صحافة دولية

البريطانيون خططوا للتخلي عن البوسنة أثناء مذابح ضد المسلمين

قوات بريطانية في البوسنة أثناء الحرب- ميدل إيست أي

نشر موقع "ميدل إيست أي" البريطاني، تقريرا تناول فيه أن الحكومة البريطانية، خططت سابقا للانسحاب من جيب لجأ إليه المسلمون أثناء حرب البوسنة، أثناء عمليات قتل جماعية كانت تنفذ ضدهم على يد قوات صرب البلاد.

 

ونشر الموقع تفاصيل حول المخطط، مشيرا إلى أن قوات حفظ السلام سبق أن انسحبت من مناطق كان فيها مسلمون نفذ بحقهم لاحقا مذابح لا سيما في "سربرنيتسا".

 

وتاليا النص الكامل للتقرير كما اطلعت عليه "عربي21":

 

وضعت الحكومة البريطانية مخططات لجنودها من أجل الانسحاب من هذا الجيب الذي لجأ إليه المسلمون في ذروة الحرب البوسنية، في تموز/ يوليو 1995، وذلك على الرغم من اطلاعها على عمليات القتل الجماعي التي كانت تنفذ على يد قوات صرب البوسنة.

ولاحقا عثر على حوالي 8300 رجل وولد مقتولين في سربرنيتسا، التي لجأ إليها أيضا المسلمون، وذلك بعد أن انسحب من هذه البلدة الجنود الهولنديون الذين كانوا ضمن قوات حفظ السلام الأممية التي تم نشرها في البوسنة.

وبعد مرور أكثر من ربع قرن لا تزال مذابح سربرنيتسا التي أدين بسببها قادة صرب البوسنة بتهم الإبادة الجماعية، الجريمة الوحشية الأكثر فظاعة التي ترتكب على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.

وصدر مؤخرا فيلم بوسني تلقى تقييمات إيجابية من ناقدي الأفلام، يهدف لتسليط الضوء مرة أخرى على سربرنيتسا، والفشل الكارثي لبعثة حفظ السلام الأممية في المنطقة أثناء انهيار يوغوسلافيا في الحرب الأهلية والعنف الإثني الذي كان دائرا.

هذا الفيلم من إخراج ياسميلا زبانيتش، وهي إحدى الناجيات من حصار سراييفو الذي استمر حوالي أربع سنوات على يد قوات صرب البوسنة. وقد تم اختيار فيلم "كو فاديس، عايدة؟" كأفضل فيلم أجنبي في مهرجان جوائز بافتا في بريطانيا.

إلا أن بعض الوثائق التابعة للحكومة البريطانية، والتي رفعت عنها السرية وتفحصها موقع ميدل إيست آي بكل دقة، تكشف كيف أن جيبا آخر في غورازده لجأ إليه المسلمون، وكان الجنود البريطانيون يمثلون المكون الأكبر لقوات حفظ السلام فيه، واجه مصيرا مشابها لمذبحة سربرنيتسا.

تظهر الوثائق أن وزير الخارجية البريطاني جون ميجور كان مترددا بشأن تعزيز التحصينات في منطقة غورازده، من أجل حماية سكانها البالغ عددهم أكثر من 30 ألفا


إذ ترسم هذه الوثائق صورة مفصلة من وراء الكواليس، لقادة العالم أثناء سعيهم لتحديد الخيار الأقل سوءا من بين ما قدمه لهم المستشارون، في وقت كانت فيه الأحداث تتسارع، وكانت رؤية المخابرات للأوضاع ضبابية، وبات الرأي العام أكثر قلقا في ظل التغطية الإعلامية المتواصلة لهذه الأزمة.

وتظهر هذه الوثائق أن وزير الخارجية البريطاني جون ميجور كان مترددا بشأن تعزيز التحصينات في منطقة غورازده، من أجل حماية سكانها البالغ عددهم أكثر من 30 ألفا، وذلك على الرغم من المشاهد المحزنة التي تعرض يوميا على شاشات التلفزيون، وذلك بحسب ما ذكره سكرتيره الخاص.

