الذاكرة السياسية

مذكرات جار الله عمر: هذا ما جرى في مجزرة يناير 1986 باليمن

جار الله عمر: حان الوقت لنرمي الكلاشنكوف ونبحث عن حلول أخرى لمشاكل اليمن (فيسبوك)

وافق الجميع على رئاسة علي ناصر محمد وأنا منهم. كان ذكيا نسج علاقات عامة مع الآخرين. علاقتي الشخصية معه كانت جيدة جدا ولم تكن سرية. جاء إلى منزلي دون أن تكون زوجته صديقة لزوجتي. كان يهتم بأولادي كثيرا ويتصل بهم. كنت أرتاح للجلسة الشخصية وغير السياسية مع علي ناصر أكثر من البيض. كانت لديه روح الدعابة. لا أستطيع أن أتحول إلى قاضي بالنسبة لعلي ناصر محمد في الظرف الحالي. 

كنت خلال أحداث كانون الثاني/يناير طرفا في مواجهته، ولا أريد أن أصدر أحكاما عليه؛ لأن أقوالي ستكون متأثرة بالصراع، ولكن أريد القول بأن علي ناصر لديه إيجابيات كثيرة، ويتمتع بقدرة على المناورة والتراجع، بخلاف علي البيض الذي حين يرفض أو يبرر أمرا، لا يستطيع أن يتراجع عنه.

حصل انشقاق لاحقا بين علي ناصر وعلي عنتر. كنا (حزب الوحدة الشعبية وقيادة الجبهة الوطنية) عندما وقع الانشقاق نناقش الموقف الواجب اتخاذه من هذا الانقسام. كان المكتب السياسي للحزب الاشتراكي قد انقسم إلى ثلاثة أقسام؛ قسم مع علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل (قبل أن يعود من موسكو)، وقسم مع علي ناصر، وقسم محايد. ونحن (الشماليون في حزب الوحدة والجبهة الوطنية) تعرضنا للانقسام نفسه. 

كان المرحوم سلطان أحمد عمر والحافظ والسلامي يقفون إلى جانب علي ناصر والمرحوم حسين الهُمزة وعبد الواحد المرادي، وآخرون يقفون إلى جانب علي عنتر ومن ثم عبد الفتاح إسماعيل، وكان يحيى الشامي وجارالله عمر وأحمد علي السلامي ومجموعة أخرى تقف في الوسط؛ إذ وقف مجاهد الكهالي ومجموعة من الرفاق مع علي ناصر، وآخرون مع علي عنتر. نحن جماعة الوسط كنا نبحث عن حل واتفقنا مع صالح مصلح، وهو كان أيضا من اشتراكيي الوسط مثلنا، ألا تقوم الحرب وألا يندلع القتال على السلطة؛ لأننا كنا نعتقد أن انقسام الجيش والتنظيم والحكومة سيؤدي إلى خسارة نفوذنا في الشمال أيضا. 

كان صالح مصلح يقول إنه لا يريد انقسام الجيش، وكنا جادين بمنع الانقسام، وقد عُرِضَ مرة على صالح مصلح القيام بانقلاب عسكري والإطاحة بعلي ناصر، فرفض العرض ونطق بعبارته الشهيرة "سأقوم بهذا الانقلاب اليوم، أما غدا فسينقلب علي رائد في الجيش. لا نريد إدخال الجيش في الصراع". قال: يجب أن يظل جيشنا مأمورا من المكتب السياسي واللجنة المركزية. أعطوني 50 بالمئة زائد صوت واحد في اللجنة المركزية، وأنا أنفذ القرار، لا فرق إن جاء لصالح علي ناصر أو علي عنتر.

لم نتمكن من مواصلة الحياد فاشتد الصراع وضاق هامش المناورة، وتوترت الأجواء وعاد عبدالفتاح من موسكو فاتسع الاستقطاب، علما أنني كنت مع عودته. كتب لي صالح مصلح رسالة قبل أن يسافر إلى الاتحاد السوفييتي، قائلا: "كنت ضد عبدالفتاح، ولكنني سأذهب لزيارته. أريد لهذا الرجل أن يعود رغم خلافي معه. هو الوحيد الباقي من الوطنيين الذين فاوضوا المحتل الإنجليزي في جنيف، والذين قال عنهم المندوب السامي؛ إنهم وطنيون من العيار الثقيل". اتخذ علي عنتر الموقف نفسه فعاد "فتاح"، وازداد بعودته وزن علي عنتر وجماعته وزادت حدة الاستقطاب، فوجدنا أنفسنا في معسكر علي عنتر وعبد الفتاح، وبوعي كامل. نحن كنا محايدين إلى ما قبل الانفجار بـ 3 أو 4 أسابيع.

