كتب

الكويت.. مخطط بناء الدولة رسخ الانقسام بين البدو والحضر

كتاب يناقش إشكالية الحضر والبدو في الكويت ودورها في بناء الدولة (عربي21)

الكتاب: إشكالية الحضر والبدو في الكويت وأسباب استمرار الانقسام حتى اليوم
المؤلف: فرح النقيب وآخرون
تحرير وترجمة: حمد العيسى
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر2021

تشغل "إشكالية الحضر والبدو في الكويت" مساحة معتبرة في دراسات ومقالات المتابعين للشأن السياسي والاجتماعي في هذه الإمارة الخليجية، لاسيما لتأثيرها الواضح في سياسة الدولة وانعكاسها على أداء مؤسساتها وعلى رأسها مجلس الأمة. 

وفي هذا الكتاب، جمع الباحث والمترجم حمد العيسى عددا من هذه الدراسات، التي نشرت على مدى عقدين لباحثين وصحفيين عرب وأجانب تناقش السياسة الكويتية المعاصرة، وتبحث بدرجات متفاوتة هذه "الإشكالية"، لافتا في مقدمة كتابه إلى بحث متميز، تحول إلى مرجع في هذه القضية للعديد من المهتمين، وضعته في العام 2014 الأستاذة في التاريخ الكويتية فرح النقيب، بعنوان "قراءة جديدة لإشكالية الحضر والبدو في الكويت: المواطنة والإسكان وتأسيس الانقسام الثنائي"، بعد أن كان بحث آخر يشكل هذه المرجعية للبروفيسورة النرويجية آن نغا لونغفا نشر في العام 2006 بعنوان "تأملات في قضية الحضر والبدو في الكويت". وهما البحثان اللذان أقام عليهما العيسى أساس كتابه هذا، وجمع حولهما مقالات نوعية أخرى من مصادر مختلفة. 

مكاسب قصيرة الأجل

في ورقة بحثية منشورة في العام 1997 تحت عنوان "الكويت وديناميات التغيير الاجتماعي ـ الاقتصادي" يوضح أستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا كيف ولماذا يشعر البدو بالتهميش رغم محاولات الدولة المبكرة لإدماج القبائل في نسيج المجتمع الكويتي، لاسيما مع الزيادة الهائلة في عائدات النفط وما صاحبها من فرص عمل، حيث انتقل البدو الكويتيون إلى الأحياء التي بنتها الدولة حديثا لاستيعابهم، وحيث انضمت أعداد كبيرة منهم إلى صفوف الشرطة والجيش وقوات الأمن. 

يقول الغبرا إن البدو احتفظوا بالعديد من عاداتهم وتقاليدهم "الأبوية" القبلية حتى بعد استقرارهم، وهو ما شكل حاجزا ثقافيا بينهم وبين الكويتيين الحضر، الذين تعاملوا بفوقية معهم دفعتهم للتمسك أكثر بتقاليدهم وبعلاقاتهم القبلية في مواجهة ما شعروا بأنه تهميش لهم اجتماعيا وسياسيا. 

يضيف الغبرا:" مع استمرار المهاجرين في الاستقرار إلى جانب القبائل، أصبحت مناطقهم مكتظة بالسكان، وبدؤوا يعانون من عدم كفاءة الخدمات. وعلى الرغم من أنهم أصبحوا يشكلون أغلبية عددية، فإن الأغلبية الحضرية السابقة وعلى وجه الخصوص العائلات التجارية الرائدة، استمرت كقوة مهيمنة في السياسة والاقتصاد. خلق هذا الأمر توترات اجتماعية وتناقضات سياسية ساهمت في ظهور سياسات المعارضة والشعبوية بين الأغلبية البدوية".

لقد ركزت سياسة الحكومة الكويتية تجاه البدو على مكاسب قصيرة الأجل، فالهدف الأساس كان حشد أصواتهم الانتخابية لصالح مرشحيها في مواجهة "المعارضة التجارية الحضرية" خاصة انتخابات 1967، حيث كانت تسعى هذه المعارضة وفقا للحكومة إلى تقويض سلطة أسرة آل الصباح. نتيجة لهذه السياسة التي استمرت لفترات طويلة، "أصبحت بعض شرائح السكان القبليين ترى علاقتها بالدولة كعلاقة مبنية على صفقة مقايضة: الخدمات والوظائف مقابل الولاء السياسي والانتخابي". 