كما تظهر أن وزير الدفاع وضع خطط طوارئ لإجلاء القوات البريطانية من المنطقة المحيطة بغورازده في تموز/ يوليو في 1995، في نفس اللحظة التي كانت تنفذ فيها مذابح إبادة عرقية في سربرنيتسا، وكان جيب آخر يسمى زيبا يتعرض للهجوم.

العملية مفك البراغي

 

تقع بلدة غورازده في مفترق طرق استراتيجي وتحيط بها منحدرات شاقة، ولذلك فقد كانت معرضة بشكل كبير للهجوم إثر سقوط سربرنيتسا وزيبا.

هذه البلدات الثلاث الواقعة في الشرق، تم إعلانها مناطق آمنة للمسلمين البوشناق من طرف مجلس الأمن الدولي في 1993، بعد أن سيطرت قوات صرب البوسنة المدعومة من بلغراد على الأراضي المحيطة بها، في إطار تصديها لإعلان البوسنة والهرسك استقلالها في 1992. وكانت قرارات مجلس الأمن التي حددت هذه المناطق الآمنة، قد منحت قوات حفظ السلام الأممية تفويضا لردع الهجمات عليها، ولكنها لم تنص على حماية هؤلاء والدفاع عنهم. بمعنى أن هذه القوات ليست لها صلاحيات إلا في حالة الدفاع عن النفس، كما أنها كانت قليلة التعداد والعتاد.

وتعرضت غورازده لهجوم من صرب البوسنة في 1994، ثم مجددا في آيار/ مايو 1995.

 



وفي 16 تموز/ يوليو 1995، مع تواجد مؤشرات على اقتراب الهجوم النهائي على هذه المناطق، انتهت وزارة الدفاع البريطانية من وضع مخططات تحت الاسم السري مفك البراغي، بهدف إجلاء 350 جنديا بريطانيا من هذه البلدة.

وتشير الوثائق التي رفعت عنها السرية إلى أنه في اليوم الموالي تم إيصال رسالة إلى الحكومة من وزارة الدفاع، تتضمن تفاصيل العملية مفك البراغي، لطلب موافقة جون ميجور.

وفي ذلك الوقت لم يكن حجم جرائم القتل في سربرنيتسا واضحا، إلا أن المنظمات الإنسانية الدولية كانت تدق نواقيس الخطر، وكان الإعلام الدولي يتحدث عن عمليات قتل مدنيين.

وقد تم فصل الرجال والأولاد الذين اعتقلوا في هذه البلدة عن النساء والبنات، اللاتي تم اقتيادهن بالحافلات إلى مناطق تابعة للحكومة البوسنية.

 

تمثلت العملية مفك البراغي في مخطط لإجلاء القوات البريطانية من غورازده في حال تعرض هذا الجيب إلى هجمات من قوات صرب البوسنة.


إلا أن الكشف عن خطة الانسحاب البريطانية لم تكن مفاجأة كبيرة للرجال الذين عملوا في جيش البوسنة والهرسك أثناء الحرب الأهلية.

أحد هؤلاء هو فريد بوليوباسيتش، الذي خدم كمقدم في الجيش الوطني اليوغوسلافي، قبل أن يقود القوات البوسنية في غورازده من منتصف 1992 إلى نهاية 1994، وهو يتذكر أن قوات الحماية الأممية كان يقودها ضباط لم يفهموا طبيعة تلك الحرب.

ويذكر فريد أنه في 1994 قامت طائرات من حلف الناتو باستهداف دبابات صربية كانت مدمرة أصلا.

ويقول: "أستطيع القول إن دور المجتمع الدولي بشكل عام في البوسنة والهرسك كان غير مشرف".

"إن انطباعي العام هو أنهم لم يفهموا أبدا طبيعة الحرب في البوسنة والهرسك، ولم يكونوا أبدا محايدين، وكانوا يتظاهرون بتنفيذ مهامهم، وهنالك العديد من الأدلة على أنهم كانوا منحازين بشكل كبير للصرب".