 

عانت اليمن من العنف ألف عام ولم يحدث انتقال سلمي للسلطة، ولذلك حان الوقت لتحيا اليمن حياة سعيدة عبر إدانة ثقافة العنف والتخلي عن الحروب، وأن نرمي الكلاشنكوف جانبا ونتجه إلى أدوات الحراثة والقرطاس والقلم. هذا الذي ينقذ اليمن من مآسيها.

 


كان من المفترض أن أكون في اجتماع المكتب السياسي (حيث وقعت المجزرة)، لكني تأخرت لبضعة دقائق بسبب زيارة مفاجئة إلى بيتي من المرحوم الشهيد عبد الكريم الجهني وعبد الرحمن سيلان وهو مازال حيا. طلبا مني معاملة بعض الأوراق الرسمية فتأخرت 10 دقائق، ثم ذهبت بسيارة الجهمي للالتحاق بالاجتماع. وصلت إلى باب مقر اللجنة المركزية فوجدته مقفلا وتسمع أصوات الرصاص في داخله، لم أتوقع أنه إطلاق نار للوهلة الأولى، اعتقدت أن البعض يصطاد الغربان مثلما كان يحصل في عدن، ولكن قال الإخوان هذا قتال. أردت الدخول فمنعني عبد الكريم الجهني وعبد الرحمن سيلان، وأخذاني إلى "خور مكسر"، وقد بدأت رقعة المعركة تتوسع. 

عدت إلى منزل صالح مصلح، فقالوا لي إنه ذهب إلى الاجتماع، ثم رجعنا إلى منزل حسين الهمزة، فوجدناه نائما، أخبرناه بما شاهدنا فقال: يجب أن نتصل بالمعنيين. اتصل بوزارة الدفاع فأجابه حسان حسين الذي كان نائب رئيس الاستخبارات العسكرية. قال له: حدث انقلاب عسكري وتم الاستيلاء على وزراة الدفاع، عبدالله هو المسيطر. (عبد الله علي عليوة وهو جنرال من محافظة شبوة ومن أنصار علي ناصر محمد). وسأله أين هيثم؟ (هيثم قاسم طاهر جنرال من أنصار علي سالم البيض) فقال: كلهم انسحبوا. 

احترنا أين نذهب ونحن نجهل تطورات الموقف، خصوصا بعد أن قيل لنا إن الطرف الآخر (علي ناصر محمد) سيطر على الوضع. ذهبنا إلى المنصورة (مدينة في محافظة عدن) أنا وعبد الكريم الجهمي وحسين الهمزة وعبد الرحمن سيلان، وبحثنا عن مكان نجلس فيه، واختلفنا هناك؛ هل نبقى أم نذهب إلى لحج؟ الطرق كانت مقطوعة وكنا نبحث عن مكان نختفي فيه. 

رجعنا إلى بيتي، فقالت زوجتي اتصل محمود عُشيش، وقال إن المعركة بدأت وإطلاق النار عندهم قوي، وأن عليك أن تخرج من البيت وتبحث عن مكان تختبئ فيه (استشهد عشيش في هذه المعركة من بعد) انسحبنا إلى المنصورة. وقفنا في مكان محايد هناك، فقال لي عبد الكريم الجهمي: من الأفضل أن تدخل إلى منزلي. دخلنا إلى منزله ووجدنا أن العمارة التي يسكنها مشتركة بينه وبين الجناح الآخر. جلسنا بصمت وشاهدنا الدبابات تخرج من صلاح الدين والقتال ينتشر تقريبا في كل مدينة عدن، بما في ذلك المنطقة التي نوجد فيها. كان الأخ علي حنش من الطرف الآخر موجودا في المبنى نفسه. هم يخزنون (القات) ومعهم السلاح والذخائر تحت، ونحن في الغرفة فوق. لم يعلموا بوجودنا. توسع القتال في الظهيرة وأقفلت الدبابات المنافذ من عدن إلى أبين، بعد أن خرج هيثم هاربا من وزارة الدفاع ووصل إلى الكلية العسكرية. استنفر هناك الدبابات والكلية الحربية وقوات المشاة وسيطروا على "صلاح الدين" والكلية وما حولها، بعدها بدأت القوات تتحرك من صلاح الدين ومن لحج ومن مناطق عديدة، وصار الاشتباك شاملا كما بات معروفا لنا جميعا.
 