تحول البدو إلى "قطاع محروم نسبيا" من الخدمات، يعيشون على "حافة العاصمة"، جعل منهم قاعدة للغضب والاحتجاج الشعبي، رافق ذلك عدم قدرتهم على تحقيق نفوذ أو قوة مؤثرة في صنع القرار تتناسب مع حجمهم، سمح كل ذلك بفتح الأبواب لتحالفات مع الجماعات الإسلاموية الكويتية، الأمر الذي ظهرت نتائجه بوضوح في انتخابات 1992 التي أفرزت أغلبية إسلاموية أصولية في مجلس الأمة، بحسب ما يشرح الغبرا.  

تقول الباحثة الأمريكية، المهتمة بشؤون التنمية والمعارضة في الخليج العربي، غوين أوكرليك: " تثبت الحكومة الكويتية نفسها في ما يسمى " المشكلة القبلية". فعندما كانت تواجه معارضة النواب الليبراليين والقوميين في الستينيات والسبعينيات، جلبت ما يقدر بنحو 200 ألف فرد من القبائل السعودية ومنحتهم الجنسية الكويتية، وبحسب ما يشرح أحد المراقبين: لقد أعطوهم حزما ضخمة من الأراضي في الضواحي الخارجية، ولم يحدث اختلاط أو اندماج، ولذلك أسس البدو أحياء جديدة ومنعزلة عن المجتمع الكويتي الأوسع. 

وفي هذا السياق، يستشهد المراسل الصحفي لجريدة "ذا ناشينال" جيمس كالدروود في مقالة له نشرها في 2011 بكلام لأستاذ العلوم السياسة شملان العيسى، الذي يصف أبناء القبائل بأسماك قرش يهتمون فقط بمصالحم الخاصة والقبلية، فيقول إنهم في الثمانينيات أصبحوا يشكلون أغلبية في مجلس الأمة، وكانوا في غالبيتهم موالين للحكومة، ولكن مع ظهور جيل جديد منهم أكمل تعليمه الجامعي، صاروا يقارنون "فقر القبائل النسبي مع ثروة فئة التجار الغنية، ولذلك فطنوا إلى أنه يمكنهم تحقيق المزيد من الفوائد لقبائلهم، عبر التحول من الموالاة إلى المعارضة ومهاجمة الحكومة".

الفصل بين الأجزاء

لا يوجد في الكويت بدو يمارسون حياة الترحال والرعي، لكن مصطلح"بدو" لا يزال شائعا ويستخدم لتعريف مجموعة "تعتبر مختلفة اجتماعيا وثقافيا عن الحضر الذين يعرفون في سياق الكويت تحديدا بسلالة سكان المدينة قبل اكتشاف النفط". تناقش فرح النقيب سبب استمرار هذه التسميات الاجتماعية في الكويت وتحلل أصل العلاقة النزاعية بين الفئتين، وتجادل بأن استمرار الانقسام حتى اليوم هو نتيجة لاستراتيجيات بناء الدولة، التي اعتمدت بعد اكتشاف النفط في الخمسينيات واستمرت حتى الثمانينيات، والمرتبطة أساسا بسياسات المواطنة والإسكان، التي أدت دورا في ترسيخ فكرة أن الحضر والبدو فئتان مختلفتان اجتماعيا، ولكل منهما جغرافيا مختلفة عن الأخرى. 

استنادا إلى تحليل المنظّر الحضري الفرنسي هنري ليفيفر، فإن جهاز الدولة الحديثة، الذي يسعى إلى فرض سيطرته وتوحيدها، ينظم كلّا من الفضاء والمجتمع بطريقة تضمن "تجانس الكل والفصل بين الأجزاء". وترى النقيب أنه تم تحقيق "تجانس الكل" في الكويت عبر منح الجنسية والحصول على مزايا الرعاية الاجتماعية، ما ضمن اعتماد المواطنين اعتمادا كاملا على الدولة. كما تم تحقيق "الفصل بين الأجزاء" من خلال سياسات التجنيس، والسياسات الانتخابية، وسياسة الإسكان الحكومية التي قسمت السكان إلى مناطق سكنية اجتماعية منفصلة، ووزعت خدماتها ومرافقها وفق معايير مختلفة وغير متكافئة، ما خلق "تسلسلا هرميا للفضاءات"، جعل سكان المدينة السابقين في القمة والسكان المستقرين حديثا في القاع. 