"لقد تجاهلوا حكومة البوسنة والهرسك وجيش البوسنة والهرسك، وكان تعاملهم مسيسا".

في ذلك الوقت كانت قوات صرب البوسنة تسيطر على كل مخارج ومداخل غورازده، وقد منعت القوات الأممية من الحصول على الدعم، فاضطر البريطانيون إلى تقسيط المؤن المتوفرة لديهم، وكانوا يطبخون على الحطب ويستخدمون الحمير لإيصال المعدات لمراكز المراقبة التابعة لهم.

وتظهر الوثائق بكل وضوح أن جون ميجور كان عازما على عدم السماح بتورط بريطانيا في حرب مع صرب البوسنة، وأن القائد العسكري الأعلى معه، وهو المشير بيتر إينج كان يدعم هذا القرار بشكل كامل.

ويتذكر فريد أن مجموعة من عشرين جنديا من القوات الجوية الخاصة البريطانية، تم سحبها على جناح السرعة بينما كان ذلك الجيب يتعرض للهجوم في نيسان/ أبريل 1994، رغم أنهم تم وضعهم في هذه البلدة ليقوموا بالمراقبة ونقل المعلومات لمايكل روز قائد قوات حفظ السلام الأممية، الذي كان هو أيضا جنرالا بريطانيا. وقد تعرض اثنان من هؤلاء العشرين لجروح أثناء هجوم الصرب، أحدهما فارق الحياة.

ويقول فريد: "عندما جاؤوا إلى البلدة كانوا متحمسين، ويرتدون زيهم العسكري والسترات المضادة للرصاص، إلى جانب وسائل التمويه، ولكن في اللحظة التي ساءت فيها الأوضاع اختفوا تماما".

"ومع تواصل الهجمات، واقتراب قوات صرب البوسنة من غورازده، جاءت طائرة هليكوبتر لنقل عناصر القوات الجوية الخاصة، وقد أخذوا معهم معداتهم وهربوا بعيدا دون إعلام أي أحد ودون القيام بأي شيء. لقد اختفوا بكل بساطة، هكذا ذابوا تحت جنح الليل".

 

 

قوات بريطانية ضمن بعثة حفظ السلام الأممية تظهر في صورة خارج مسجد مدمر قرب فيتاس في البوسنة في 1994


كما قال فريد إنه ليس متفاجئا من أن هنالك مخططات وضعت لانسحاب قوات حفظ السلام البريطانية في حال تعرض غورازده للهجوم، وليست لديه أية شكوك في أن هذا حصل بالفعل.

"إن سلوك قوات حفظ السلام الأممية كان مشابها لسلوك القوات الهولندية في سربرنيتسا، أو ربما مخجلا أكثر".

إحباط جاك شيراك في يوم العيد الوطني

 

هذه الوثائق التي كشفت مؤخرا تظهر أيضا أنه مع تزايد التفاصيل في وسائل الإعلام بشأن عمليات القتل الجماعي في سربرنيتسا، كانت الحكومات في لندن وباريس وواشنطن عاجزة عن الاتفاق على ما يتوجب فعله.

لقد قدمت بريطانيا وفرنسا الجزء الأكبر من قوات حفظ السلام الأممية في البوسنة في ذلك الوقت، فيما بدا واضحا أن التفوق العسكري الأمريكي، خاصة في الجو، كان ضروريا في حال اتخاذ قرار بالتصعيد.

وفي هذه الوثائق يظهر جاك شيراك الذي كان حينها قد انتخب حديثا كرئيس لفرنسا، وقد تملكته حالة من الاندفاع الشديد والرغبة في استخدام القوة، لردع قوات صرب البوسنة عن شن أي هجمات أخرى على الجيوب التي يتواجد فيها المسلمون.

