قضايا وآراء

بائع الأوهام

1300x600

"أنا آخر شخص بترك لبنان".. هذه كانت آخر كلمات ميشال عون في مؤتمره الصحفي في قصر بعبدا بتاريخ 12 تشرين الأول/ أكتوبر 1990 وبعد ساعات شنّ الجيش السوري حربا ضروسا على قصر بعبدا من أجل تطبيق اتفاق الطائف، فكان ميشال عون أول من هرب وترك جنوده وضباطه وعائلته تحت رحمة الجيش السوري. وكانت حصيلة الهجوم مقتل العديد من العسكريين الذين وثقوا بقائدهم، ولكن قائدهم باعهم تحت جنح الظلام ولجأ إلى السفارة الفرنسية ومنها إلى باريس، حيث مكث لخمسة عشر عاما تاركا أنصاره وجنوده وعائلته تحت رحمة الجيش السوري.

ومن باريس، وتحديدا من منزله الفاره، أكمل ميشال عون معارضته للسوريين ولاتفاق الطائف، ولكن مع اغتيال رفيق الحريري عاد عون إلى لبنان عودة الفاتح المنتصر الذي حارب طواحين الهواء، وأعلن إنشاء تياره وأسماه التيار العوني الذي شارك في الانتخابات النيابية تحت عنوان "الإصلاح والتغيير"، وتحالف مع حزب الله (الذراع الأيمن للنظام السوري في لبنان)، وهذا التحالف أوصل عون لسدّة الرئاسة.

من طلب الرئاسة باع مبادئه وكرامته عند أول عرض للوصول إلى القصر، وهذا الذي حصل مع عون، فالمعادلة كانت كالتالي: يغض عون النظر عن سياسات الحزب الخارجية ومنها غوصه في المستنقع السوري واليمني، وفي المقابل يحمي حزب الله عون بسلاحه الذي يوجّهه إلى صدور اللبنانيين المعارضين لفساد ميشال عون وسلاح حزب الله..

هذا الحلم الذي لطالما دغدغ ميشال عون للوصول إلى قصر بعبدا أصبح حقيقة، وبدل أن يكون رئيسا لجميع اللبنانيين أصبح دمية بيد حزب الله. والغريب أن عون اعتبر نفسه منتصرا وفاتحا لقصر بعبدا، ونصّب نفسه حاميا للمسيحيين. فهذه العقلية التي دمّرت لبنان خلال الحرب الأهلية ما زالت مترسخة في عقله الباطني، ولكن جزءا كبيرا من المسيحيين لا يعتبرونه حاميا لهم، فهو لم يقدر ولو للحظة من اللحظات أن يحمي نفسه وعائلته، فكيف به أن يحمي طائفة بـأكملها؟ ولكن جنون العظمة أفقد عون شخصيته وواقعيته، فتحول إلى دمية تستقبل هذا النائب أو ذاك الوزير بدل استقباله رؤساء الدول.

فكيف من الممكن أن تأتمن شخصا على وطن وهو خسر كل حروبه ورهاناته السياسية؟ حتى تحالفه مع حزب الله أصبح في مهب الريح عندما رفض الحزب تهيئة صهر عون "جبران باسيل" لرئاسة الجمهورية في الدورة المقبلة، فبدأ بشد العصب الطائفي وبدأت المشاكل الزوجية بينهما.

فأبواق التيار العوني لم يعد يعجبهم تدخل الحزب في الحرب السورية، وهم بهذه الطريقة يحاولون استمالة فئة كبيرة من المسيحيين الرافضين لتدخل الحزب الخارجي. ولكن المؤمن لا يلدغ من الجُحر مرّتين، فمن عرف عون قديما ووضع ثقته به كقائد، من المستحيل أن يعطيه صوته في الانتخابات القادمة بسبب ما رآه منه من فساد وبطش وقمع وتفجير وتهجير.

فعون كان يعتمد سياسة "حتى تتمكن من السيطرة على الشعب اجعله يعتقد بأنه هو سبب تخلفه"، فعند أي مشكلة مالية أو سياسية كان عون يضع اللوم على الشعب، الشعب الذي انتفض وتمردّ عليه، وأعلن عصيانه ونزل إلى الشارع في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 رافضا فساد الطبقة السياسية من دون استثناء، وطالب برحيل عون، عندها لجأ عون إلى حليف السلاح الذي قمع الثائرين داخل مناطق نفوذه وأرسل القوى الأمنية ومرتزقته إلى المناطق التابعة لعون لقمع المتظاهرين والثوار. فعلاقة عون بحزب الله كانت كعلاقة الزوج بعشيقته، يرفضها علنا، ويطلبها سرا، ولكن ما بُني على باطل فهو باطل.

وهذه العلاقة أوصلت لبنان إلى الحضيض، إن كان أمنيا أو سياسيا أو اقتصاديا، وكل هذا والأمير النائم في بعبدا غافل عن مآسي الشعب اللبناني، كأنه رئيس لدولة لا وجود لها. فعون هو سجين، والسجن ليس سورا أو سياجا؛ فقد يكون فكرة أو حلما. وعون هو سجين حلمه بالوصول إلى قصر بعبدا، فالزمن توقف عند وصوله إلى الرئاسة وطبّق مقولة: من بعدي فليكن الطوفان. ولكن لكل زمن دولة ورجال،، وشباب لبنان المستقلون سيلفظون عون وحاشيته، فمن لا يؤمن بالحرية والكرامة لا يؤمن بالعقل وبالتالي لا يؤمن بالإنسان.