 

لا يوجد في الكويت بدو يمارسون حياة الترحال والرعي، لكن مصطلح"بدو" لا يزال شائعا ويستخدم لتعريف مجموعة "تعتبر مختلفة اجتماعيا وثقافيا عن الحضر الذين يعرفون في سياق الكويت تحديدا بسلالة سكان المدينة قبل اكتشاف النفط".

 



تقول النقيب؛ إن قانون الجنسية الذي صدر في العام 1959 ألغى حق المواطنة عن طريق الولادة أو الإقامة طويلة الأجل، وعرّف "الكويتيين" بأنهم المتوطنون في الكويت قبل سنة 1920، وجعل الخيار الوحيد للأشخاص الذين لا يستوفون هذه الشروط لكي يتجنسوا، هو عبر قرار صادر عن وزير الداخلية.

وتضيف أنه في العام 1961 عندما بدأ تسجيل المواطنين الكويتيين استعدادا للاستقلال، كان على جميع من يعتبر نفسه كويتيا تقديم وثائق تثبت ذلك مثل صكوك الملكية، وشهادات الميلاد أو وثائق السفر كدليل على الاستيطان في الكويت قبل 1920، لكن جزءا كبيرا من أبناء القبائل لم يكن يملك مثل هذه الأوراق، بسبب نمط حياتهم الذي لم يكن يعرف الاستقرار بشكل دائم، أو لم يكن يدرك أهمية امتلاك هذه الوثائق، فصنفوا على أنهم "بدون" جنسية، بينما اعتبر فقط ثلث سكان الكويت في ذلك الوقت مواطنين كويتيين أصليين بـ "التأسيس" ومعظمهم من سكان المدينة، ومنحت مجموعة ثالثة الجنسية بقرار وزاري، وكانت تضم فئات مختلفة ومغتربين عربا، لكن معظمها من البدو الذين منحوا الجنسية مقابل انضمامهم إلى الجيش، لكنهم ظلوا مواطنين من الدرجة الثانية ومختلفين عن المواطنين بـ "التأسيس"، حيث لا يحق لهم التصويت أو الترشح للبرلمان إلا بعد مرور 30 عاما على تجنيسهم. 

تقول النقيب: "أيا كانت النية، فإن تركيز قانون الجنسية على "الأصل" أدى دورا مهما في ترسيخ فكرة"البدو" كـ "قادمين جدد". وتفاقم الوضع بعد عام 1967 عندما بدأت الحكومة في منح الجنسية بمرسوم لعشرات الآلاف من البدو غير المحليين ومعظمهم من السعودية، في مقابل الولاء الانتخابي لمواجهة المعارضة الحضرية القومية في البرلمان. وأعطي معظمهم "جنسية أولى" حتى يتمكنوا من التصويت الفوري لتعزيز كتلة الموالاة للحكومة في البرلمان.

يقول ناثان براون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، في دراسة نشرها في العام 2009، إن هذا الوضع خلق "مفارقة سياسية ساخرة ومدهشة"، إذ على المدى الطويل ساعدت تلك المجموعات السكانية نفسها في الوصول إلى حالة الانقسام والشلل"الحالي" للنظام السياسي في البلد. وتوضح النقيب" حقيقة أن البدو لم يكونوا معزولين مكانيا فقط، بل مستبعدون ومحرومون اجتماعيا أيضا؛ بسبب رداءة المنازل والخدمات التي كانوا يحصلون عليها كمواطنين كويتيين، جعلت من الصعب ضمان ولائهم على المدى الطويل". 

ورغم أن معظم زعماء المعارضة القبلية لا يثيرون قضايا المظلوميات وعدم المساواة في برامجهم الانتخابية السياسية، إلا أن العقود الطويلة من المعاناة التي عاشها البدو تشرح سبب التفاف ناخبيهم بقوة حولهم.

تلفت النقيب إلى أنه مع تصاعد التوترات السياسية في السنوات الأخيرة في الكويت، والهجمات المتزايدة على البدو من قبل شخصيات عامة، ظهر في المقابل خطاب تصالحي من كلا الطرفين، يدعو إلى توحد الكويتيين ونبذ هذه التقسيمات، التي لا تقف على أرضية تحليلية صلبة؛ نظرا لأن معظم الحضر ينحدرون من نسب قبلي وجميع البدو قد تحضروا، مع أهمية إدراك  وقبول حقيقة أن اولئك الذين يطلق عليه "البدو"، باتوا يشكلون الأغلبية السكانية في الكويت، ولا يمكن إقصاؤهم أو تهميشهم، وهم اليوم قوة المعارضة الرئيسية.