في ذلك الوقت يبدو أن رودريك لاين، السكرتير الخاص لجون ميجور، فسر رغبة شيراك في التحرك على أنها غير واقعية وميؤوس منها.

وعلق لاين بالقول: "إن شيراك عاد للتو من مشاهدة الأسلحة البراقة للجيش الفرنسي في إستعراضات العيد الوطني. وكان يتساءل ما جدوى إرسال جنود وأسلحة إذا لم تكن قادرا على استخدامها لوقف الفظاعات في البوسنة؟".

"لقد شعر شيراك أنه يجب القيام بشيء ما، بين مهمة حفظ السلام وخوض حرب، من أجل ردع الصرب. وقد حاولت تفسير المشاكل العسكرية التي قد تنجر عن اتخاذ موقف في المنتصف بين الأمرين".

وأنهى المستشار لاين تحذيره لجون ميجور بالقول: "لا توجد ضمانات تمنع تمادي شيراك في سلوكه الاستعراضي وغير العقلاني".

 

 

مذكرة من رودريك لاين، السكرتير الخاص لجون ميجور، على إثر مكالمة هاتفية مع مستشار للرئيس الفرنسي جاك شيراك

 

في ذلك الوقت كان الرئيس الأمريكي بيل كلينتون يعبر عن إحباطه أمام الحكومة البوسنية.

وقد كان المسلمون البوشناق يكافحون للدفاع عن أنفسهم، في ظل حظر التسليح المفروض من الأمم المتحدة، في وقت حصل فيه الصرب على كميات كبيرة من العتاد العسكري من جيش يوغوسلافيا سابقا.

وأثناء مكالمة هاتفية مع ميجور، تشير التسجيلات إلى أن كلينتون قال: "من الصعب أن نلقي باللوم على الهولنديين بعد مغادرتهم سربرنيتسا، بينما البوسنيون أنفسهم استسلموا في هذا القتال".

"إن البوسنيين لديهم عادة تتمثل في السعي لإحراج الآخرين أمام الصحافة".

يشار إلى أن بعض الفقرات ضمن تسجيلات هذا الحوار الذي دار بين بيل كلينتون وجون ميجور لا تزال مخفية، حتى بعد مرور ربع قرن، وذلك لدوافع تخص الأمن القومي، على الرغم من رفع السرية في 2019 عن أعداد كبيرة من وثائق الحكومة البريطانية المتعلقة بتلك الفترة.

وفي الأثناء، تسجل هذه الوثائق أن قادة الأركان في هذه الدول الثلاث عقدوا اجتماعا طارئا في لندن، في مساء الأحد الموالي لسقوط سربرنيتسا.

وتشير محاضر الجلسات البريطانية حول ذلك اللقاء إلى أن القادة الثلاثة اعتبروا أن هنالك ثلاثة خيارات واقعية لا رابع لها: وهي إرسال تعزيزات بحوالي 1200 عنصر ضمن قوات حفظ السلام الأممية، وزيادة الهجمات الجوية. أو عدم إرسال تعزيزات على الأرض، ولكن استعراض المزيد من القوة الجوية. أو عدم إرسال أي تعزيزات وترك غورازده لتواجه مصيرها.

 

 

مذكرة من المشير بيتر إينج قائد الجيش البريطاني تعرض الخيارات إثر لقاء مع نظيريه الأمريكي والفرنسي.


وفي اليوم الموالي، في أثناء تنفيذ الهجوم على زيبا، استنتج ميجور أن صرب البوسنة سينتقلون بعد ذلك إلى غورازده.

وذكر السفير البريطاني في بلغراد أن صرب البوسنة كانوا منتشين بعد سيطرتهم على سربرنيتسا دون مواجهة أي معارضة من الأمم المتحدة، وبالتالي فإن سلوكهم كان خطيرا ولا يمكن توقعه.