بعد الظهر، بدأنا الاتصالات التلفونية. طلبنا محمد سعيد عبدالله (محسن) وعملنا شبكة من التواصل وسألنا عن وضع الجماعة في المكتب السياسي، فقال: بعضهم مجروح وبعضهم أحياء. وبعد قليل سمعنا بيانا من إذاعة عدن، يقول؛ إنه قد تم إعدام عبدالفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض وفلان وفلان... صدقنا الخبر، ولكن اتصل محسن بعد قليل وقال لم يعدموا، وأن الاشتباك حصل في المكتب السياسي، وبعضهم سقط وبعضهم حي ويمكنك أن تسمع صوت علي البيض شخصيا. 

تكلم البيض معي وقال: وضعنا صعب وبعض الإخوة مصابون، يمكنكم أن تشكلوا قيادة سياسية وتتصرفوا إن استطعتم. تم هذا الحوار في الساعة الرابعة بعد الظهر. كنا على اتصال مع هيثم والشخصيات المدنية والعسكرية؛ لأننا في موقع أكثر أمانا من غيرنا، ولا أحد يعرف مكاننا، وكنا على صلة ببعض الإخوان من الطرف الآخر، في محاولة لتدارك الموقف.

في هذا الوقت، اتصل بنا "بن حسينون" وقال إن علي عنتر استشهد وعلي شايع استشهد وصالح مصلح استشهد وباقي فلان وفلان، وإن سالم صالح خرج ويحيى الشامي وأحمد السلامي وعلي البيض وهؤلاء موزعون في الأماكن المختلفة. تمكنوا من جلب أسلحة حرسهم بواسطة ستائر الواجهات الزجاجية، إذ قطعوها وصنعوا منها حبالا وأرسلوها إلى الأسفل حيث يقف الحراس.

قتل معظم الحراس الذين دافعوا عن أنفسهم وصدوا الهجمات الأخيرة عن الرفاق المحاصرين في المكتب السياسي. 

بدأنا نعمل حسين الهمزة وأنا بالتعاون مع جرهوم (محمد أحمد جرهوم كان وزيرا للإعلام في حكومة الوحدة الأولى) لإصدار بيان، نؤكد فيه أن كل من انضم إلى كتلة علي ناصر بالرأي وبالموقف السياسي فلا حرج عليه. كنا نريد منع حالة الانتقام وقلنا إن كل من ارتكب عملا جنائيا يبت القضاء بأمره.

حصلت أعمال عنف سيئة، لكن هدأت الأمور من بعد، واستعاد المكتب السياسي سلطته والحكومة شكلت.

حاولت منظمة التحرير الفلسطينية الفصل بين القوات بالتعاون مع الشمال، وكان الاتحاد السوفييتي يتعاطف مع هذه الرغبة. أرسلوا 7 إنذارات للقيادة الجديدة بهذا المعنى. قلنا إن عدن لا يمكن أن تظل مقسمة ولا يمكن أن تكون مثل بيروت (كانت بيروت خلال الحرب الأهلية منقسمة بين القسم الشرقي تحت سيطرة اليمين المسيحي، والقسم الغربي بإدارة اليسار والمسلمين)، ولا بد من دولة لأي طرف. 

رفضنا التدخل الشمالي ـ الفلسطيني والتدخل الأثيوبي أيضا

 
كان السوفييت يريدون في المرحلة الأولى التفاهم والحل الوسط، لكنهم غيروا رأيهم عندما رأوا أن جناح علي عنتر وعبد الفتاح قد انتصر، فتعاملوا مع الأمر الواقع واعترفوا به وصاروا عاملا مهما ومؤثرا في منع التدخل الأثيوبي والتدخل الفلسطيني واليمني الشمالي. أرسل الرئيس صالح قوات استطلاع إلى أبين وكمية من الأسلحة، لكن المعركة كانت قد حسمت، وبعد إنهائها طُلِبَ مني أن أذهب مع هيثم وصالح عبيد إلى مكيراس (محافظة البيضاء) للسيطرة على محافظة أبين. لم تحصل معارك في المحافظة أو خسائر بشرية، وأشهد أن الجيش الجنوبي تصرف بمسؤولية في هذه المحافظة التي ينتمي إليها علي ناصر محمد. حصلت أعمال انتقامية من الناس في أبين ولحج، لكن عدد القتلى لم يصل إلى 12 ألفا كما أذيع. الرقم الدقيق للقتلى من كل الأطراف هو 3475 ضحية، وهي خسارة كبيرة شملت كل المحافظات.

