قضايا وآراء

الحرب والسلام من السادات للسيسي

1300x600
تجود عليّ ذاكرتي هذه الأيام بفيض من النشاط الغريب، وتعوضنى عما أفتقده من إمكانيات المتابعة الخبرية اللصيقة ما جعلني أتقبل استثناءات لم أكن أتورط فيها من قبل. فمثلا أسعفتنى الآن، وأنا أكتب كلمة "استثناءات"، فأوردت على ذهني أدواته: إِلاَّ، غَيْرُ، سِوَى، عَدَا، خَلا، حَاشَا. وبذلك يمكنني القول: لا أتعاطي مع خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ الرسمية منها على وجه الخصوص، إلا مصورة، حاشا هذه المرة. وهذه المرة لها فؤائدها، فعلى الأقل تجنبت شعور "المهانة" من تدني محصول الرئيس من قواعد اللغة ونحوها، فلطالما أملت أن يخصص وقتا للتدرب على النطق السليم، كي لا يرفع المجرور وينصب الفاعل.

على مدى ثلاثة أيام قرأت كلمات للسيسي مكتوبة بخط غير جيد، وراجعت الكاتب، ودققت معه بعضها، واستوثقته دقة النقل عن المقاطع المصورة، وسألته عن مدتها، ومكانها، وغيرها من الأسئلة، ومع ذلك بقيت مترددا. فما الضروري الذي يحملني على هذا الاستثناء، وتحمّل تبعاته المهنية والأخلاقية، فالمفارقة مستمرة منذ فترة، ولا تثير في الكثيرين أدنى استهجان، لكن ذاكرتي ألحت بمدد مشكور.

أحتفظ بتسجيلات هائلة؛ أرجو أن يتاح لي يوما مراجعتها، وأحفظ جيدا كلمات قاطعة. في خطاب له، أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، قال الرئيس أنور السادات: "إن سلاح الولايات المتحدة هو الذي مكن إسرائيل من تعطيل كل محاولات الحل السلمي لأزمة الشرق الأوسط"، ثم أعلن؛ وفي خضم المعركة، "استراتيجيته" بكل وضوح، مخاطبا من مد العدو بالسلاح: "مصالحكم كلها عندنا وليست في إسرائيل".

نفس الوضوح الذي خاطب به السيسي الرئيس الأمريكي ترامب، في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات.. "ستجدني وبقوة، أيضا، داعما وبشدة كل الجهود التي ستبذل في صفقة القرن.. أنا متأكد أن فخامة الرئيس حيستطيع أن ينجزها". 

كانت غاية الحرب وفق رؤية السادات، إذا، إقناع أمريكا بأن مصر؛ ومن ورائها الأمة العربية كلها، أكثر فائدة لها من إسرائيل، وكان السلام بالنسبة للسيسي معتمدا على ثقته في ترامب.

أبدى السيسي قبل ثلاث سنوات، في كلمته بمناسبة حرب أكتوبر، قناعة بأن "الحرب لم تكن من أجل استرداد الأرض بل كانت من أجل السلام". وفي كلمته بمناسبة العيد التاسع والثلاثين (39) لتحرير سيناء، قبل أيام، تجاهل مسألة استرداد الأرض، وكرر المحتوى: "فلم تكن أبدا الحرب غاية مصر، بل كان السلام هو الهدف الأسمى والغاية الكبرى".

من نقل لي أخبار وخطابات السيسي الأخيرة - خلال ثلاثة أيام - نقل لي أيضا بعض العناوين الصحفية، منها: "السيسي يتحدث عن غاية مصر "الأسمى" من تحرير سيناء من الإسرائيليين"، فسألته: هل لفظ السيسي كلمة "الإسرائيليين"، أو "إسرائيل"، فأجاب سريعا، طبعا ومن كان يحتل سيناء، كائنات فضائية؟ عجيب غريب سؤالك؟! وحين لمح ابتسامة التحدي التي أظهرتها ملامحي دون قصد، نظر الرجل إلى ما كتبه، وأقسم بالله أنه كتب كل لفظ قاله الرئيس، وقرأ بصوت عال، الكلمة الرئاسية الرسمية، وقال: مدة التسجيل خمس دقائق وثماني ثوان، كتبت كل كلمة، ليس هناك لا "الإسرائيليين" ولا "إسرائيل"، عجيب غريب.

