قضايا وآراء

اللهم صياماً كصيام العجائز

1300x600
ضجَّت مواقع التواصل الاجتماعي طرباً وفرحاً بموقف سيدة مصرية فقيرة أرملة ترعى أيتاماً في حجرها، تعفَّفت عن أخذ مبلغ مالي من يوتويبر في برنامج رمضاني قائلةً بالعامية المصرية: "هي كده حلال؟ أصل مشقتش بها" أي: لم أكدح وأعمل لكسبها فهل هي حلال؟

وسِر فرح الناس وتأثرهم بكاءً بموقف هذه السيدة الغنية بتعففها، الأبية بصدقها، المعلمة رغم أميتها؛ أنها تتعفف رغم شدة عوزها وحاجتها، وتتحرى الحلال الطيب في زمن شاع فيه نهب الحقوق والثروات والاعتداء على المال الخاص والعام، وكأنَّ التعفف عن الكسب الحرام صار أمراً نادراً بين الناس يحتفون بفاعله إذا رأوه لقلته.

الصيام والتحري

هذه المرأة المعلمة جسدت مقصداً من أعظم مقاصد الصيام، وهو التحري والبحث عن الحلال الطيب وتجنب الحرام. فالناس يتحرون في صومهم كل يوم وقت الإفطار والإمساك بالدقيقة، ويتحرون الهلال ليصوموا ويفطروا، ويتحرون المفطرات ويسألون العلماء والفقهاء عنها، ويحذر الناس في نهار الصيام عن بلع شيء أو وصوله إلى الجوف.. كل ذلك لتبرأ ذمة المكلف بأداء العبادة وأن لا يقع الصيام في ما يخل بفريضة الصيام، لكن يجب أن يكون التحري شعاراً للمسلم في حياته كلها، فيتحرى ويسأل ويبحث عن ماله وكسبه ويحرص على أن يكون حلالاً خالصاً، كما يحرص على عدم وصول قطرة ماء إلى جوفه في نهار رمضان. يجب أن يحرص على عدم وصول فلس حرام إلى جيبه، ولا معنى لأن يخاف الصائم من بلع قطرة ماء ولا يبالي ببلع حقوق الناس في جوفه، فكم من صائم بلع حقوق إخوته في الميراث، وكم من تاجر بلع حقوق شركائه، وكم من حاكم بلع ثروات شعبه فأفقرهم وأذلهم وهم الأغنياء، وكم وكم.

إن الصيام يغرس في الصائم معنى التقوى والمراقبة لله عز وجل، وأن يستشعر معنى أن الله يراه. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183). لقد جسَّدت هذه السيدة التي علمت الدنيا بكلماتها معنى التقوى بأن راقبت ربها قبل أن تأخذ المال وهي بحاجة إليه، فسألت: أحلال هو؟

العلاقة بين الصيام وتحري الكسب الحلال الطيب

اعتنى الفقهاء وأئمة السلف بأمر إطابة المأكل والمشرب اعتناءً كبيراً، وعدّ أئمة السلف أكل الحرام أهم سبب يؤدي لقسوة القلب التي أعتبُرها داء هذا العصر. فعندما سئل الإمام أحمد بن حنبل: بم تلين القلوب؟ قال: بأكل الحلال ولم يقل: ذكر الله، بالنظر إلى الآية "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28)، مما يعني أن أكل الحلال أعظم أثرا في ترقيق القلوب من ذكر الله عز وجل.

بل إن أبا حامد الغزالي في "الإحياء" يرى أن "العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها". وهو ما ينطبق على عبادة الصائمين الذين يأكلون الحرام، ولو تحققوا بروح الصيام وقصده لرأينا أثر الصيام في سلوك الناس وتعففهم عن الكسب الحرام أو ما فيه شبهة.

أما إبراهيم بن أدهم فيرى أن إطابة المطعم تُغني عن قيام الليل وصيام النهار، فيقول: "أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم بالليل وتصوم بالنهار". والعلاقة بين الصيام والقيام وتحري الكسب الحلال هي أن الصيام والقيام من العبادات السرية التي تنمي في نفس المسلم ملكة المراقبة والخشية القلبية لله عز وجل، وتحري الحلال الطيب والحرص عليه يحقق نتيجة السرية في الصيام والقيام، فبوسع المتعفف عن الحرام أن يأكله حيث لا يراه الناس، أو لا يمكنهم إقامة دليل إدانة ضده، فإن امتنع عن أكله فإنما يمتنع خوفاً من ربه وحياءً من إطلاعه على فعله ورهباً من المؤاخذة عليه في الآخرة.