سيطر الجيش عندما رُفِعتْ الأعلام البيضاء في القرى. لم يتدخل الجيش في شؤون القرى ولم يأكل الجنود في أي منها ولم يعتدوا ولم ينهبوا. خرج جماعة علي ناصر إلى الشمال ليسيطروا على الحدود بين الشمال والجنوب فقط. عدنا بعد أن استقرت الأمور في هيليكوبتر إلى عدن.

إنقاذ المهزومين

حصل نزاع في المكتب السياسي بين من يريد العقاب الأشد للمتورطين وجناح معتدل من ضمنه يحيى الشامي وحيدر العطاس وأنا والدكتور ياسين سعيد نعمان وسيف صايل. شكلنا مجموعة معتدلة لإدارة حالة من الاضطراب والتوتر داخل الجيش بسبب الضحايا، بعد ذلك تمكنا من إيصال الناس إلى التهدئة، بالمقابل كنت أتعرض لهجوم من صنعاء وكان علي ناصر يصفني بأنني أكبر المتشددين، وأن أصحاب المناطق الوسطى والجبهة الوطنية هم السبب في هذه المعارك، وكنا نتعرض لهجوم في عدن من المنتصرين أيضا، ونتهم بأننا مع الزمرة (أنصار علي ناصر). ومن  الأمور التي أتذكرها وأعتز بها الآن، أنني أديت دورا كبيرا في إنقاذ الكثير من الزملاء والقادة مثل سلطان أحمد عمر وحسن شكري  ومجاهد القهالي. أتيت بهم إلى منزلي وقعدوا داخل المنزل لمدة شهر، لا يخرجون ويأكلون ويشربون داخل البيت، وزوجتي تعتني بهم من دون أن يعرف أحد بوجودهم. بعضهم كان معرضا للخطر. لو قتل هؤلاء لكان أمرا خطيرا. ذهبت إلى لحج أيضا وأنقذت أحمد السلامي وآخرين في آخر لحظة، وجئت بهم إلى منزلي وأسكنتهم عندي.

كان أحد ضباط الطرف الآخر مكلفا باعتقالي وقتلي. هذا الشخص اعتقله الأمن وحققوا معه فقال: "أنا كنت مكلفا باعتقال جارالله". طالبت بإطلاق سراحه. قال لي سعيد صالح: هذه مزايدة. هذا كان مكلفا بقتلك، فقلت: أريد أن نزايد جميعا في هذا الموضوع. قال لي: اكتب لي رسالة بهذا المعنى. كتبت له رسالة وأطلق سراحه. زارني (الضابط المفترض) بعد ذلك وشكرني، وهو مازال يعمل حتى الآن في جهاز الشرطة في صنعاء.

فتحت أحداث كانون الثاني/يناير أعيننا على أفكار ومنطلقات جديدة، فقد جعلنا هذا الحدث المأساوي نفكر بطريقة مختلفة ونبحث عن جواب لسؤال: لماذا يحدث هذا في حزب واحد؟ في هذا الوقت، بدأت أتعرف على أفكار جديدة ومن ضمنها كتاب غارودي "منعطف الاشتراكية الكبير" الذي قال فيه؛ إنه بعد أحداث تشيكوسلوفاكيا لن يؤمن بشيء إلا وعيناه مفتحتان، واعتمدت ما قاله أنجلس في "انتي دوهرنغ" من أن أهم ما فعله التنويريون أنهم أعلوا من شأن العقل.

جورج حبش وجورج حاوي

كنا في الحزب الاشتراكي ضد جورج حاوي الذي زار عدن قبل أحداث كانون الثاني/يناير. ولا أستطيع أن أشهد على الدور الذي أداه لأن هناك روايات مختلفة. أما ما شهدت عليه، فهو محاولة جورج حبش قبل المؤتمر أو في أثناء المؤتمر الثالث أن يجلس مع كل الأطراف في عدة جلسات للتوصل إلى حلول، لكن الأجواء المتوترة كانت تنطوي على الكثير من الريبة والشك. كانت الأمور قد وصلت إلى نقطة اللاعودة وتعدت الحل الوسط. أشهد أن حبش كان مخلصا وصادقا وحريصا على ألا تراق الدماء.

أتذكر في هذا المضمار، أن الكثير من أصدقائنا صاروا بعد الحرب أعداء وصرنا على ضفتين متقابلتين. أتذكر صداقتي مع مجاهد القهالي وأبو بكر باذيب وصداقاتي العائلية والحميمة مع محمد قاسم الثور وهو عضو مكتب سياسي. عندما هرب مع علي ناصر إلى صنعاء، حاولت أن أدافع عن عائلته، فتدخل بعض رفاقي وقالوا، لماذا تدافع عن هذا الشخص؟ قلت: هو رفيق اختلفنا معه وزوجته مناضلة، فقالوا: هذا مسؤول عن الحزب المنشق في صنعاء. 