وتلقى ميجور مشورة مفادها أن المسلمين البوشناق سيقاتلون للدفاع عن غورازده، ولكنهم على الأرجح سينهارون خلال فترة من 7 إلى 14 يوما. إلا أن ميجور قال لشيراك وكلينتون إنه يعتقد بضرورة الاقتصار على ممارسة الضغوط الدبلوماسية، في محاولة لإنقاذ هذه البلدة، وأن محاولة إرسال تعزيزات لقوات الأمم المتحدة ستؤدي إلى وقوع خسائر بشرية ثقيلة في صفوف القوات الفرنسية والبريطانية، إلى جانب التعرض للإهانة في حال احتجاز المئات من الرهائن.

وخلال ذلك العام كانت قوات صرب البوسنة قد احتجزت عناصر حفظ السلام كرهائن، وكثير منهم فرنسيون، وفي بعض الحالات استخدمتهم كدروع بشرية.

وقد تم اختطاف العديد منهم في آيار/ مايو، بعد أن أمر الجنرال روبرت سميث قائد القوات البريطانية في البوسنة بشن غارات جوية على مخازن الذخيرة التابعة للصرب.

وتضمن الرهائن 33 جنديا من فرقة المشاة الويلزية البريطانية المتمركزة في غورازده، إلى جانب فصيل صغير من جنود حفظ السلام الأوكرانيين والنرويجيين.

وشاهد الناس في أنحاء العالم في نشرات الأخبار مقاطع يظهر فيها جنود حفظ السلام وهم مقيدون بالسلاسل إلى الجسور. وفي نهاية ذلك الشهر، بدأت قوات صرب البوسنة بإصدار أوامر للقوات البريطانية بمغادرة مراكز المراقبة حول تلك البلدة، كما استولت على بعض عرباتهم المدرعة.

ومع توقع تجدد الهجمات الصربية، انتقل الكثيرون من فرقة المشاة البريطانية إلى الغابة التي تقع على بعد ساعات من البلدة.

وقد تم إجلاؤهم من خلال مخرج قريب، بينما كان مسلمو البوسنة يأملون أنه بعد هذا الانسحاب سيغنمون عتادهم العسكري الثقيل.

وقبل ذلك كانت حوالي 500 قذيفة تسقط يوميا على غورازده، وكان قائد قوات المشاة البريطانية، المقدم جوناثان رايلي، قد أصدر أوامره لهؤلاء باستخدام اللغة الويلزية فقط عند التحدث عبر أجهزة الراديو.

لعبة بوكر عالية المخاطر

 

وفي الصبيحة الموالية لهذا اللقاء مع نظرائه الأدميرال جاك لنكساد من فرنسا والجنرال جون شاليكشفيلي من الولايات المتحدة، كتب المشير إينج تقريرا لرئيس الحكومة في لندن يقول فيه: "إن اللقاء كان صعبا للغاية، وفي بعض الأحيان متوترا".

فبينما كانت باريس متحمسة للدفاع عن غورازده، كان الفرنسيون في حال سقوط هذه البلدة في يد الصرب مستعدين لمغادرة البوسنة بشكل كامل، بحسب ما أكده إينج، الذي أضاف أن الفرنسيين أرادوا تطمينات بريطانية بأنهم في حال تراجعهم للعاصمة البوسنية سراييفو، سيرسل لهم البريطانيون تعزيزات.

وخلف الكواليس كان هنالك خلاف بين لندن وواشنطن، حول كيفية التعامل مع حرب البوسنة. إذ أن رئيس الحكومة البريطانية اعتقد أن أي محاولة لرفع حظر التسلح المفروض سوف تمكن الصرب والكروات، الذين كانوا يقاتلون من أجل السيطرة الميدانية، من تقاسم البوسنة بشكل سريع، قبل أن يتمكن المسلمون البوشناق من الحصول على أية أسلحة ثقيلة كانوا بأمس الحاجة إليها، وبالتالي فإن هذا سيضع القوات البريطانية في خطر.



ناقلة جنود مدرعة بريطانية في البوسنة في 1993


وفي ظل تزايد الضغوط من واشنطن لرفع الحظر، كتب جون ميجور في مذكراته لاحقا أن "الخلافات السياسية حول كيفية التعامل مع البوسنة كانت ستتسع، لتصبح أكبر خلاف بين واشنطن ولندن منذ أزمة قناة السويس قبل 30 عاما".