وقد جاءت الآيات القرآنية تؤكد على معنى المراقبة وتقوى الله كسبيل موصل لتحري الكسب الحلال وتجنب الحرام أو المشتبهات كقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (المؤمنون: 51)، وقوله: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" (البقرة: 172)، وقوله: "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ" (المائدة: 88)، فتأمل ختام الآيات الثلاثة وترابطها واتصالها بمقصود الصيام وهو التقوى: إني بما تعملون عليم، إن كنتم إياه تعبدون، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.

ألمانيٌ يعتنق الإسلام بسبب تعفف مسلم عن المال الحرام

حدثني إمامٌ تركي أن عاملاً تركياً بسيطاً من أولئك المهاجرين الذين قدموا إلى ألمانيا في بواكير الوجود الإسلامي الحديث في أوروبا، وُلدت له طفلة وكانت الحكومة الألمانية ولا زالت تمنح كل مولود مبلغاً مالياً شهرياً، فاستحق التركي هذا المبلغ بقدوم ابنته إلى الدنيا، ثم سافرت بها زوجته إلى تركيا والمال يحول إلى حسابه كل شهر، لكنَّ ابنته ماتت فور وصولها إلى تركيا، ثم أخفى أهله عنه الخبر كي لا يزعجوه في غربته، إلى أن عاد وعلم بوفاتها بعد عام من سفرها مع أمها إلى تركيا، وكان أول ما فكر فيه المال الذي أخذه عن طفلة لمدة عامٍ ولا حق له فيه، فعاد مباشرة وجمع قيمة ما حول له عن العام وذهب للموظف المختص ليرد المال إليه. ذُهل الموظف الألماني غير المسلم من صنيع الرجل وتعاطف معه لصدقه وقال له: خذ المال واذهب وسأغمض عيني عنك. قال له التركي المسلم: ولكن الله سيسألني عنها يوم القيامة فماذا أقول له؟ وتمسك برد المال كاملا.

في اليوم التالي جاء الموظف الألماني إلى المسجد يسأل الإمام عن الإسلام ويقص عليه ما وقع من الرجل التركي وكيف أثَّر فيه وجعله يسأل: أي دين غرس في هذا الرجل تلك القيم وهذه الأخلاق؟ حدَّثه الإمامُ عن الإسلام وأعطاه نسخةً من القرآن ثم عاد الموظف الألماني بعد أسبوع ليعلن إسلامه في المسجد. فكان العامل التركي البسيط سفيراً وداعيةً للإسلام بخلقه وسبباً في هداية نفس للإيمان بفعله، كما كانت تلك المرأة المصرية الأمية معلمةً ومذكرةً للناس بكلماتها البسيطة التلقائية. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: "إن الصحابة نقلوا الأمم إلى الإسلام ولم ينقلوا الإسلام إلى الأمم".

اللهم إيمانا كإيمان العجائز

موقف هذه السيدة المعلمة ذكرني بالموقف المنسوب إلى الإمام الرازي عندما كان في رحلة إلى نيسابور، وتجمَّع الناس حوله لينهلوا من علمه، فسألت سيدة عجوز من هذا الذي يتهافت الناس حوله؟

فقالوا هذا الرازي، الذي جمع ألفَ دليلٍ على وجود الله، فردت قائلةً: لو لم يكن في قلبه ألف شك ما احتاج ألف دليل!

فلما بلغه قولها قال: اللهم إيماناً كإيمان عجائز نيسابور. يقصد أن المرأة عبّرت بكلماتها العفوية عن صفاء عقيدتها ونقائها فدعا الله أن يكون في إيمانه مثلها.

وأنا أقول: اللهم صياماً كصيام العجائز، فإذا كان صيام العجائز الأميات يعلِّم الخشية لله والتعفف عن الحرام فلنعم الصيام هو. رضي الله عن هذه المرأة المعلمة بحالها، ورزقنا الحلال الطيب، وباعد بيننا وبين الحرام كما باعد بين المشرق والمغرب، والحمد لله رب العالمين.