 

كانت الحروب الأهلية في الشمال أوسع نطاقا مما يجري في الجنوب؛ رئيس وزراء في صنعاء يقتل مواطنا بقضيب حديد. نائب رئيس الجمهورية محمد حسن الرعيني يعدم في صنعاء. الإمام يحيى يقتل. الإمام أحمد يقتل. الإمام البدر يخلع. الحمدي يقتل والغشمي أيضا.

 



في هذا الوقت، وصلت رسالة منه إلى زوجته، اختطفناها في الطريق بين تعز وعدن وصورناها وسلمت الرسالة إلى زوجته. اطلعت على نصها وأحزنني إذ قال فيها: لقد شاءت الظروف القاسية أن تكون هكذا وأن نصل إلى هذا الوضع، و"ستسمعين عني كلاما كثيرا؛ إنني سأخون الحزب أو سأفرط بأسراره  للأمن، ولكن ثقي بأنني لن أقدم على شيء يجعل أولادي يطأطئون رؤوسهم من بعدي". أبكتني هذه العبارة، ومازال محمد قاسم الثور حتى اليوم عضوا في المكتب السياسي ومن الأخيار في الحزب، وهو طبيب من صنعاء.

حسمت معركة 13 كانون الثاني/يناير عبر أغلبية جناح علي عنتر في الجيش، ولا شك أن هيثم قاسم طاهر أدى دورا أساسيا في هذه المعركة من الناحية التكتيكية. كانت لحج إلى جانبنا وهي منطقة علي عنتر. لقد أدى ميزان القوى إلى حسم المعركة لصالحنا. كانت النسبة 4 لنا مقابل 1 لهم ولا تصدق أي كلام آخر. لم يتدخل السوفييت. كانوا بداية مع علي ناصر ثم مع الحل بين الطرفين ثم وقفوا واقعيا إلى جانب المنتصرين. 

لم أعد أتذكر عدد الذين خرجوا مع علي ناصر، لكن ربما وصل العدد إلى 12 ألف عسكري. الجيش انقسم وكان كبيرا. معظم قتلى الحرب من أعضاء الحزب في عدن. لم تسقط إلا عاملة واحدة للنظافة في مبنى اللجنة المركزية و3 جرحى في "المعلا"، أما الباقي، فهم من ضباط الجيش ومن الجنود ومن الحزب؛ لأن "كل واحد يعرف الثاني". أما المواطنون، فلم يتضرر أحد منهم، وهنا فارق بين ما كان يجري في الجنوب وما يجري في الشمال. معارك الشمال كانت تؤدي إلى قتل الناس، ومعارك الجنوب كان الحزب فيها يقتل بعضه بعضا.

كانت الحروب الأهلية في الشمال أوسع نطاقا مما يجري في الجنوب؛ رئيس وزراء في صنعاء يقتل مواطنا بقضيب حديد. نائب رئيس الجمهورية محمد حسن الرعيني يعدم في صنعاء. الإمام يحيى يقتل. الإمام أحمد يقتل. الإمام البدر يخلع. الحمدي يقتل والغشمي أيضا. الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين أدت إلى سقوط مئات الآلاف. الحرب الأهلية في المناطق الوسطى عشرات الآلاف من الضحايا. ضحايا الصراع في الجنوب أقل وأكثر حضورا في وسائل الإعلام. 

كان الصراع مثيرا وينعكس بصخب في الخارج؛ لأنه داخل الحزب الواحد وهو ما زال مثيرا؛ لأن الحزب يُعتبرُ مهزوما والثقافة العربية تميل دائما إلى إدانة الضحية. عانت اليمن من العنف ألف عام ولم يحدث انتقال سلمي للسلطة، ولذلك حان الوقت لتحيا اليمن حياة سعيدة عبر إدانة ثقافة العنف والتخلي عن الحروب، وأن نرمي الكلاشنكوف جانبا ونتجه إلى أدوات الحراثة والقرطاس والقلم. هذا الذي ينقذ اليمن من مآسيها.

 

اقرأ أيضا: القائد الاشتراكي اليمني الذي كان سيطلق سراح قاتله لو بقي حيا

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: عقلانية المعتزلة مهدت طريقي إلى الماركسية

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: هكذا تم إنقاذ الجمهورية في اليمن من السقوط

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: شاهدت قرار اغتيال الغشمي بأم العين

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: الإمام البدر فتح أبواب اليمن على العالم

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: هذه القصة الكاملة لنهاية عبد الفتاح إسماعيل