واعتبر الأمريكيون أن بلدة غورازده هي مشكلة البريطانيين والفرنسيين، ويجب عليهم التقرير بشأنها، كما اعتبروا أن الدفاع عن سراييفو هو الهدف الاستراتيجي الأهم بالنسبة لهم.

وفي الأثناء اعتقد المشير إينج أن الفرنسيين لم يكونوا مدركين للحقائق العسكرية، حيث أن الوضع بات يشبه لعبة بوكر عالية المخاطر، فيما كان الأمريكيون مستعدين للاستماع لرأي البريطانيين. وقد تمثلت نصيحة إينج في أنه "في حال ما قررت الحكومة البريطانية الإبقاء على قواتها في غورازده، فإنه يجب علينا تنفيذ هذه المهمة بكل حزم في إطار مهمة إنسانية لحفظ السلام فقط، ثم السعي وراء التفاوض على انسحاب يحفظ الكرامة كما فعل الهولنديون، مع الاستعداد في نفس الوقت لاستخدام القوة الجوية".

وأوضح إينج أنه حاول دفع الفرنسيين والأمريكيين لتبني الأهداف التي وضعتها الحكومة في لندن، وأرسلتها له قبل يوم من لقائه مع نظرائه قادة الأركان في هذه الدول.

وتشير الوثائق التي كشف عنها إلى أن وصفه للانسحاب الهولندي من غورازده بأنه "انسحاب مع الحفاظ على الكرامة"، ربما يكون هدفه التماهي مع الموقف الرسمي البريطاني. وقبل ذلك بأيام قليلة كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد عبر عن غضبه، وندد بما وصفه بأنه "جبن 700 جندي هولندي تخلوا عن سربرنيتسا".

إلا أن ميجور الذي كان على علم بالمخططات التي تم تجهيزها لإجلاء قوات حفظ السلام البريطانية من غورازده، سارع للاتصال برئيس الوزراء الهولندي فيم كوك للتعبير عن استيائه من تعليقات شيراك. وأخبره أيضا أنه تحدث مع كلينتون وكان هو أيضا غاضبا من الموقف الفرنسي من القوات الهولندية.

وأعقبت ذلك رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني مالكولم ريفكيند إلى رئيس الوزراء الهولندي جاء فيها: "إن المملكة المتحدة تعتبر أن قوات حفظ السلام الهولندية في سربرنيتسا أدت واجبها بشكل رائع وبكثير من الشجاعة. يحق لهولندا أن تفتخر بذلك".

 

برقية من وزير الخارجية البريطاني مالكولم ريفكيند لرئيس الوزراء الهولندي فيم كوك، يثني فيها على تصرف القوات الهولندية في سربرنيتسا


في ذلك الوقت كانت العلاقة بين شيراك وكوك متأزمة، ويقول ميجور في مذكراته إنه قبل أسابيع قليلة، خلال عشاء في باريس، ندد شيراك بنظيره الهولندي، معتبرا أنه يقود دولة تجارة مخدرات، واشتكى من الممنوعات التي كانت تأتي من أمستردام وتضر بالشباب الفرنسي.

كما أن العلاقات بين لندن وباريس أيضا كانت تمر بفترة فتور، إذ أنه في وقت سابق من ذلك الصيف، بدأت الشكوك تخامر لندن بشأن عقد باريس اتفاقا مع الصرب، ينص على إيقاف الغارات الجوية في مقابل الإفراج عن رهائن فرنسيين.

ومن نيويورك أعلن الممثل الدائم لبريطانيا في الأمم المتحدة، ديفيد هاناي، أن كوفي عنان المسؤول في ذلك الوقت عن عمليات قوات حفظ السلام، كان غاضبا جدا من المواقف الفرنسية.