صياغة الخبر الصحفي تبرر الشك بأن هناك قصد نكاية أو سخرية، فقد بدأ بهذه الجملة: "قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن الحرب لاسترداد سيناء لم تكن غاية مصر، بل كان السلام هو الهدف الأسمى والغاية الكبرى". ولو وضعت كلمة "فقط" لهان الأمر قليلا، فلو قال الرئيس: "إن غاية مصر من الحرب لم يك فقط استرداد سيناء، بل السلام"، إلى باقي الجملة، أو لو قال: "إن غاية مصر من الحرب لم يك فقط رد العدوان ومنع تكراره.." إلى باقي الجملة، لهان الأمر.

هل التعجب والاستغراب من عدم ذكر اسم العدو في الاحتفالين إفراط في البحث عن سقطات في الخطاب الرسمي؟

في الواقع إن الخطاب الرسمي مجرد حفل اضطراري مناسباتي يراد له أن يكون خاليا من أية وقائع أو اعتبارات سياسية. فالوقائع والوثائق المتاحة تجزم بأن الهدف الرسمي المعلن من حرب 6 أكتوبر 1973، كما يظهر في التوجيهين الاستراتيجيين الذي أصر وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل على الحصول عليهما من السادات، كان محدودا. ففي البداية كان التوجيه ينص على "تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى، وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو". وفي التوجيه الثاني كان هدف الحرب "إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من يوم 6 أكتوبر 1973. تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات. العمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة". أما ما كان يدور في عقل السادات فقد عرفناه في خضم المعركة، وهو إقناع أمريكا بأن العرب أكثر فائدة لمصالحها من إسرائيل.

لا غاية مفهومة للحروب إلا هزيمة العدو، وهو ما تتدرب عليها الجيوش وتستعد له الشعوب. ويأتي السلام من إقرار المهزوم بالهزيمة وقبوله لنتائجها التي تترتب عليها إجراءات، ومواقف وسياسات. وربما عدم ذكر اسم إسرائيل في خطب السيسي جانبها الظاهر البسيط، أما جوانبها الأخرى فهي بلا شك فادحة وممتدة لأجيال قادمة.

الرجل الكريم الذي نقل لي كلمات السيسي الأخيرة أبدى استغرابه الشديد من أخبار على شاكلة: تكريم أبطال حرب أكتوبر في احتفالات ذكرى العاشر من رمضان في الأوبرا، السيسي يعد المصريين بمفاجأة. فالإعلان عن المفاجأة جاء عقب أداء السيسي صلاة الجمعة بمسجد المشير طنطاوي تزامنا مع احتفالات مصر والقوات المسلحة بذكرى العاشر من رمضان، حيث التقى بكبار قادة القوات المسلحة.

وفي حين لم أتبين بدقة وجه الاستغراب، هل هو ذلك الاستثناء الفريد حيث يجرى الاحتفال بحدث واحد على تقويمين مختلفين: ميلادي وهجري، أم في كون اللقاء يجري في قاعة احتفالات ملحقة بمسجد، خمنت أن الالتباس نابع من أنه ليس مدمنا على تقصى الأخبار والأحداث والتدقيق فيها، واستبعدت أن يكون وجه الاستغراب موصولا بهاجس البحث عن "نصيب الأقباط في قيادات القوات المسلحة". فقد يكون الأمر مقبولا عند الحديث عن كرة القدم، أو أقسام طب النساء والتوليد في كليات الطب المصرية، أو غيرها من المهن، أما البحث عن الأمر في الجيش فقد استبعدت أن تثار هواجس الرجل على هذا النحو الفادح في تعريض الأمن القومي لخطر مثل هذه الفتنة.

وبعد نقاش تبين لي أن الاستغراب من الرسالة الإعلامية التي تصدر مباشرة من رئاسة الجمهورية منصب على أن فحوى اللقاء وأسئلة قادة القوات المسلحة للرئيس دارت حول العاصمة الإدارية، وأنها "أرخص وأكسب" من البقاء في القاهرة "المزدحمة"، وأن افتتاحها (العاصمة الإدارية) سيكون إعلانا عن قيام "دولة جديدة"، وكذلك جهود القوات المسلحة في الريف المصري، والآمال في توريد عمالة مصرية إلى ليبيا، وتصدير كهرباء لها، بالإضافة إلى الأردن والعراق.

وماذا كان يتوقع الرجل الكريم؟ نطق كلمات غير مفهومة، وتركني لأكتب ما كتبت.