر على المغيبين الذين يقفون أمام التغيير، ويبررون الإخفاق، ويصفقون للمفسدين، وكأنها جينات توارثها هؤلاء عن أسلافهم الذين عايشوا تلك المحنة

هذه الممحاة التي دأبت السلطة على استخدامها جيئة وذهابا لإزالة وعي المواطنين، جعلتهم أسرى لرأي واحد وفكرة واحدة، لدرجة أن الكتاب والمثقفين لم يصدقوا أخبار الهزيمة الواردة من المحطات العالمية، معتقدين أن الجيش يعمل على تكتيك جديد لاستدراج العدو إلى عمق سيناء من أجل تلقينه درسا قاسيا.

وإذا كان هذا واقع الحال لدى شريحة المثقفين، فإن السلطة في هذا الوقت لم تكن بحاجة إلى أكثر من راديو الترانزستور، المنتشر في المقاهي والبيوت، والذي لا يكف عن استقبال البيانات العسكرية المتوالية عن الانتصار الساحق، بينما تولت الصحف إضافة مزيد من الحبكة الدرامية لأحداث تخيلية بعيدة تماما عن أرض الواقع تتعلق بانتصار مزعوم لم يره أحد، لتظهر مانشيتات من قبيل سحق العدو، وإسقاط مئات الطائرات، والزحف المقدس إلى تل أبيب.

يحكي مسؤول التنظيم الطليعي بالإذاعة في هذا التوقيت والكاتب المخضرم، السيد الغضبان، عن استدعائه صباح الخامس من حزيران/ يونيو، برفقة عدد آخر من زملائه، وعلى رأسهم رئيس الإذاعة المصرية آنذاك عبد الحميد الحديدي، بعدما قررت وزارة الإعلام ضم جميع موجات الراديو في بث مشترك، ومنح جميع العاملين بمبنى الإذاعة والتلفزيون إجازة ما عدا العاملين بقسم الأخبار، والمذيعين، ومهندسي الصوت، في محاولة بائسة لإخفاء معالم الجريمة التي سترتكب بحق الوطن.

ويؤكد الغضبان أن الإذاعة قررت تخفيف اللهجة بعد معرفة الحقيقة المؤلمة، بعيدا عن البيانات العسكرية الرنانة، لتتحول من مصطلح الانتصار إلى الثبات، بينما ظل الإعلامي أحمد سعيد على نهجه المعروف ولهجته المعهودة.
ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فالجنرال الجالس على رأس هرم السلطة في مصر حاليا أطلق يد العسكر في كل شيء، من المقاولات إلى السياحة، وصولا إلى الدواء والغذاء، وأعلن منذ عدة أعوام أنه يتمنى الحصول على نصيب وافر من تركة عبد الناصر الإعلامية

الهزيمة إذاً لم تكن عسكرية فقط بعد الانسحاب من سيناء وإخلائها أمام الطرف الآخر، الذي وصلت قواته إلى الشاطئ الشرقي للقناة، بينما العسكر منهمكون في العبث بمختلف مناحي الحياة المدنية، ومشغولون بكل شيء إلا واجباتهم العسكرية.

وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فالجنرال الجالس على رأس هرم السلطة في مصر حاليا أطلق يد العسكر في كل شيء، من المقاولات إلى السياحة، وصولا إلى الدواء والغذاء، وأعلن منذ عدة أعوام أنه يتمنى الحصول على نصيب وافر من تركة عبد الناصر الإعلامية. ويبدو أن القدر أمهله ليحصل على أكثر مما توقع، فلا صوت يعلو حاليا على صوته، ولا يجرؤ أحد على التغريد خارج سربه أو حتى التلميح بما يخالف هواه، لتستبدل وسائل الإعلام أحمد سعيد بعشرات النسخ المعدلة، التي تتنافس في الدجل لتحظى بأقرب موقع من السلطة الحاكمة.
لأن المعطيات المتشابهة تؤدي في أغلب الأحيان إلى نتائج متشابهة، فإن المتابعين للحالة المصرية تحديدا يتوقعون أن يستفيق الشعب على نكسة جديدة ظهرت بوادرها في ملف النيل؛ فعندما تحيد السلطة تصبح الهزيمة قدرا محتوما، ويصبح الانكسار مسألة وقت لا أكثر

ولأن المعطيات المتشابهة تؤدي في أغلب الأحيان إلى نتائج متشابهة، فإن المتابعين للحالة المصرية تحديدا يتوقعون أن يستفيق الشعب على نكسة جديدة ظهرت بوادرها في ملف النيل؛ فعندما تحيد السلطة تصبح الهزيمة قدرا محتوما، ويصبح الانكسار مسألة وقت لا أكثر، والقوم مصرون على اجترار تجربة الماضي، بعدما أضحى الاستبداد المركب الرئيس في معادلة السياسة المصرية، ولا يمكن تصور أي إنجاز في مثل هذه البيئة، التي يعشش فيها الفساد وتطال آثار الظلم الجميع بلا استثناء.

ورغم أن الوقائع تكاد تكون متطابقة عند مقارنة التجربة الناصرية والحقبة الحالية، إلا أن متغيرا جديدا طرأ على معادلة الوعي، يتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي، أو "إعلام الجماهير"، الذي يشكل بارقة أمل في رفع مستوى الوعي لدى شرائح واسعة من المجتمع، وهذا ما أكدته شواهد الواقع خلال الأحداث الأخيرة في فلسطين، بعدما سحبت تلك المنصات البساط من وسائل الإعلام التقليدية، وكان لها أبلغ الأثر في متابعة الجماهير للأحداث الجارية في الأراضي المحتلة لحظة بلحظة، مما ساهم في تشكيل صورة أكثر وضوحا عن مجريات الأمور، وسحب صكوك التأييد العالمي المطلق لدولة الكيان، وهذي بلا شك بشريات تشير إلى إمكانية عودة الوعي المفقود.