وفي تلخيص للمعضلة التي واجهتها لندن، قال إدوارد أوكدين، وهو مستشار خاص لرئيس الحكومة، "إن ميجور كان أمامه خياران، إما أن نعتبر أن هذه لحظة مفصلية، وأن الشرف الوطني وصورتنا أمام العالم وواجبنا الأخلاقي يملي علينا أن نضع جانبا الحسابات العسكرية والتردد، ونمضي قدما في ما نرى أنه الحق، ونتقبل فرضية سقوط قتلى بريطانيين كثمن ضروري لإيقاف سلوك صرب البوسنة الشرير والذي لا يمكن التغاضي عنه، في الجيوب التي يتحصن فيها المسلمون".


"هذا نفس الأساس الذي جعلنا في السابق نطلق عملية عسكرية في جزر الفلكلاند".

"هذا الأمر كان سيعني إعلان الحرب، وسيتطلب وجود قوات أمريكية على الأرض، وبأعداد كبيرة. وهنالك خيار آخر، وهو أن تتمسك بريطانيا بموقفها المتمثل في أنها غير مستعدة لتغيير طبيعة المهمة الأممية والذهاب للحرب مع الصرب".

وفي حال قرر جون ميجور الذهاب للخيار الثاني، يجب على بريطانيا أن تتجنب اتهامها بأنها البلد المسؤول عن هزيمة مسلمي البوسنة، لأن هذا ستكون له تأثيرات على العلاقات التجارية مع العالم الإسلامي.

وتظهر الوثائق السرية أن شخصا ما في مقر الحكومة البريطانية، ربما يكون جون ميجور نفسه، دوّن إشارة على الورقة تدل على أهمية هذه الفقرة الأخيرة.

كما تلقى ميجور مشورة مفادها أن رئيس الحكومة عليه التحرك بسرعة، دون التضحية بعطلته الصيفية. وقد دوّن أيضا علامة تظهر موافقته على هذه الجملة.

وفي الأثناء في غورازده بدأت قوات المسلمين البوشناق في مداهمة معسكرات قوات حفظ السلام الأوكرانية، للاستيلاء على أسلحتهم والسترات الواقية وأجهزة الراديو والمعدات الطبية.

مصنف سري

 

وبناء على هذا الوضع تم الانتهاء من إعداد مخطط إجلاء قوات حفظ السلام البريطانية.

هذه العملية المسماة مفك البراغي، والتي صنفت سرية وسمح فقط للبريطانيين بالاطلاع عليها، تضمنت تجنيد 1500 شخص للإسناد والدعم، وسربا مكونا من 30 طائرة هيليكوبتر و14 طائرة مقاتلة واستخدام قاعدة جوية إيطالية.

وقد تحدث المشير إينج إلى نظيره الإيطالي، الذي تعهد بالحصول على الموافقة الرسمية لحكومة بلاده. وقال إينج: "نحن نأمل أن عملية انتشال الجنود من غورازده لن تتطلب أكثر من 10 أو 15 دقيقة، ولن يتم تنفيذها قبل بداية هجوم صرب البوسنة على هذه البلدة، وعند تعرض القوات البريطانية لإصابات. إذ أن الحكومة البريطانية لم ترغب في أن ينظر إليها على أنها تخلت عن هذه البلدة وسكانها دون وجود تبادل لإطلاق النار. كما تطلبت العملية موافقة قادة القوات الأممية في البوسنة".

ورغم أن القوات المشاركة في تنفيذ العملية مفك البراغي كانت في وضع استعداد منذ البداية، فقد تطلب الأمر ثمانية أيام لنقلها لإيطاليا ثم القيام بالإجلاء. وفي رسالة مكتوبة بخط اليد على غلاف وثيقة المخطط، قال أوكدين إنه نظر إلى العملية مفك البراغي على أنها حذرة حتى بالمعايير العسكرية، إلا أنه أضاف أنها تتضمن رغم ذلك قدرا عاليا من الخطر.

فيما كان جون ميجور متشككا بشأنها، وكتب تعليقا على وثيقة المخطط قال فيه: "إن هذا ليس بالخيار السهل، تعقيد الوضع كان عاملا مؤثرا".

 

 

ملاحظة بخط اليد من جون ميجور كتب فيها: هذا ليس بالخيار السهل، تعقيد الوضع كان عاملا مؤثرا.


ولكن ما لم تسجله هذه الوثائق التي رفعت عنها السرية، هو أنه في إحدى مراحل هذه الأزمة حول بلدة غورازده، اتصل جون ميجور برايلي في مركز القيادة وطلب منه رأيه حول ما إذا كان صرب البوسنة ينوون السيطرة عليها. وجاءت الإجابة: "بالطبع الصرب ينوون السيطرة على غورازده".

مسؤولية فشل حلف الناتو تقع على لندن


وفي حال عدم شن صرب البوسنة هجوما على غورازده، فإن عملية مفك البراغي لم تكن لتحدث.

ولاحقا كتب رايلي بعد إعفائه من مهامه: "من الصعب وصف طبيعة العمليات هناك، ومن المستحيل على من لم يكونوا هناك أن يفهموا طبيعة الحياة في تلك المنطقة".

ومع نهاية الشهر، على إثر انعقاد مؤتمر دولي حول البوسنة في لندن، اتفق وزراء دول الناتو على أن أي هجوم على هذه البلدة يجب أن يقابل بغارات جوية موجهة، وهذا كان الخيار المفضل لدى كلينتون.

وأشار جون ميجور إلى أنه بنهاية ذلك المؤتمر، تخلت الولايات المتحدة عن إصرارها على تنفيذ قصف شامل، فيما تراجع الفرنسيون أيضا عن بعض المخططات الخطيرة التي اقترحوها لإعادة استرجاع السيطرة على سربرنيتسا.

وفي النهاية تم شن غارات جوية في الشهر الموالي، بعد أن نفذت قوات صرب البوسنة هجوما بالقذائف على سوق مفتوح في سراييفو، أدى لسقوط 43 قتيلا و75 جريحا.

كما تم شن العديد من الهجمات المضادة، ثم الاتفاق على وقف إطلاق النار، وبحلول شهر نوفمبر/ تشرين الثاني تم التوصل لاتفاق سلام. بعد ذلك تم نشر عشرات الآلاف من قوات حفظ السلام في أنحاء البوسنة، تحت مظلة حلف الناتو.

وواصل شبح سربرنيتسا ملاحقة الهولنديين لسنوات، ففي العام 2002 استقال فيم كوك وكامل أعضاء حكومته، بعد أن توصل تقرير هولندي إلى تحميل مسؤولية هذه المجزرة للقيادة السياسية والعسكرية للبلاد، إلى جانب منظمة الأمم المتحدة.

كما لاحق شبح هذا الفشل المملكة المتحدة. إذ أن روبرت هنتر الذي كان حينها سفير واشنطن لدى الناتو، قال "إن بريطانيا تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في ما حصل في سربرنيتسا. إن فشل الناتو في التحرك يقع على لندن".

أما دوغلاس هيرد، الذي كان وزير خارجية بريطانيا حتى أسابيع قليلة قبل سقوط سربرنيتسا وحدوث جرائم الإبادة الجماعية، فقد كتب لاحقا "إن رفع حظر التسليح كان سيخلق توازنا في القدرات العسكرية للطرفين. وأولئك الذين تولوا رسم سياستنا تجاه البوسنة يجب عليهم أن يشعروا بالخجل."

أما جون ميجور من ناحيته فقد كتب لاحقا: "كقائد وعضو في المجتمع الدولي أتقبل اللوم الذي يجب أن يقع على عاتق الجميع، بسبب فشل العالم الخارجي في التعامل مع الأزمة في أثناء حدوثها وفي السنوات اللاحقة. ولكن رغم ذلك يجب الإقرار بأن بريطانيا بذلت جهدا أكثر من أغلب الآخرين".